لا تقارن نفسك بأحد؛ فإنّ لك قدراتك وللآخرين قدراتهم، وأنت بمقارنتك لنفسك معهم تقلّل من شأن نفسك وتحطّ من قدر ثقتك بها وتقديرك لها ولقدراتِها، وتحكم عليها بالفشل واليأس والتراجع والإحباط…
الواثقُ لا يلتفتُ لمكانةِ الآخرين، وإنجازاتِهم ومكتسباتِهم، وما حقّقوه وما لم يحقّقوه، ولا يستفزّهُ تقدّمهم أو تأخّرهم.. هو مشغولٌ بتحقيقِ إنجازاتِه والعملِ على صقلِ نفسِه وتقويةِ مواهبهِ وتقويمِ أخطائه؛ لعلمه بأنّ الذي يقفُ عند عتبةٍ من عتبات العلم، أو يرضى بمرحلةٍ يتوقّفُ عندها من مراحلِ الاكتسابِ والتعلّم = تتشابهُ أيّامه، ويتوقُّف عن التغيير؛ فيتجمّد، ثمّ يتقلّص، ثمّ ينقرض، ثمّ يتبخّرُ ويموت.. هكذا هي طبيعةُ الحياةِ الجامدةِ المتبلّدة التي لا تجدُّد فيها، حين يسيطرُ عليها حبُّ الأنا، وغرورُ الفهمِ وأوهامُ الأفضليّةِ والسبق، وخيالُ العلمِ الكامل، والاكتفاء منه!.. العلمُ لا ينتهي ولا يتوقّف، وأنت متى شعرتَ بأنّك قد محوتَ الجهلَ وتخلّصتَ من أميّتكَ وأسئلتك، تكونُ قد وصلتَ لقمّةِ الجهلِ بإتقان، ورميتَ نفسكَ في الوادي، وادي الجهل المستعر، الذي يحرقُك ويحيلكَ رمادًا بما تحتويه من قشورِ العلمِ الظاهريِّ الزائف التي تلبّستكَ…
فلا تقارن نفسك بأحد، ولا تحاول أن تتشبّهَ بأحدٍ أو تقلّدَ أحدًا، أو تستنسخَ أحدًا أو تتقمّصَ دورَهُ وطريقتَه وأسلوبَه الذي يميّزُهُ في الحياة، ظنًّا منكَ بأنّ هذا كفيلٌ بجعلكَ متميّزًا أنت أيضا، فلكلِّ إنسانٍ جوهره الذي يدلُّ عليه ويميّزُه عن الآخرين، ألا وهو هذا القلبُ النابضُ الثمينُ الذي تنبثقُ منه ميولُهُ وأفكارُه وأحلامُه وأحلى أمانيه.. لا تحاول حتّى إثباتَ تفوّقكَ واستحقاقكَ على أيّ أحدٍ كائنًا مَن كان، مهما ظننتَه أقلّ منك، أو أعلى منك في الصورة؛ فأنتَ حين تقارنُ نفسكَ بأيٍّ كان تثبتُ انعدام هويّتك، وقلّةَ احترامكَ لذاتكَ ومواهبك، وتفقد اتّجاهكَ بالكامل، وتثبِتُ اهتزازَ الصورة، وتُضيع الوجهة الصحيحة التي من المفترضِ أن تتوجّه إليها، وتضيع بالتالي نفسك، ويتيه شراعها، ولا تعود قادرًا على تقويمِها وتزكيتِها وإصلاحِها وتطويرِ قدراتِها…
أدر السفينةَ والدفّةَ نحو الجهةِ التي تلائمُ طموحاتِكَ وميولكَ ومواهبكَ، واكتشف نقاطَ القوّة التي وهبكَ اللهُ إيّاها، ونمِّها وطوّرها حتى تقدرَ أن تبرعَ مثلما برع الآخرون، عوضًا عن الجلوسِ السلبيّ البليد، ومراقبةِ إنجازات الآخرين بحنقٍ وغضبٍ وحسرة، أو محاولة إثباتِ فشلهم لإرضاءِ عقدة الفشلِ المزرية التي قد تدمّرُ أحلامَكَ وأمانيكَ وتنسفها بالكامل!
الفشلُ ضيفٌ عابر لا بدّ أن يمرَّ بكلّ إنسانٍ مهما كبرَ أو صغر، والإنسان معرّضٌ للخسارةِ والنجاح في كلّ آنٍ وحين.. أنت الوحيدُ القادرُ على تحديدِ إمكانيّةِ استمرارِ الفشل أو زواله.. أنتَ فحسب، بذاتكَ وطموحكَ وإصرارك، وعزيمتِكَ وهمّتكَ العالية، وإقدامكَ على العلمِ والعمل بروحٍ ملؤُها المثابرة والحبُّ والإقدام، والمغامرة الشيّقة التي لا تخشى شيئا ما دامت لم تتخطَّ حدودَ الله، وما دامَ نورُ الإيمان رفيقُ دربِها الدائم، وقبطانُ سفينتِها القلبيّةِ السائرة ِعلى هديِ الشرعةِ الربّانيّة..
أزح الستارةَ السوداءَ المغشّية على عينيك عن قلبكَ قبل عينيك، واعمل بجدٍّ وإخلاص واثقا بأنّ النجاحَ سيكونُ حليفك، إذا أنتَ آمنتَ بذلك، أمّا إن استمرّيتَ بمقارنةِ نفسكَ وما لديكَ بما لدى الآخرين؛ فاعلم بأنّهُ ميؤوسٌ منك، ولا سبيل لاستصلاحِكَ، والوصولِ بكَ للمراتب العُليا، والقممِ الشاهقةِ المرتفعة التي تصبو للوصول إليها.
التسلّق على ركامِ بنيان الناجحين، ومحاولة تحطيمه بكدٍّ وإصرار، قد يوصلكَ للقمم بسرعة، إنّما نوعيّة القمّة قد تختلفُ بذاتها ومضمونها، وما أيّ قمّة قد تكونُ ساميةً ومشرّفة؛ فمن القمم ما قد يوصلكَ للجحيم، ومنها ما قد يوصلكَ لأكوامِ النفايات، ومنها ما قد يوصلك لحافّة قبرك بأسرع من الضوء بكثير؛ إذ إنّك ستحفرُ حفرة الفشل لنفسكَ بيديك، حين تعتقد أنّ إيقاف الآخرين يعني تقدّمك، وإسقاطهم يعني ارتفاعك، وتحطيمهم يعني ترميمك، وتشويههم يعني تلميع صورتك.. لا تظنّ أبدًا أنّ بإخفاتك صوت الآخر، وطمس معالم جماله وتميّزه وإبداعه، ومحاولتك عبثًا إطفاء نوره المشعّ الباهر = ستشرقُ وتسطعُ وتبين؛ بل أنتَ بهذا تخادعُ نفسَك وغيرَك ليس إلاّ…
أشعل نورَك من الداخل، والزم العلمَ القويم من المهدِ إلى اللحدِ بلا عجز ولا كلل ولا توقّف، ولا تقنع بما علمتَ وتعلّمت، وما اكتسبتَ من ألقابٍ ورُتَبٍ قد تكون خاويةً من معناها؛ فتدفن نفسك في ظلماتِ الجهلِ والتخلّفِ والقصورِ والرجعيّة، وتتوقّفُ عن تنفّسِ أنسامِ العلمِ والنورِ وعبقِ المعرفةِ وشذاها.. واعلم بأنّ أول خطوةٍ نحو العلم هي أن تعلمَ بجهلك فالزمها، ومتى استوعبتها حقًّا أمكنكَ الانطلاق بقوّة، بمحاولةٍ منك لتقليل الجهل، لا إبعاده كلّيًّا؛ فمهما علمتَ ستبقى جاهلًا للكثير من العلوم، تصديقًا لقوله جلَّ من قائِل: { وَما أوتيتُم من العلمِ إلاّ قليلًا{ الإسراء: 85.
ثمّ لا تنسَ الإخلاصَ في الطلب، وتحسين وجه النيّة مما أنتَ متّجهٌ إليه ومندفعٌ فيه؛ فإنّ النيّةَ الصالحةَ الخيّرة التي يخبّئُها قلبُك هي المدارُ الذي يدور عليه العملُ بأكمله؛ فاجعل نيّتكَ خالصةً للهِ تعالى، ولخدمةِ العبادِ ومنفعةِ الدين؛ إذ إنّ هجرتكَ لما هاجرتَ إليه.. فاختر أسبابَ هجرتك بحكمةٍ ورويّةٍ وعقلانيّة، تجد نفسَك…