عندما يعيش الإنسان ضمن عدة مبادئٍ وقيمٍ في هذا العالم الممتلئ جداً بتغير المبادئ والقيم سقوطاً لا قاع له، فيقع ضمن خيارين مرّين لا ثالث لهما إما التغيير سقوطاً أو الاستمرار على ما هو عليه، علماً أن السقوط له امتيازات جمّة تصل حتى الرفاهية في كافة جوانب الحياة، وعلماً أيضاً أن الاستمرار مكلف جداً وخاسرٌ، فيُخيِّر نفسه ضمن هذه الحتمية، فإن اختار السقوط فالنتيجة مؤسفةٌ على المدى النهائي، وإن اختار الاستمرار فالنتيجة ربما تكون خاسرةً أكثر على المدى الدنيوي، فلا يجب عليه إلا التفاؤل بوجوده في الحتمية الخاسرة على المدى الدنيوي ليُحصِّلَ المكسب النهائي ألا وهو النجاح رغم خسارة كافة الامتيازات قطعاً، وهنا لا أقول إلا أن المتفائل هو سيد هذا العصر بلا منازعٍ.
كيف يكون المتفائل هو سيد هذا العصر بلا منازعٍ؟
- المتشائم الشجاع: هل يكفي في هذا العالم أن يكون الإنسان ثابتاً شجاعاً لا يهاب المنايا ولكنه متشائمٌ؟ فرغم أنه شجاعٌ لا بدَّ أن يتشاءم في كل عملٍ هو صانعه، فيمنعه تشاؤمه من صفة الشجاعة بسبب توقعه لأمورٍ قد تؤدي إلى عدم ثباته على رأيٍ ما أو مبدئٍ ما، بتفكيره بالعواقب المترتبة على هذه الشجاعة فيحول التشاؤم بينه وبين الرأي أو المبدئ أو الموقف، فلا يستطيع رغم شجاعته من قول الرأي أو فعل الموقف او الثبات على المبدأ فالمتفائل الشجاع خيرٌ من المتشائم الشجاع.
- المتشائم الصادق: على الرغم من وجود صفة الصدق النبيلة لدى الإنسان، إلا أن المتشائم فيها لابدّ أن يكون حاجزاً مانعاً في موقفٍ ما عند فعل الصدق، فيترافق التشاؤم مع الصدق فلا يجرؤ المرء على قول الصدق خوفاً من المترتبات التي فكر بها بسبب تشاؤمه، فالمتفائل الصادق خيرٌ من المتشائم الصادق.
- المتشائم الكريم: سيكون التشاؤم إن صُحب مع الكرم شحاً في موقفٍ ما، رغم اشتهار الكريم بكرمه خوفاً من التفكيرات أو الوساوس، بناءً على تجاربٍ سابقةٍ قد كان كريماً فيها وقد أحس أنه باتخاذه لقرار الكرم أنه احتاج لما أعطاه بعد العطاء، فالمتفائل الكريم خيرٌ من المتشائم الكريم.
- وكذلك نقيس على المتشائم الذكيّ والمتشائم الصبور والمتشائم الحليم والمتشائم القويّ وغيرهم.
فالقاعدة التي يجب أن يركز عليها الإنسان خلال سعيه، هي التفاؤل في جميع المساعي، وأن يكون على بصيرةٍ أن لكلّ قاعدةٍ شواذ وشواذ هذه القاعدة أن يكون التشاؤم مبنياً على وقائع لا هلاوس أو تفكيراتٍ خلبيةٍ مصدرها وساوس الشيطان، ومنه نجد أن المتفائل في الوقائع والحقائق وما بَنى عليه العقل استنتاجه من خلال المتواتر أو الخبرة هو تفاؤلٌ لا تشاؤمٌ، فالتشاؤم هو وسواسٌ مانعٌ لكلِّ خيرٍ أو عملٍ صالحٍ، فيكون المتفائل الذي يبقى على المبدأ ثباتاً ويمنعه تفاؤله من اتخاذ الموقف الخطأ باعتبار المقاييس المشروعة ضمن الدين هو سيد هذا العالم بلا منازعٍ بل أقوى من كل المناصب وأقوى ممن ادعو أنهم من سادو هذا العالم بالظلم والطغيان والجبروت والحديد والنار.
والخلاصة من كل ذلك: تكون بقدر ما يوقن به الشخص أن النهاية في كل الأمور تكون ضمن مشيئة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وعندما يوقن الأنسان بها يقيناً بقلبه بوجود الحساب يوم القيامة سيعيش في هذه الدنيا متفائلاً تفاؤلاً يقينياً، وإن كانت المصائب تتوالى عليه تترا، فمثلاً إن وقع على الإنسان ظلمٌ ما ولو من إنسانٍ اقلَّ منه بكلّ شيءٍ وعانى المظلوم من كل أنواع الظلم، فتارةً يهادن ولا يسلم وتارةً يتلافى ولا يسلم وتارةً يبتعد ولا يسلم وتارةً يأخذ بكلّ الأسباب الممكنة ولا يسلم من ظلم الظالم، فإن كان يقينه أن حساب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ محققٌ لا محالة، سيعيش بكلّ هذه المدة المرافقة للظلم عزيزاً متفائلاً لا يخشى في الله لومة لائمٍ.
حسن الظّن بالله
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال النبي – ﷺ – : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبرٍ تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) رواه البخاري ومسلم .
ألا يكفي هذا الحديث القدسي برهاناً على ان المتفائل هو سيد هذا العصر بلا منازعٍ.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي ﷺ يعجبه الفألً الحسن ويكره الطيرة.
يفسر لنا الحديث القدسي والمنهج النبوي دليلاً شاملاً يجب الأخذُ به بالنواجذ في هذا العالم السيء السمعة، حيث تسيّدَ الانذالُ وأتومن الخونة وكُذِّب الصادق وخُون الأمين، فإن سار الإنسان على نهج ما سبق لن يشعر بالتشاؤم ابداً، حيث أن مشكلتنا مع التشاؤم تتفاقم شيئاً فشيئاً، فحيث ما ورد الإنسان المجالس وأماكن الصحبة يجد ـن التشاؤم قد بلغ مبلغاً كبيراً في كافة الأحاديث، بل ويلام المتفائل ويؤخذ منه الحذر ويُتّهم بأنه عاطفيٌّ ولا يبالي بما تأتي به الأيام وهذا والله أمرٌ جللٌ يجب تداركه وخصوصاً أن المتهم الأول هو من يسعى في طلب الرزق الحلال.
ضمان الجنة
توجد شبهةٌ متداولةٌ في أواسط ضعيفي الإيمان ومحبي الشبهات وهي: أن الرعيل الأول والصالحون والأنبياء كانوا على تماسٍ مباشرٍ مع المعجزات ومع النصر والاطمئنان واليقين بتأييد الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لهم فتفاءلوا واحسنوا الظنَّ وكان يصبرون على مصاعب الحياة وخذلان القريب والبعيد وأنهم ضمنوا الجنة بأعمالهم، فأين نحن من هؤلاء الصالحين الموقنين بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ ونحن لا نضمن ريح الجنة قالوا، فإن كنت يا صاحبي ممن يفكر هكذا، فلا ضير من تدريب القلب على ما واجهته من صعابٍ سابقةٍ وحُلَّت وكنت تحسبُها لا تُحلُّ، فتذكر كم من مرةٍ أنجاك الله ـ عزَّ وجلَّ ـ من خطوبٍ محققةٍ وأخرجك منها وأبعدها عنك، وإن كنت تقول أنك لا تضمن الجنة، فخذْ بالأسباب التي تجعلك من أهل الجنة، فصبرك على المعاصي اصرفه بصبرك على الطاعات، وابتعد عن الحرام واقترب من الحلال، فإن عملت كل ذلك فهل الله العدل الحقُّ سيضيّع لك ما عملته في سبيله؟ حاشا وكلّا.
لا بد من وجود التشاؤم
التشاؤم المحمود هو: تشاؤمٌ مبنيٌّ على ما خَبرهُ العقل من أخطاء الماضي لتلافيها مستقبلاً أو ما سمعه الإنسان ممن وقع به غيره من أخطاءٍ، فيجعله هذا الاستنتاج متشائماً، وكما قيل السعيد من اتعظ، فمن هنا نجد أن هذا التشاؤم الذي دفع الإنسان إلى اتخاذ قرارٍ للابتعاد عن الخطأ والمهالك محموداً، ولا بدّ من وجوده في حياة الإنسان ليبقى سعيداً متعظاً متجنّباً ويصل به إلى برِّ الأمان مع عدم المساومة على المبادئ والقيم والشرائع، فهذه حال الدنيا لمن علم خبرها، واستدرك ما فيها وتعلم من العيش بها.
أنا متشائم جدا
لا تظن أن صاحب هذا المقال هو بطلٌ حائزٌ على الميدالية الذهبية في التفاؤل، بل إنه حائزٌ على الميدالية الذهبية في التشاؤم، ولربما ان ما مرَّ به من ماضٍ بالعيش الرغيد ثم انقلب العيش الرغيد على عقبيه وبات يعاني من مصاعب الحياة ما لا يطيقه من وجهة نظره، إلا أن ما سبق يدور في خاطره صباح مساء، وأنه يحاول كل يومٍ أن يتفاءل ولا بأس من المحاولة، فإنّ هذا عملٌ وسعيٌّ {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} التوبة/105، فأنا متشائمٌ جداً من هذا الحال الذي وصلنا إليه من تكذيبٍ وتخوينٍ وعلوِّ العبيد على الأسياد، والكلاب على الأسود، وهنا لا يسع الكاتب إلا السعي ويتوكل على الله حتى يُحدث الله بعد ذلك أمرا.
أنا مسرورٌ جداً ومتفائل
بعد كل هذا التشاؤم الذي يمرُّ به صاحبكم، فعلاً لا قولاً، سلوكاً لا اعتقاداً، وإن بقي التفاؤل مسيطراً على داخله فقط، فيعود ذلك من يقينه بيومٍ سيطَّلعُ فيه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بعد نفخة الصعق من ملك الصور على الدنيا ويقول: يا دنيا أين أنهارك أين أشجارك وأين عمارك؟ أين الملوك وأبناء الملوك ؟ وأين الجبابرة وأبناء الجبابرة؟ أين الذين أكلوا رزقي وتقلّبوا في نعمتي وعبدوا غيري لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد فيرد الله عز وجل فيقول: الملك للواحد القهار …