عبثاً حاولتْ إخفاء قلقها ومداراة خوفها الذي اتضح جليّاً عندما أصبحتْ على طاولة العمليات الجراحية، محاطةً بالأطباء والممرضات…

حركتها الثقيلة بفعل وزنها وبطنها المنتفخ… صمتها الغريب كأنما قد كُبِّل لسانها، واكتفاؤها بالرد المقتضَب على الأسئلة، بينما تاهت الكلمات وتطايرت كالشرر من عينيها المتوهجتين… أما ارتعاش جسمها فلست متأكداً: أهو بسبب برودة الغرفة، أم بسبب الخوف، أم كليهما معاً؟!

كانت أعصابي مشدودة بما فيه الكفاية؛ فقد مررتُ منذ قليل بلحظات حرجة لم يشعر بوطأتها على نفسي أحدٌ إلا الله…

كان قلبي، والذي عادة ما أصفه مازحاً بأنه باردٌ كقلب تمساح، يدق بسرعة بعد أن فاجأتني مريضتي الأولى بهبوطٍ حاد في التنفس أصابها بعد التخدير، وصعوبة في التهوية الرئوية، تغيَّر على أثرها لون وجهها وأطراف جسمها الذي يناهز وزنه المائة كيلوغرام…

كانت الفتاة ذات السبعة عشر ربيعاً تختنق أمامي، وبدأ الزبَد يخرج من فمها لولا أن أعانني الله فأنقذتها، وأنقذتُ نفسي!… ثم أُجريَتْ لها العملية الجراحية وانتهت بسلام.

لكن المغامرات لم تنتهِ بعد…

فقد خدَّرتُ بعدها مريضاً تخديراً نصفياً. كان شاباً ضخماً في منتصف العشرينات… حرصَ على أن يظهر قوياً، رابط الجأش عندما حقنتُ إبرة التخدير بين فقرات عموده الفقري. ولكن ما إن أنهيتُ الحقن وابتدأ مفعول التخدير بالسريان حتى أصابته رعدة مفاجئة، وأُغمي عليه.

أمسكت به… تفقدت وجهه الشاحب، وتأكدتُ من وصول الهواء إلى رئتيه… وبعد ثوانٍ معدودات فتح عينيه قائلاً: يبدو أنني فقدت الوعي لبرهة!

قلت له: نعم، أنت فقدت الوعي لفترة قصيرة جداً، وهذا أمر بسيط؛ ثم تابعتُ في سري: أما أنا فكدتُ أفقد أعصابي!

لقد أصابته – على الأغلب – حالة تُسمى بــ”الغشي العصبي قلبي المنشأ”، سببها فرط تفاعل الجسم تجاه الضغط العاطفي البالغ… فواضحٌ أنه كان في غاية الخوف، لكنه تكلَّف الهدوء، وتظاهر بالسكينة. وهذه مشكلة دائماً ما تواجهنا نحن – معشر أطباء التخدير -: مشكلة عدم صراحة بعض المرضى، وإخفاء مشاعرهم؛ وكأن إظهار الخوف يخرم المروءة، وينافي الشجاعة! في حين أن الشجاعة – في حقيقة الأمر – ليست عدم الشعور بالخوف، وإنما هي الإقدام رغم الخوف!

الخوف شعور طبيعي يسري في نفوس المخلوقات، لكننا – نحن البشر – عادة ما نقوم بالتستر عليه وتجاهله، أو تغليفه بمُسوحٍ من نكتةٍ ساخرة، أو غضبٍ غير مبرَّر.

في الحقيقة، من الأفضل إظهار مشاعرك المقبولة بوضوح، وإخبار من حولك عن توجساتك وآمالك… استخدم الجُمل التي تبدأ بـ”أنا”، فهي تعبِّر عن مكنونات نفسك ومتطلباتك. وتأكد أن صاحب الشخصية السوية لا يرى غضاضة في الاعتراف بضعفه، والحديث عن خوفه وقلقه لمن يثق به؛ بل إني أكاد أجزم أن أكثر الكتومين الذين يتصنعون الثبات، ويقومون بتمويه الحقائق، ويختبئون تحت عباءة الصَرامة والغموض، هم أكثر من يتعبون ويُتعبون من حولهم، وهذا واقعٌ مُشَاهَد.

من منا لا يحتاج إلى الصراحة، والتصرف بتلقائية؛ وإلى بثِّ ما في النفس من آلام وآمال إلى من يثق به ويطمئن إليه؟ ومن منا لا يحتاج الى عبارات التشجيع المُلهِمة، والمديح الصادق المُبهِج؟

لقد بات البخل العاطفي من سمات عصرنا؛ وبتنا نفتقر – في خضم تسارع وتيرة الحياة – إلى كلمات الإطراء العفوية الجميلة تخرج من أفواهنا، أو تتناهى إلى أسماعنا: ابتداءً من الآباء والأمهات تجاه الأبناء والبنات في البيت، وصولاً إلى المدراء والمسؤولين تجاه العمال والموظفين في سوق العمل…

وليس كل أحدٍ قادراً على العطاء المعنوي، ناهيك عن المادي. ففاقد الشيء لا يعطيه… وحده ذو النفس الرضيّة، والخلق الكريم، والسجيّة الطيبة يكون قادراً على مدح الآخرين، وتشجيعهم، و رفع معنوياتهم. ألم يعلموننا منذ الصغر أن “الكلام صفة المتكلم”؟!

 

– “لقد خشيتُ على نفسي!”…

قالها سيد الخلق، صلَّى الله عليه وسلَّم، لأقرب الناس إليه – زوجته خديجة، رضي الله عنها – بعدما أخبرها ما حدث له في غار حراء من أمر الوحي ورؤية المَلَك جبريل، عليه السلام؛ فردَّتْ عليه بلسان الحكيمة الواثقة المطمئنة:

“كلَّا! والله ما يُخزيك الله أبداً”؛

(كلا، لن يحزَن قلبُك يا محمد، ولن يُهينك ربك…)

لماذا؟!

لقد عدَّدتْ السيدة خديجة للرسول خصالاً فيه، لن يُخزيَ الله مَن اتصف بها:

“إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتُؤدّي الأمانة، وتَحمِل الكَلَّ (أي تُنفق على الضعيف واليتيم)، وتَكسِب المعدوم (أي تكسب المال العظيم الذي يعجز عنه غيرك ثم تجود به فى وجوه الخير)، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”…

 

أُلملمُ شتات أفكاري المُبعثَرة، وأستحضرُ ابتسامة المحارب الواثق من النصر، وأدلفُ ـ من جديد ـ إلى غرفة العمليات الباردة نسبياً، والتي يبدو أن جَلبَتْها قد أطلقت لسان مريضتي أخيراً.

قالت لي:

– لقد خضعتُ لعملية الولادة القيصرية عدة مرات… كان ذلك تحت التخدير العام؛ أما اليوم، فستكون المرة الأولى التي أتخدّر فيها تخديراً نصفياً؛ ولولا أنّ ابنة عمي، التي خدَّرتَها أنت منذ مدة قريبة، مدحتْ لي هذا النوع من التخدير، لما أقدمت عليه.

ثم أردفتْ:

– أنا خائفة جداً.

هدّأتُ من روعها، وأخبرتها أن كل شيء سيكون على ما يرام. وشرعتُ في إعطائها حقنة الظهر، شارحاً لها – بكل هدوء – تفاصيل ما أقوم به، وطلبت منها أن تردد دعاء تسهيل الأمور… وعلى الرغم من أن التخدير عمل مفعوله، إلا أن قلق السيدة استمر وازداد مع بداية العملية، فأعطيتها حقنة مهدئة في الوريد. ولم يذهب عنها روعها بالكامل إلا عندما أحضرنا لها طفلها الوليد يصرخ مستقبِلاً هذه الحياة!

بعد لحظات نظرتْ صوبي وقالت شيئاً.

اقتربتُ منها وسألتها:

ـ ماذا تقولين؟

أعادت تمتمتها بصوت خفيض، لكنه مليء بالحماس والامتنان:

ـ دكتور، أنت رائع. بارك الله فيك.

أشرق وجهي بابتسامة خجولة:

– حقاً! ومن أكثر مني حاجةً إلى هذه الكلمات الجميلة، في وجه هذا النهار العصيب؟!