عندما تقتني كتابا عشقت عنوانه وأدمنت مؤلفه، تهرول بكل ما أوتيت من حماس للبحث عن العتبة الأولى التي تفتح آفاقك حول ما تحمله الصفحات القادمة من نظريات وأفكار، تلك المنصة الأولى التي تأخذ بيدك لترحب بك في ظل ما يعتريك من غموض وترقب، تخفف الوطء، تمتص الدهشة، تريح النفس وتزيح اللبس.. أظن أننا نقصد ذات الأمر.. إنها المقدمة.
والناظر في أحوال الناس يجد أن تلة لا بأس بها تعيش في دائرة “قلت لك أول مرة..”، جاعلة منها أداة للتنقيب عن الحقيقة وسلما لارتقاء الصواب، ثم لا يلبث هؤلاء حتى يكتشفوا أن الزمان ولىّ في الوقت الذي كانوا يحاولون فيه ممارسة الحياة، فتتضح الهوة على شساعتها، وتظهر الحقيقة بجلائها وقوتها، ليكتشف المرء عندها أن الأمر لم يكن سوى خدعة غلفها اليقين بثوب الظنون.
لا يمكن لأي منا نكران الشرارة الأولى لكل أمر عايشناه كيفما كان نوعه أو لونه، ولذلك قالوا قديما “أصعب الأمور بداياتها”، البداية التي لا يمكن لك نكرانها أو الهروب عنها أو حتى التملص منها، ترافقك كطيف أينما حللت وارتحلت، تثبت نفسها عند كل موقف وفي كل نقطة تحول، فالصعوبة لا ترتبط هنا بالبداية مباشرة؛ وإنما تلتصق بالاستمرارية في تحمل تبعات اللحظة الأولى، والتي يمكن أن نسميها هنا “بداية”.
الأمر هنا لا يختلف عن الطفل الذي يخوض تجربتة الأولى مع المشي، يتحسس الأرض، يتأمل خطواته الأولى، يرفع بصره للأعلى ليدرك أن حواره مع الأرض يسع السماء كلها، يقاتل من أجل إخراج حرفه الأول الذي يثبت وجوده، يصارع لضبط سمفونية ضحكته الأولى، وتستمر حربه البسيطة مع مقدماته الصغيرة التي ستشكل كينونته فيما بعد.
مقدمة كل أمر، وبداية كل حدث، توطئة المواقف وإشراقة التجارب، هي التي ترسم تواجدك في هذه الحياة، تشكلك تدريجيا لتصقل عملك وتعلي سقف حكمتك التي تمنع عبثيتك فيما بعد، فكل مقدمة عشتها أو ستعيشها، حسنها وقبيحها.. جميلها وسيئها، ستساهم بشكل أو بآخر في رسمك شيئا فشيئا، لتعيد بنائك مع قليل من الهدم، وتأكد أن كل مقدمة ظننتَها يوما طريقا للنجاح ولم يجنح الأمر؛ لهي لحظة تاريخية بإمكانك أن تجعل منها خَيطا دقيقا يقودك للصواب.
إن جوهر الحياة يكمن في استثمار المقدمات لبناء النهايات، وليس في ترقب خواتيم الأمور بقراءة سطحية لبداياتها، فيتشوه بذلك مفهوم البناء ويرتفع سقف التوقعات المفرغة من طعم الحقيقة، حينها يطفوا اللاتوازن على السطح، وتنتشر الإسقاطات على تنوعها، وأشهرها “ألم أقل لك أول مرة..”، فتكون بذلك جدارا سميكا يمنع من رؤية حقيقة الأمر ليكتفي بطلامية المواقف، فلا يكون حينها إلا كالذي يعلم نهاية الأمر منذ بدايته، ويأبى إلا أن يقتحم صرح التجربة بكل غرور.
عند كل أمر يواجهك، تعلم من أولئك الذين لا يتعلمون، اقتبس من جهلهم نور حكمتك، ومن سلبيتهم ضياء إيجابيتك، تعامل بالذكاء لا بالقوة..
اجعل من كل خاتمة مظلمة مقدمة بيضاء..
عند كل فكرة مظلمة تهمس بداخلك أن الأمر قد انتهى، أخبرها أنت الآخر بأن الفرج ينبلج من ثنايا الأزمات..
حينها ستكون مدينا لكل أمر طننته خاتمة يوما، وأخبرتك الأيام فيما بعد بأنه مقدمة جميلة لاستشراف المستقبل وحسن التوكل على الله.