كشف ربيع الشعوب العربية وما تلاه من أحداث عن خلل كبير في خطاب النخبة وفي تعاطيها مع تلك الأحداث وتداعياتها. وقد بدا هذا الخلل واضحا في التفسيرات والمواقف “المتخندقة” لبعض أفراد النخبة من تلك الأحداث؛ والتي سعت إلى إدانة انتفاضة الشعوب العربية وتبني الموقف المعادي لها، والاصطفاف مع الاتجاه المناهض للديمقراطية التي لا تأتي بالعلمانيين، ولو كان في ذلك تكريس للاستبداد السياسي ولحكم العسكر، ولو كان فيه كذلك تماه مع القوى الغربية، التي تسعى إلى إبقاء حاضر ومستقبل المنطقة الأكثر حساسية في العالم العربي ضمن أجندتها السياسية للحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، مما يؤكد أننا نعيش في زمن “الردة عن الحرية” !
هذا العوار الذي بدا في مواقف بعض أفراد النخبة يجعل إعادة التذكير برسالة “المثقف”، مسألة ضرورية؛ وذلك لما للمثقفين من دور ريادي في تنوير العقول وإيقاظ الشعوب. فإذا كان المثقف لا يحترم نفسه، ولا يحترم علمه، ويطلع بدوره بشكل عكسي، ويتسم خطابه بالضبابية وبـ”تزييف الوعي” (على حد تعبير الكاتب فهمي هويدي)، فأنى له أن يؤثر في غيره أو يصنع تغييرا؟
من هو المثقف؟
ويهمنا هنا أن نجيب على السؤال: من هو المثقف؟ ودون الاغراق في التعاريف والتحديدات الأكادمية، نقول إن المثقف في النسق العربي الإسلامي – كما يعرفه الفيلسوف الراحل محمد عابد الجابري – هو “فرد له وعي خاص ورأي خاص”، ولا يكون الفرد مثقفا إلا إذا كان “الوعي الفردي مهيمنا عليه”. على العكس من ذلك ما ذهب إليه غرامتشي من أن “كل مجموعة اجتماعية لها جماعة من المثقفين خاصة بها”. وهو ما يطلقون عليه “المثقفون العضويون”، وهم المثقفون الذين يتشكل وعيهم في ظل جماعي.
المثقف صاحب كلمة حرة ومستقلة، ويستهدف نقد انحرافات الواقع، وما ينضوي عليه من خلل وعيوب، وينظر إلى القضايا من منطلق الوعي الذاتي، والرؤية الخاصة، دون أن يأسره العقل الجمعي، أو ينقاد للسائد والمألوف لدى المجتمع رغبا أو رهبا قبل أن يمتحنه على ميزان الحقائق، ومعطيات العلم.
وعلى هذا المعنى الذي حدد به الجابري طبيعة المثقف في النسق العربي الإسلامي، يتضح لنا أن المثقف صاحب كلمة حرة ومستقلة، ويستهدف نقد انحرافات الواقع، وما ينضوي عليه من خلل وعيوب، وينظر إلى القضايا من منطلق الوعي الذاتي، والرؤية الخاصة، دون أن يأسره العقل الجمعي، أو ينقاد للسائد والمألوف لدى المجتمع رغبا أو رهبا قبل أن يمتحنه على ميزان الحقائق، ومعطيات العلم.
فالمثقف إنسان مستقل في رؤيته وفي تفكيره، ويرتفع بتحليلاته ورؤاه عن التخندقات الإيديولوجية والانتماءات الحزبية الضيقة، وينظر إلى الأمور بعين باصرة تنشد الحقيقة، والحقيقة فقط. ولا تدفعه الحسابات الحزبية أو الذاتية أو المصلحية إلى “تزييف الوعي” وقلب الحقائق. فـ”الرائد لا يكذب أهله”، وكملة الحق أمانة تقطع دونها الأعناق. وقد شكا الأديب الراحل عباس محمود العقاد من المثقفين الذين يمتهنون الكذب والزور، ولا يعرفون “النقد والمذمة إلا إذا تكلموا عن السلطان الزائل” أما السلطان القائم فلا يعرفون إلا تمجيده والثناء عليه. وقد دعا العقاد إلى تطهير “عالم الكتابة والكتاب” من هؤلاء !
المثقف.. مناضل
والمثقف مناضل لا يخضع للضغوط ولا للمغريات التي تمارسها الأنظمة القمعية ضد صاحب “السلطة المعرفية” لإخضاعه، وتجير أفكاره لتكريس استمراريتها! ومن هنا قال المفكر المسلم إدوارد سعيد: إن “المثقف ليس صديقا للسلطة”. بمعنى أنه لا يتماها مع الأنظمة السياسية في برامجها، ولا يقبل بحال أن تستغله السلطة لصالحها.
وفي التاريخ الإسلامي نماذج متنوعة لكثير من المثقفين الذين تعرضوا للاضطهاد من قبل الأنظمة السياسية بسبب آراءهم التي تجهر بإنكار فجور الحكام، ضمن ما يسميه الجابري بـ”أدب المحن”. ولا تزال كتب التاريخ تحتفظ لنا بأخبار محن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة ومالك والشافعي والإمام أحمد وأحمد بن نصر الخزاعي، وابن حزم وعز الدين بن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم.
دور المثقف إيقاظ الشعوب
والمفروض أن يكون للمثقف مكانه الممتاز، بين الداعين إلى المثل الأعلى، وأن يكون له تأيثر على الوسط المحيط به، وأن يحمل على كاهله مسؤولية توعية الشعوب، وإيقاظها، وحمل قضايا المحرومين، والطبقات المهمشة في المجتمع، وأن يعانق هموم المقهورين، “والمستضعفين في الأرض”، وأن يرفع راية الدفاع عن قيم الحرية وحقوق الإنسان، ودولة المواطنة والقانون، وكل المعاني السامية والقضايا العادلة، وأن يجهر بكلمة الصدق، ولو كان فيها غضب الجميع، وأن يقف في وجه الباطل ولو كان تياره جارفا.
وليس من شأن المثقف أن يكون من الذين يسايرون التيار خوفا من أمواجه المتلاطمة، ولا أن يكون من الذين لا يكتبون ولا يتكلمون إلا ليرضوا، ولا يتكلمون أو يكتبون مرة ليغضبوا !
وليس من شأن المثقف أن يكون من الذين يسايرون التيار خوفا من أمواجه المتلاطمة، ولا أن يكون من الذين لا يكتبون ولا يتكلمون إلا ليرضوا، ولا يتكلمون أو يكتبون مرة ليغضبوا !
ولا هو من الذين يترددون في تحطيم التابوهات، والجهر بنقد العادات والتقاليد، إذا كان فيها ما يستحق النقد أو كانت تحتوي على ما يستدعي تشريحها وإعادة النظر فيها.
فمهمة المثقف أن يصور القضايا كما يراها هو، وانطلاقا من وعيه الذاتي، لا كما يراها الناس، ولا كما هي محددة في عقل المجتمع. إن المثقف إذا كان مسايرا للمجتمع في تفكيره ومقيدا بعاداته وتقاليده، فإنه حال إذن لا يكون قد صنع شيئا كبيرا، ولا يكون قد أتى بشيء جديد، وإنما يكون قد صاغ أفكار العامة التي ربما لم تسعفه قدراتها في البيان والتعبير عن صياغتها.
ويصل المثقف درك الإنحطاط إذا تورط في تبرير الاستبداد السياسي وقمع الشعوب ! إنه في تلك الحال يكون قد تخلى عن جوهر رسالته، واستبدل دوره في التنوير والتثقيف، والحث على البناء والنهوض والتحرر، بدور الشرطي، الذي لا يعرف سوى القمع والتنكيل وإذلال الشعوب !