إن للخطاب الديني شأنًا عظيمًا ومكانة سامية في تلبية حاجات الأمة، ولا يقل خطره وضرره قدرا عن شأنه وأهميته، كما لا يخفى ما يعتري الخطاب في هذا العصر من إشكالات، وآثارها السلبية على المجتمع الإسلامي عامة ونيجيريا خاصة؛ إذ يدّعي العلم والفقه من ليس من أهلهما، ويعدّ الجيش للقتال من لا سلاح له، والناس متحيرون في أمور دينهم، ويحدث ذلك مع فئة يزعمون لأنفسهم أو يزعم الآخرون لهم أنهم قادة الفكر والمعرفة والاستنارة ولئن كان هؤلاء حقا قادة الفكر والمعرفة والاستنارة، لبطن الأرض يومئذ خير من ظهرها ولكن الحمد لله ليسوا كذلك إنما هم غثاء كغثاء السيل.
وإنها لصورة مؤلمة أن تجد مجموعة يتصايحون، ويعلو صوتهم حتى لا يكاد يفهم منه شيء، فيراهم آخرون فيجتمعون عليهم ويصيحون كما يصيح الأولون، صورة مؤلمة لا يتصور حدوثها إلا في مستويات متدنية من العلم والمعرفة لكنها بكل أسف تحدث في واقعنا المعاصر، وعلى هذا يتعين تجديد الخطاب الديني وإعادة النظر فيه من حيث الأصل والمفاهيم.
مفهوم الخطاب الديني
المقصود من تجديد الخطاب الديني هو إعادته إلى ما كان عليه في أول أمره ولفظه في القرآن الكريم: ( أئنا لفي خلق جديد)[1] فالتجديد على ذلك عودة للمنابع والأصول عودة كاملة صافية ودعوة للثبات على الحق وترك التقليد الفاسد القائم على الاتباع والمحاكاة على غير بصيرة ومن هنا يتبين أن التجديد عملية إصلاحية محافظة، وليس عملية تخريبية متلفة.[2]
نشأة الخطاب الديني في نيجيريا
يمكننا القول بأن الخطاب الديني نشأ منذ ظهور الإسلام في نيجيريا، حيث وجد علماء أقاموا شعائر الدعوة الإسلامية والإرشاد إلى الدين الحنيف، ويسألهم المسلمون في أمور الدين، ابتداء من أصول الدين والتعامل مع ربهم عز وجل، وكيفية الصلاة والزكاة والحج، إلى أن احتوت جميع مجال حياتهم الدينية والدنيوية، وذلك في مجالس الوعظ والإرشاد مباشرة، أو بكتابة الأسئلة على وريقة وتسليمها للواعظ ليجيب عنها، وللعلماء الأوائل فضل في هذا.
ومن أشهر من عرف منهم في البلاد: الشيخ عثمان بن فوديو- رحمه الله- الذي له الشرف الأول في دخول الإسلام في نيجيريا، وله سهم كبير في نشره وتطوره في أنحاء البلد، والشيخ سعد النفاوي الألوري الذي بدأ بوعظه منذ 1310ه، واشتهر بما كان يكرره من الكلام الذي معناه” كيف يفلح من لم يتعلم ولم يسأل العلماء”[3] توفي رحمه الله 1935م. وكذلك الشيخ آدم الألوري الذي كان له دور فعال في نشر الدعوة والتعاليم الإسلامية والعربية، وغيرهم ممن تبع منهجهم.
ولا شك أن الخطاب الديني في بداية الأمر لم يجد دعما علميا؛ وذلك لقلة العلماء والمتعلمين والوسائل التي توصل بها إلى العلم النافع.
ولما توسعت رقعة الإسلام، وجدت مجالس وهيئات أسست خاصة للخطاب الديني، يتجمع فيها الناس ويتفاتون إلى العلماء، طلبا لحكم الله فيما وقع بهم من الوقائع وأشكل عليهم. ومنظمات وروابط علمية وجمعيات إسلامية متفرقة في البلاد، بقصد محاولة توحيد صفوف المسلمين ومناقشة القضايا الإسلامية المختلفة تحت هيئة واحدة، حيث تصدر الفتاوى عقب محاضرات أو دروس تلقى في كل أسبوع أو أسبوعين أو في كل شهر، ويتأتى ذلك ممن ألقى المحاضرة أو الذي يرى نفسه أهلا لذلك من العلماء والشيوخ، ومن هذه المنظمات ما تنشر كتيبا يحمل الفتوى في طياته أو مسجلات صوتية ومرئية، وكذلك في المساجد، حيث يعتمد المسلمون على فتاوى أئمتهم عقب الصلوات بقصد العلم عن أمور الدين، إلى أن انتشرت إلى مواقع تواصلية ووسائل اتصالية معاصرة، ولهذه المؤسسات والوسائل دورها في التطور، إلا أنها بداية طور جديد لبعض مشكلات الخطاب الديني والتلوث فيه.
ومن تلك المشكلات ما يلي:
1. الجهل بالدين
إن بعضا في المجتمع قد جهلوا حقيقة ما جاء به الدين الحنيف، ويتمسكون بما يخالف شرائع الإسلام وأحكامه بدعوى الاتباع والمعرفة، ولم ينحصر هذه المشكلة على الأعوام فحسب، بل دخل فيها بعض العلماء المفتين، ومن هنا عظمت المصيبة؛ إذ العالم كالطبيب في البلد يشفي مريضها ويداوي داءه، فإن مرض الطبيب نفسه فمن يداوي؟!، وهكذا أمر البعض الذين تمسكوا بجوانب دون أخرى، كمن أخذ بتكاليف الشريعة دون تيسير ورفع الحرج بقواعدها، أو بالتيسير ورفع الحرج دون التحقق من أن لهما ضوابط شرعية معتبرة، ويدخل في الحكم بسبب ذلك التشدد المذموم أو التساهل، وجهل النصوص الشرعية ومقاصدها، سبب في عدم مراعاتها في الخطاب؛ إذ العلم بذلك يقتضي مراعاتها والعكس كذلك.
2. ضعف العلم بالنصوص ودلالاتها وأصول الاستنباط
النصوص الشرعية من الكتاب والسنة النبوية أساس في الخطاب الديني، ولا يحق لمن ينتصب له أن يجهلها أو يضعف معرفته لها، سواء من حيث دلالاتها اللغوية أو المعنوية، وما يتبعها من إجماع العلماء السلف الصالح وآرائهم؛ إذ الجهل عن ذلك يؤدي إلى تعطل الخطاب والخلل فيه، فكيف يقوم مقام الله وموقع عنه وعن رسوله وهو يجهل نصوص الشارع وما أنزل على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى؟ والذي ضعف معرفته وينتصب للخطاب فأمره كجيش في المعركة بدون سلاح، أو فلاح في المزرعة دون معزق، أو طالب في الفصل أمام المعلم دون قلم، فماذا يصنع هؤلاء سوى الفوضى.
3. عدم مراعاة المكان والحال والعرف:
من إشكالية بعض الخطاب الديني في نيجيريا عدم مراعات المكان والحال والعرف، ولا شك أن من ميزة الشريعة الإسلامية كونها صالحة لكل زمان ومكان، ويثبت ذلك من خلال تغير الفتوى بتغير المكان والحال أو العرف، وينبغي معرفة حال المخاطب معرفة تامة، إذ ما يصلح مجتمع قد لا يصلح الآخر، وما يصلح لمريض لا يصلح لغيره، وما يصلح للغني قد لا يصلح للفقير، وما هو المعروف والعادة في المجتمع النيجيري قد يختلف عما هو في غيره، وباستقراء الشريعة بأدلتها وأحوال السلف تتبين فتاوى مبنية على هذه التغيرات والاعتبارات وفق مقاصد شرعية وضوابط محكمة.
4. عدم اعتبار مآلات الأفعال:
إن ما يؤول إليه الفعل مما اعتبره الشارع في وضع الأحكام، وما يؤدي إلى مفسدة فهو مفسدة وما يؤدي إلى مصلحة فهو مصلحة، وتكون للوسائل أحكام المقاصد، ومن ذلك الذرائع فكل ذريعة إلى الحرام فهو حرام يجب سدها، وذريعة إلى الواجب واجب يجب فتحها، والشريعة كلها لمقصد سامي وهو تحقيق مصالح العباد في الدين والدنيا، فما تحقق بها مصالح المسلم النيجيري من ذريعة ينبغي فتحها مادامت لم تتعارض مع المقصد الأصلي، ولا ينبغي سدها فيقع المسلمون في ضيق وحرج؛ لأنه يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد.
وهكذا حال البعض المتصديين للخطاب، المدعون ما ليس فيهم، جهلوا نصوص الشريعة ووسائل الاستنباط، ولم يتمكنوا من العلوم التي تعينهم على استنباط الأحكام، وكيف لهم ذلك وقد جهلوا النصوص بعينها، وتركوا الاشتغال بها والنظر فيها قبل إصدار الحكم، وطعنوا في كثير من العلماء الذين ما بلغوا مبلغهم ولو بشبر، وبلغ بهم إلى أن توهموا أنه يكفي لينتصبوا للخطاب الديني التوسط بين العامي وعالم البلد بمجرد نقل الكلام والفتاوى. الله المستعان.
الحلول المقترحة:
- ومن هذا كله يتبين حاجة المجتمع النيجيري إلى إعادة النظر فيما يتعلق بالخطاب الديني من قضاء وفتوى ودعوة وإرشاد بأن يضبطوه ضبطا له وسائل خاصة من حيث الأصل والمرجع، ويعدون له عده من إعداد المؤهلين للتصدي له وفق التعليمات الشرعية السامية، وحال المجتمع الناطق بغير العربية الناشئ على غير ثقافة العرب وتقاليدهم، المتدين بمختلف أديان، لتأسيس الجو السلمي، ومستوى الوعي الديني الرفيع.
- إعادة النظر في أحوال المسلمين وقضايا الإسلام من قبل علماء اتخذوا راية الإسلام والمحافظة عليها شغلا، لا للشهوة الدنيوية، ولا يتم ذلك إلا بإسناد الأمر إلى أهله دون مجاملة ولا ضغن.
- ضرورية إعادة الخطاب الديني إلى منبعه الأصلي- الكتاب والسنة وأحوال السلف الصالح- والثبات على الحق في دعوة إصلاحية وإرشاد صادق بالعلم الشافي والحكمة والموعظة الحسنة، والإخلاص لله عز وجل في ذلك؛ لتحقيق مصلحة دينية اجتماعية مقصودة شرعا.
[1] السجدة :10
[2] محمد بن شاكر الشريف، تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف، الوطنية ط/ 1، ن/ مكتبة الملك فهد، ص/11.
[3] آدم عبد الله الألوري، الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، ن/ مؤسس مركز التعليم العربي الإسلامي، ط/3 ص/142.