إن قضايا المجتمع والتربية الفردية والاجتماعية وقضايا الاقتصاد، لا تباشَر إلا من خلال منظور أخلاقي، حيث تتداخل القيم الأخلاقية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية لتكوِّن “منظومة قيمية” خالصة لا بد منها لتنمية المجتمع وتحقيق التقدم، لأن القيم الأخلاقية كانت دومًا أمرًا مطلقًا في كل سلوك فردي أو مجتمعي يُدعى الإنسان إلى الالتزام به، لا سيما في عصرنا الحاضر، وجب علينا البحث في موضوع الأخلاق في ضوء الرؤية القرآنية، وكيفية تأسيس علوم إنسانية واجتماعية جديدة ترتكز على مرجعية قيمية واضحة في ارتباط مع الدين والواقع للكشف عن كونية القيم الأخلاقية باعتبارها مشترك إنساني أساسي في تنمية المجتمع، لأنها تمثل الجانب المعنوي والروحي، والجوهر الأساس الذي تقوم عليه الحضارة الإنسانية.
دور القيم الأخلاقية في تنمية المجتمع
فالإنسان جسد وروح، ظاهر وباطن، والقيم والأخلاق تمثل صورة الإنسان الباطنية، التي محلُّها القلب، وهذه الصورة الباطنية هي قوام شخصية الإنسان، فهذا الأخير لا يُقاس بطوله وعرضه، أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾)الحجرات:13(، ويقول النبي ﷺ: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُم وَأَمْوالِكُم، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُم وَأَعْمَالِكُم)[1]. فالأخلاق لها أثرٌ كبيرٌ في تنمية سلوك الفرد والمجتمع، لما تزرعه في نفس صاحبها من الرحمة والصدق والعدل والأمانة والعفة والتعاون والتكافل والإخلاص والتواضع والألفة… وغير ذلك من القيم الحميدة والأخلاق الفاضلة التي تدفع الفرد إلى اتخاذ مواقف إيجابية والمبادرة لتحقيق النفع الخاص والعام. فقد خلق الله عز وجل الإنسان وزوده بغريزة طلب المعاش، وبِسِراج العقل يهتدي به إلى أسباب معيشته وصون حياته وسبل تقدّمه. فهو مدني بطبعه، وهذه المدنية الإنسانية تفرضها حاجة الأفراد بعضهم للبعض الآخر في أمورهم الحيوية الضرورية. لذلك فهو مرهون بطبيعة الروابط الاجتماعية، وبما ينشأ عن هذه الروابط من التعاون على البر والتقوى، والتعاضد في هيئة الاجتماع. لذلك فإن رابطة الاتحاد الاجتماعية تظل الركيزة الأساسية لتنمية المجتمع وترقيه إلى التمدّن الحضاري، حيث تتمثل في “إيقاظ الهمم وانصرافها نحو الأسباب التي تخوّل نوال التقدم بالعلوم والمعارف والفنون والصنائع”[2]. ونجد عدة نظريات في أصل تنمية الاجتماع البشري، منها من تعتبر التمدن احترازًا للعلوم والمعارف. ومنها من تجعله أصلًا إلهيًا، يربط روادها التمدن بأمرٍ ديني متعلق بخلق الإنسان نفسه، لأن الإنسان خُلق لعمارة الأرض وحسن السير في مناكبها، ليكون خليفة الله في الأرض، فالدين الإسلامي مثلًا يدعوا إلى التركيب بين علوم الدين وعلوم الدنيا، في تكامل وتفاعل تام، كمنطلق علمي ومفتاح حضاري للرقي بالمجتمع، باعتبار كل واحد منهما يشكل نسقًا معرفيًا ومنهجيًا للقراءة الصحيحة، لبيان تفاعلية الوحي الإلهي المطلق مع الواقع الإنساني، بمنهج مقاصدي لبناء نظريات تكاملية تجمع بين الفكر العلمي والفكر القيمي الأخلاقي لمعالجة قضايا الإنسان المتعددة وبناء حضارة راشدة. فكل ترقٍّ يحصل في العالم، وكل خطوة تخطوها العقول في سبيل الكمال والارتقاء بحالة الإنسان المادية والأدبية معًا، تستطيع النفس أن تعرج من خلالها إلى ما أُعِدَّ لها من مقام العلاء. والمُدْرِك لحقيقة الإسلام يجد أنه لا يعارض التقدم والنماء في البحوث العلمية والصناعات والاكتشافات، بل يحثُّ عليها ويندب إليها، ويؤاخذ المتقاعسين عن عدم الأخذ بالأسباب وعدم مجاراة غيرهم فيها. لذلك كان بحث فلاسفة العرب الدائب عن مذهب عام يوفق بين مطالب الجسم والنفس توفيقًا عادلًا، لم يكن إلا من جهة كونه تأكيدًا لهذه النزعة الأصيلة في الرؤية الإسلامية. يقول أبي حامد الغزالي: “فإن آداب الظواهر عنوانُ آداب البواطن، وحركات الجوارحِ ثمراتُ الخواطرِ، والأعمال نتيجة الأخلاق، والآداب رشْحُ المعارفِ، وسرائر القلوب هي مغرسُ الأفعال ومنابعُها، وأنوار السرائرِ هي التي تشرقُ على الظواهرِ فتزيِّنها وتجلِّها، وتبدِّلُ بالمحاسن مكارهَها ومساويها، ومَنْ لمْ يخشعْ قلبُهُ… لمْ تخشع جوارحُهُ، ومن لم يكنْ صدرُهُ مشكاةَ الأنوار الإلهيَّةِ… لمْ يفضْ على ظاهرهِ جمالُ الآدبِ النبويّة”[3]. فلا يكاد ينتظم أمر الاجتماع كمال انتظامه، ما لم تكن مكارم الأخلاق غالبة على جمهورها؛ وسائدة في معظم تصاريفها وأمورها، لأن مكارم الأخلاق هي تزكية النفس الإنسانية وتطهيرها بإدراك الفضائل وتمييزها عن الرذائل الملتبسة بها، وحمل النفس الإنسانية على التزام الآداب التي تقودها إلى عمل الصلاح والإصلاح برسمهم خطط المصالح التنموية، وسن القوانين الملائمة لأحوال الناس، وبلوغها إلى أقصى الفضائل المكنونة في فطرتها.
دور القيم الأخلاقية في بناء الحضارة
إن المقياس العام في عملية التنمية والتقدم هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها، وإن الذي يكرس منتجات الحضارة لا يصنع حضارة ولا يمكن أن يصنعها، فإنه من السّخف أن ننشئ حضارة بشراء منتجات حضارات أخرى، فصناعة الحضارة إمكان ذاتي ينطلق من الذات. فهي عبارة عن “مجموعة من العلائق بين المجال الحيوي حيث ينشأ ويتقوى هيكلها، وبين المجال الفكري حيث تولد وتنمو روحها”[4]. فهي تقوم على تجربة مخططة منبثقة من الواقع الاجتماعي وخاضعة لمناهج علمية مستفادة من الدراسات والتجارب التي أجريت على هذا الواقع الإنساني. وفي رأي مالك بن نبي أن أول واجبات العالم الإسلامي بإيزاء الفوضى الضاربة في كل مكان أن يقطع المسافة التي تفصله عن التقدم المادي، وذلك على أساس تخطيط منظم وواع بجميع وجوه مشكلة التقدم المادي هذا، فلا يوجد تشريع أو قانون قادرٌ على توجيه الحضارة وجهتها الصحيحة إلا الإسلام، بفضل توجيهاته الربانية، وقيمه العُليا، وأخلاقه الحميدة. فالمنهج الإسلامي يحثُّ على العلم والتعلم، ويدعو إلى بناء حضارة علمية قوية، فقد أبدع علماء الإسلام في العلم التجريبي، حيث لا تزال إبداعاتهم مرجعًا يهتدي به الباحثون في تلك العلوم وفي مختلف الحقول المعرفية المتعلقة بها، منهج استقوه من نظرة الإسلام التكاملية للوحي والإنسان والكون، فكان لهم بذلك السبق العلمي، قبل أن ينتقل إلى الغرب، هذا ما أكده (كريستوفر دوسن،christopher dawson ) في كتابه “تكوين أوربا” أن الحضارة الغربية نمت وترعرعت في ظلال الحضارة الإسلامية لا البيزنطية وأنها هي التي ساعدت أوربا على استعادة واسترداد نصيب من تراثها اليوناني العلمي والفلسفي. فدعوة الإسلام في جوهرها دعوة إلى التقدم والرقي بالإنسانية إلى أسمى مراتب التحضُّر، تقدُّمٌ طبيعيٌّ ينسجم وفطرة الإنسان، بخصائصه الواضحة المعالم؛ فكريًا ووجدانيًا وسلوكيًا، ذات طابع اجتماعي، في محاولة لنقله من دائرة التصرّف الغريزي إلى دائرة التصرّف الإنساني الراشد. فقد اتفق معظم المفكرين على أن إصلاح ضمير الفرد وبناء عقيدته العقلية بمكارم الأخلاق، هو الطريق المستقيم لبناء المجتمع، بقيم إيجابية تعكس فعاليات بناء أخلاقي إيجابي، حيث ينجم عن الإصلاح العقلي والأخلاقي للفرد إصلاح للمجتمع برمته. لذلك كانت للأخلاق مكانة عظيمة في الإسلام، حيث اعتنى القرآن الكريم بالجانب الأخلاقي عناية كاملة، وأثنى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز على رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لحسن أخلاقه وأخذه بمعالي الأمور وتركه سفاسفها، واختياره أيسر الأمور وأحسنها، فقال الله تعالى لنبيه الكريم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ٤﴾)القلم: 4(. هكذا يُعَلِّمنا الإسلام بتشريعاته الربّانية، وسلوكياته الرفيعة أن الصفات الأخلاقية الحميدة تُكسِب أهلها الاحترام والمودة، وتجعلهم أهل المكانة العالية في الدنيا والآخرة. فالمتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها تدعوا إلى صفوة الفضائل الأخلاقية التي تبني الإنسان السوي المعتدل المتوازن، وتُنمي فيه الطاقات الإيجابية، وتعزّز إنسانيته وكرامته؛ حيث تجد القرآن الكريم يخاطب القلوب ويجول في خفايا النفوس، خطابًا يُصلح حالها ويأخذ بها لبلوغ السعادة الدنيوية والآخروية.
[1] رواه مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم ظلم المسلم، رقم:2564. [2] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، الطبعة الثالثة ـ 1988م، دار الشروق، الهيئة العامة لمكتبة الاسكندرية، ص: 399. [3] أبي حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الطبعة الأولى: 1432هـ/ 2011م، دار المنهاج ـ جدة ـ السعودية، ، ج: 4، ص: 709. [4] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ص: 418.