لاحت على وجهِها الأبيض الناعمِ ابتسامةٌ وادعةٌ هادئة، والتمعت في عينيها الواسعتين الناعستين شرارةٌ كأنّها النجمُ الساطعُ في رحابِ سماءٍ ساجرة.. اعتدلت في جلستِها المنبسطةِ على الأرضِ الخالية إلاّ من حصيرٍ عتيقٍ رقيق، وكأنّهُ بساطٌ سحريٌّ طائرٌ تعبقُ منه رائحةُ الماضي بجمالِها وسكونِها وأريجِها الباهرِ الأخّاذ.. ثمّ تكلّمت بلهجةٍ ساحرةٍ لا أملكُ أن أحدّدَ وجهتَها.. وبهمسٍ خفيٍّ يقطنُ فيه خشوعُ الصامتين، قالت بحزم: ” لا يفتدي المرءُ عمرَهُ إلاّ بغايةٍ فريدةٍ ساميةٍ يرجوها فتدنو لهُ، وإلاّ فليمُت وذاكَ لهُ أسمى وأنبل، ولَموتٌ نبيلٌ أشرفُ من حياةٍ يحياها المرءُ ميّتًا بغيرِ غاية.”
احترتُ وتساءلتُ في نفسي عن سرِّ تلك الغايةِ الفريدةِ الساميةِ المجهولة، وعن فحواها!… أهيَ تلكَ السعادةُ الضائعةُ الشاردة، أم تلك الأحلامُ الورديّةُ الزاهية التي نلاحقُها عبثًا فتهربُ منّا؟ أم هي هاتيك الآمالُ السابحةُ السارحة التي نبنيها بجهدٍ وإصرارٍ فتخذلنا وتوقعنا في حفرةِ اليأسِ والكآبةِ والأحزان والقنوط؟ أم هي تلك العواطفُ الرقراقةُ المسترسلة التي نطلقُ لها العنانَ في جوفِنا سرًّا، فتنعكس على سطوحِنا وظواهرِنا كمَدًا وعلنًا، ونمضي نطاردُها بعنفٍ وهي تفلتُ منّا عنوةً ودون إرادة، ونحاولُ جاهدين أن نخفيها ونبطّنها بالغاياتِ النبيلةِ والمقاصدِ الشريفةِ المعنيّةِ بنُصرةِ الحقّ والحريّةِ والمبادئِ والقيم، وإغاثةِ الملهوفِ والضعفاء والمظلومين، ثمّ لا تلبثُ أن تنساب منّا رغمًا عنّا خلسةً وعلى هوادة، وتكشفَ عن ذاتِها بوضوح دون أن نملكَ أسرَها أو تقييدَها برباطٍ كما قيّدتنا؛ لتستحيلَ عواصفَ ورياحًا ورعودًا تتفجّرُ مستميتةً لتدافعَ عن رغباتِنا وأمانينا الملحّةِ التي اكتنزناها سنينًا طويلة، وتزيحَ عنها صيودَ النظر.. تمنعها عن الشرود؟!… أهي حقًّا تلكَ الغاية؟ أهي إحدى تلكَ الاحتمالات، أم هي كلّ ذلك مضمومًا في طاقةٍ واحدة، مصبوبًا بقالبٍ واحد؟……
وعدتُ أدراجي إلى مصدرِ الهمس.. عدتُ أنصتُ باهتمام، أبحثُ عن إجابةٍ مرجوّة، لا تناقضُ غايتي ولا تقتلعُ الأمرَ الظاهر.. هكذا كنتُ أريدُها، مألوفةً واعتياديّة، لا تتجاوزُ سطحَ مصالحي والمظاهر والأسباب والوقائع، لتظلَّ محكومةً بأمرِ الواقع… وحدّثَتني صاحبةُ الصوتِ والهمس.. حدّثتني بغزارة، دون أن تحرّك فاها، وأنا استشعرتُ الصوتَ المرتدَّ بداخلي بشكلٍ مُبهَمٍ وعجيب، لَكَأنّهُ جسمٌ غريب؛ لكنّهُ مريحٌ وأليف! حدّثتني عن وطنٍ لا أدركُ كنهه.. عن معانٍ لا أفهمُ سرَّها وأعماقَها الدفينةََ المطموسةَ في أبعدِ مدى.. عن بلادٍ فريدةٍ واسعة، أبعد من حدودِ الخيال، لم ألامسها مرّةً إلاّ في عالمِها الساحرِ والغامض، الذي خلتُني تائهًا وأنا أعبرُ إليه من تلافيفِ الضباب؛ ألتفُّ حولهُ كما تلتفُّ سحابةٌ تائهةٌ مظلمة حولَ نورٍ هانئٍ نابض يزخرُ بالدفءِ وبالحياة؛ لأقطعَ خلوةَ الحسِّ التي تكمنُ فيه تارةً، وأفصلَها تارةً أخرى عن زخمِ البلادةِ والبرودِ الساكنِ فيّ، والمشاعر الميتة المتحجّرةِ التي ابتلعَها ضجيجُ الحياةِ وغبارها المتكدّس من مدّةٍ لا أذكرُ مداها بالتحديد.. ومن ثمّ أعود وألصق الاثنين معًا بتمازجٍ عجيبٍ يطغى فيهِ النورُ والدفءُ على البلادةِ والبرود… وها هو الوقتُ يمضي، يمضي سريعًا بسرعةٍ أشدُّ من الضوءِ بقليل.. وإذ أنا الآخر أمضي ويسحبُني الصوتُ معه.. ينتشلُني بكلّ قواي وكاملِ ثقلي، وأنا الساعي لأن أكونَ جزءًا منهُ لا عبئًا عليه، ولأن أخفّف عنه بعض الشيء، وهو الذي يحاولُ تخليتي من كاملِ الأوزانِ والأثقال… وفي خضمّ هذا السكونِ والتخفّف الذي يحيطُ بي من كلّ جانب، إذ أنا أسمعُ ذاك الصوت الشفيف الهامس مرّةً أخرى، وأتقلّبُ في صداهُ الصادقِ والمفعَمِ بالمعاني والوضوحِ، المبهمِ في خيالي ليسَ إلّا… لكنّي هذه المرّة أسمعُ الصوتَ يخرجُ من داخلِ ذاتي ليعيدني إليها ويردّني إليَّ منها، فأدخلُ الصوتَ الهامسَ بغيرِ تردّد!.
ها أنا قد شارفتُ على الدخولِ إليَّ بكلِّ خفّة، متخطّيًا حواجزَ المادّةِ والأسرِ والوهم، بإرادةٍ وبغير إرادة، شاعرًا بشيءٍ ما يجتذبُني نحو الصوتِ الغريبِ الذي أحيا فيّ شيئًا نقيًّا خفيًّا ما كنتُ لأستشعره وحدي لولا عبوره الخفيف ذاك على السمعِ والبصرِ والفؤاد… لقد اخترقَ الصوتُ الآسرُ كلّ نبضةٍ من أعماقِ أعماقي وجعلني مرغمًا على الاسترسالِ فيه، والاندماجِ معه لحدٍّ لا نهايةَ فيه، مسلّمًا طائعًا، راغبًا لا راهِبا.
وفيما أنا أستمعُ بإسهاب، وأُطرقُ السمع إلى ذلك الصوتِ النديّ الباهر الصادرعن ذاتي وبذاتي، بإصغاءٍ بالغٍ لا يقطعهُ إلاّ صدى الليلِ المرتدِّ إلى أذنيّ كما الأثير، يغالبُ ذبذباتِ الوقتِ وخيوطهِ ودندناتِه، محاولًا إعادتي بكلِّ حيلةٍ ووسيلة، لكنّهُ عبثًا يحاول!… وإذ أنا في تأمّلٍ وسكون أتطلّعُ إلى مصدرِ الصوتِ الأصيل باهتمام، وبنظرةٍ يشوبها بعضُ التلاشي، إذ تعبرُ بي من محيطِ الجسدِ إلى أغوارِ القلبِ والنفسِ والروح؛ فتندرجُ النظرةُ ضمن أطُرِها، وتصيرُ في معالمَ أخرى غير مرئيّةٍ إذ تغدو هي الرائية، أو غير رائيةٍ بمداها المحدودِ الضيّقِ الذي اعتادت عليه إلى أن تلبّسَها الطهرُ والدفءُ والنور، والصوتُ الهامسُ الساحر، فأمست شفّافةً بلا حدود.
وإذ بصاحبةِ الصوتِ الهامسِ تقطعُ عنّي خلوةَ التساؤلِ والوهم، وتمسحُ ما تبقّى من غبَشٍ وتيهٍ وحيرة، وتزيحُ عن ناظريّ غشاوةً كانت ما تزالُ راتعةً أمامَ عينيّ؛ لتسهّلَ عليّ العبورَ الكامل، وتباغتني بالإجابةِ عن سؤالٍ لم أكن قد طرحتُهُ على سمعها بعد.. عن سؤالٍ ما لبثَ يتفتّحُ في أعماقي التي صحت لتوّها، وتفتّحت كزهرةٍ عسجديّة… وكأنّي بها تستشفُّ ما يغوصُ في باطني ويجولُ في فكري الغارقِ المُبعَدِ، الحامل همومًا أكثر من طاقتهِ بكثير.. وبعدها قالت لي بهدوءٍ تتشعّبُ منه ألف إجابةٍ حكيمةٍ وإجابة: ” ثمّة أناس في هذا الكونِ يحجبون الضوءَ بغزارة، ويصمّون الأذن عن لغةٍ تنبعُ من صميمِ القلبِ المفعَمِ بالحياةِ وبالروح.. وثمّة أناس على الجانبِ الآخر، يردّون هذا الضوءَ أضعافًا مضاعفةً، ويعيدونهُ أسطعَ ممّا كان.. يصفّونه بمصفاةٍ قلبيّةٍ شاعريّة تكتنفُها الرحمةُ والأحاسيسُ من كلّ ناحية، ويجلّلُها الجمالُ والدفءُ من كلّ جانب، فلا تملكُ يد عابثٍ أن تخترقَها بأناملِها الذابلةِ الملوّثة، المصقولةِ بخطوطِ القبحِ والجفاف، والظواهرِ والسطحيّةِ والمادّة.
هؤلاء الأخيرون الخيّرون، الذين تجولُ عبراتُهم وتلتمعُ مساءً في حجراتِ القلبِ والروح، وتمتزجُ بآلامهم وآلامِ الناس؛ لتصيرَ عبرةً واحدةً تنطقُ بلسانٍ واحدٍ، وتخفقُ بنبضةٍ قلبيّةٍ واحدة.. هؤلاء فحسب هم الذين اكتشفوا وحدهم سرَّ الحياةِ الناضرةِ الخضرة، وهم الذين اجتازوا بمفردهم أطر الحياةِ السطحيّةِ الواهية، واخترقوها لمكانٍ أبعدَ من عوالمِ الظواهرِ العاديّةِ التافهة، المهتمّةِ بالقشورِ دون اللباب، اللاهيةِ بخطوطِ المادّةِ الضيّقة، المتعرّجةِ المعتمة، وتبديدِها في السذاجةِ والبغضاءِ والعقَد. “.
هكذا، وبكلِّ بساطة زالت تلك الغشاوة عن عينيّ، والتي كانت هي (عيناي) اللتان أرى بهما ولا أبصرُ ما يُستشَفُّ وراءهما من ضياءٍ ساطعٍ ظاهر، إنّما كان خفيًّا عليَّ؛ إذ كنتُ أنا الخفيّ آنذاك، لا الضياء!… هكذا.. وبأبسطِ عبارة قالتها لي بعمقٍ بالغ، ولامست قلبي بكلماتِها الصادقةِ المضيئة التي أحسستُ فيها تسري داخل عمقي كنورٍ ساطعٍ خلّاب، يشعُّ في النفسِ ويخترقُ غرفها واحدةً تلو أخرى؛ ليتسلّل إلى خافقي ويزيل عنه عتمةً قديمةً باليةً كان قد غربَ فيها مدّةً غير يسيرة، فعاد يشرقُ بالأنوارِ من جديد، ويلفُّهُ الجمالُ من كلِّ جانب.
وفيما أنا غائصٌ في بحارٍ من نور، وكلماتُها المشعّةُ تعبرُ بي نحو ضفّةٍ أخرى ومعالمَ أوسعَ وأرحب، وتجذّفُ بي نحو جانبٍ آخر من جوانبِ الذات هو أطهر وأصدقَ وأعمق، أعطتني الإجابةَ الكاملةَ باختصار: ” كلّما سمت الروح، زادَ العمقُ ولاحَ الجمال.. وكلّما صفا القلب، انجلى الغبارُ وصفت الرؤية.”