أحببتُ الشّاعر اليمني (محمد محمود الزبيري) وكتبتُ عنه كثيراً، وأفردتُ له مبحثاً في كتاب “شعراء في مواجهة الطغيان”! وقد شاركتُ في الندوة الأدبية -بعاصمة الضباب- التي خصّصتها الجالية اليمينة بمناسبة ذكرى رحيله، كما استمتعتُ بمناقشة رسالة دكتوراه عنه بكلية تشرشل للفنون والآداب بجامعة لندن!
فليس “الزبيري” شاعراً فحسب، ولا هو مناضلاً فحسب، بلْ هو صحفي، وزعيم وطني، وروائي، وكاتب … وشهيد!
يقول الزبيري: “ومهما يكن الأمر؛ فإنَّ الحقيقة الواقعة أنّ الشّعر هو الذي أخرجني من القمقم، وقادني إلى غمار الحياة الواسعة الزاخرة بالمفارقات والمتناقضات”، ويقول مخاطباً الشعر:
حمّلتني آلامها ودموعها
ومنعتَ عنّي وصلها ومنعتها
ناديتُ أشتات الجراح بأُمتي
فجمعتها في أضلعي وطبعتها
ما قال قومي: آهٍ.. إلاّ جئتني
فكويتَ أحشائي بها ولسعتَها
شاعرنا “محمد الزبيري” المعروف بــ(أبو الأحــرار) بدأ حياته في السياسة وهو طالب في كلية دار العلوم بالقاهرة، وعاد إلى اليمن حاملاً مشعل التنوير من خلال جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أسّسها بعد عودته، فكان جزاؤه السجن، ثمّ الفرار إلى “عدن” عاصمة الجزء المحتل من البلاد آنذاك، وقد نجح مع بعض رفاقه في تكوين أول عمل صحفي من نوعه للتعريف بالأحوال في مملكة الإمام يحيى، وفي دعوة المواطنين إلى الثورة، والقضاء على ذلك النظام العتيق، وقد نجحت الدعوة وأثمرت في الإطاحة بالإمام يحيى. كما عاش الزبيري حيناً من الدهر بين الغربة والتشرد، يبكي مصرع الرفاق ويُهدهد الحنين إلى الوطن، ويُحرّض الثوار بشعره ونثره.
هكذا تقلّبت الحياةُ بالزبيري من شاعر إلى صحفي إلى وزير، إلى مهاجر، إلى زعيم سياسي، وهو في كل موقف منها ذلك الوطني الجسور والثائر الزاهد، حتى توّج حياته المتنوعة النضال بالشهادة، حين استقرت رصاصة غادرة في قلبه الكبير لتضع حداً لطموح شاعر كبير، ولتحقّق حلماً قديماً ظل يراود الشاعر:
بحثتُ عن هِبَةٍ أحبوكَ يا وطني
فلمْ أجد لكَ إلاَّ قلبيَ الدامي !
كان “الزبيري” يتألّم ممّا يراه من تقديس الشعب لحكّامه الجبابرة، في الوقت الذي كان فيه يرثي فئة من المجاهدين الذين نالوا الشهادة في مصادماتهم مع السلطة، حتى تمنّى أن يلحق بهم، يقول في كتابه (ثورة الشعر): “إن الشعب كله كان يقدّس هؤلاء الحكام، وكان كل من يملك شعراً أو نثراً لا يكاد يقدمه إلاَّ مدحاً للإمام أوْ نجله، وليس هناك فرق بيننا، وبين الكثيرين إلاَّ أننا تغيّرنا ولم يتغيّروا، وثُرنا ولم يثوروا، وقدمنا حياتنا وشبابنا قرباناً في سبيل الحق، ومن أجل الشعب مع نفر قليل من زملائنا وشهدائنا، فإنْ كنّا لم نلاقِ مصيرهم فلم يكن ذلك لأننا أحرص على الحياة أو أبعد عن خطوة الموت أو أقل حظاً من الوفاء للشعب ولكنه سر الأجل العجيب، الذي جنّبنا مصيراً كمصير الشهداء ربما لكي نستطيع أن ننتصف لهم، أوْ نتمّم رسالتهم ونحيا في سبيل الله وسبيل الشعب الذي ماتوا من أجله، فنرثيه لمصرعه ونبعثه من مرقده:
ما كنتُ أحسبُ أنّي سوف أرثيه
وأنّ شِعري إلى الدنيا سينعيه
وأنّني سوف أبقى بعد نكبتهِ
حياً أُمزّق روحي في مراثيه
فإنْ سلمتُ فإنّي قد وهبتُ له
خلاصة العمر، ماضيه، وآتيه
وكنتُ أحرص، لو أنّي أموتُ له
وحدي فداءً ويبقى كل من فيه!
لكنه أجلٌ يأتي لموعدهِ
ما كلُّ مَنْ يتمناه ملاقيه
وليس لي بعده عمرٌ، وإنْ بقيت
أنفاس روحي، تفديه، وترثيه
فلستُ أسكن إلا في مقابره
ولستُ أقتاتُ إلاَّ من مآسيه!
وما أنا منه إلاَّ زفرة بقيتْ
تهيم بين رفاتٍ من بواقيه!
يمضي الشاعر (أبو الأحرار) قائلاً: “وانتهت تجربتنا مع السيف أحمد ولي العهد إلى النهاية التي انتهت إليها تجربتنا مع أبيه الإمام يحيى .. وبذلك تمت عناصر اليقين الثوري، الذي يفرض علينا أن ننفض أيدينا من كل أمل في الوصول إلى تغيير الأوضاع تغيّراً سلمياً بأيدي الحكام. وقد أسلمتنا هذه التجربة إلى أمريْن لا ثالث لهما: فإمّا أن نرضخ، وندفن رؤوسنا في المقبرة الموحشة التي دفن فيها الشعب، وندخل فيما دخل فيه الأكثرون .. فنأكل الجيف، ونمتص الدماء، ونعيش كما تعيش الدود في القبور .. أوْ نثور .. وآثرنا الأشق الأصعب .. ولكنه الأشرف .. وتمرّدنا .. وأنشدنا:
خرجنا من السجن شُمَّ الأنوف
كما تخرج الأسْدُ من غابها
نمرّ على شفرات السيوفِ
ونأتي المنيّة من بابها
ونأبى الحياةَ إذا دُنّستْ
بعسْفِ الطغاة وإرهابها
ونحتقر الحادثات الكبار
إذا اعترضتنا بأتعابها
ونعلم أنّ القضا واقعٌ
وأنّ الأمور بأسبابها
ستعلم أُمتنا أننا
ركبنا الخطوبَ حناناً بها
فإنْ نحنُ فُزْنا فيا طالما
تذِلّ الصّعابُ لطلابها
وإنْ نلقَ حتْفاً فيا حبّذا
المنايا تجيء لخُطّابها !!
رحم اللهُ (أبا الأحرار) وكل أحرار العالَم… ونسأله –سبحانه- أن يجعلنا أوفياء لمسيرتهم، والسير على طريقهم!