لم تكُن من هواةِ الكلام.. كان الكلامُ يهوى التسرّبَ من بينِ أيديها.. يسيلُ من أفكارِها وأمانيها بتناغم؛ ليمتزجَ مع مشاعرها بدقّة، ويصوغا نبضًا واحدًا كامل الوضوحِ والانسجام.. هو صوتٌ هادئٌ وشفيف، ذاك الذي يتدفّقُ من أناملها برفقٍ، كماءٍ عذبٍ زلال لا انقطاع له ولا توقّف.. وبهمسٍ ناعمٍ ساحر كأنّه صوت المطر، أو أرقّ من هذا بقليل، كانت تصغي للكلام بكلِّ صدقٍ وإمعان، يخرجُ من نفسها برويّة.. يرويها ويروي عطشَها الدائم للكتابةِ والبوح، مغمورةً بِندى الصمت…
ولأنّها تهوى الوحدة؛ فقد اتّخذت لها من أرضِ العزلةِ وطنًا تأوي إليه كلّما اشتدَّ عليها ليلُ الغربةِ والحنين.. كانت العزلةُ وطنَها الثاني الذي لم تجد في غيره السكينة والأمان.. تخلو فيها بروحها مرّاتٍ عدّة، تهدهدُ خوفها، تواسيه، وتردّدُ على مسامعه آياتٍ من الذكر الحكيم، تعدُها بغدٍ مشرق تورقُ فيه حبّاتُ الأمل، وأوراق الزهرِ اليانعة، رغم أنفِ الأمسِ المظلم…
كلّ شيء في العزلة يناديها.. يواسيها، يبعثُ فيها الدفءَ والنبضَ والأنفاس، وكأنّها خُلقت لتبقى بعيدة أبدًا، مخفيّةً عن الأنظار.. بين الأوراقِ تلاقيها، تناجيها، تسمعُ همسَها الخفيف.. تبحثُ فيها عن سؤالٍ ضائع، تجد له الإجابة القصوى في نفسها وتخطّها على الورق أيضًا، على الورقِ الناصعِ فحسب… ولها في كتابِ اللهِ وآياتِه في الكون إجاباتٌ أخرى لأسئلةٍ غير مقطوعة، قد بدّدها عمقُ اليقين، أهداها الإجابةَ الشافية…
لم يكن الحزنُ يُعييها؛ فقد اعتادت أن ترى الحزنَ بلونِ الفرحِ والغبطة، كلاهما في عُرفِها قد صُنعا من نسيجِ رداءٍ واحد، وهي بهذا قد ارتاحت واطمأنّت لكلّ حدثٍ أليمٍ يلمُّ بها، مهما اشتدّت قوّته؛ لإدراكها بأنّ عمر الفرحِ قصير، وأنّ عمر الحزن مثله، ولأنها تعي وتدرك باستمرار أنّ لها عمرًا آخر لا انقطاعَ له، فيه ينبت عيشها، وتنبض الأحلام بدفقٍ حيث لا تتوقّف أبدا.. هي دائمًا على وعد مع تلك الحياة الأبديةِ الدائمة، حياة الحقيقة الكاملة التي لا وهم فيها ولا خداع.. لا زوال ولا انقطاع.. وهي أبدًا بانتظارِ تلكَ اللحظةِ النادية التي تنتقلُ فيها إلى الحياةِ الحقيقيّةِ العادلة، حيث لا ظلم ولا همّ ولا أذى، ولا آلام تقرصُ وجنةَ السعادة..
كان اسمُها عابرة.. ارتقت فوق الأسماء، عبرت فوق هشيمِ الحرف.. صار العبورُ لها فعلًا، لا اسمًا ولا كلمات.. تخلّت عن كلّ الأسماءِ.. ما عادت الأسماءُ تعنيها…
هي اليوم في بحثٍ دائمٍ عن المعنى.. عن النبضِ الغائصِ في بحرِ الكلمات…
عن سرٍّ يختفي وراءَ الظاهر.. عن العمقِ الصادقِ والشفيف.. عن معنى أن تكونَ نفسَكَ في كِلا الوجهين معًا، في الظاهرِ والباطنِ سويّة…
لها في الأحلامِ ملاذٌ رائعٌ وارتياح، ورياضٌ أخرى ورديّة، ترتادُها وقت التعب، وحين يصيرُ الموتُ لِزامًا عليها.. هي ما كانت لتنطفئَ يومًا؛ إذ إنّها تستمدُّ الضوءَ من الداخلِ باستمرار.. الماءُ يكمنُ داخلها، وهي لهذا لا تذبلُ أبدًا… الضوءُ الغامرُ يسكنُ في أعماقها بعيدة الأغوار.. من قلبِها المؤمنِ الموقنِ يصدر ذاك الصوتُ الساكنُ والهادر، وينبثقُ النورُ الساطعُ من عُراه؛ ليخترقَ العمقَ ويخرجَ للشكوكِ بكلّ قوّة، حيث لا شيءَ يملك أن يخفيه، أو يغشّي عليه بوحشةٍ أو ظلمة، مهما كان العتمُ حالكًا…
ذاك القلبُ النابضُ فيها بكلِّ إيمانٍ ويقين قد كان لها نبع الحياةِ بما فيها، وما زال النبعُ جاريًا.. في جوفهِ يكمنُ الماءُ كلُّه، وماؤه عذبٌ زُلال… من اللهِ وحده تستمدُّ سلامةَ النبضِ والنفَس، وعذوبةَ الماءِ وجريانهِ، وبنبعِ القلبِ تخبّئُ كلّ أسرارِ الحياة، حيثُ تسمو بها الروحُ وتعلو لأبعد من أحابيل المادّة؛ فيغدو السرُّ لها رقيًّا وعلوّا، وسلّمًا للفوزِ ترتقيه يومَ الحساب…
وبرغم أنّها تعيشُ اليوم جنّة الحياة الدنيا، بالذكرِ والفكرِ والتأمّلِ والدعاء، وتلوذُ إلى اللهِ الحيِّ في كلّ آنٍ وكلّ حين، وتكتنفُها معيّتُه، كلّما شارفت لحظاتُ الأنسِ بالحياةِ على الانتهاء؛ إلاّ أنّها مازالت على يقينٍ دائم بأنّ حياتَها الحقيقيّةَ لم تبدأ بعد؛ إذ إنّها في أرضِ الغربة، وثمّة سعادة حقيقيّة لا شوائب فيها في الجنّةِ تنتظرُها، إذا ما رحمةُ الله غشيَتها، وأهدَتها وطنًا دائمًا تصبو إليهِ بروحِها وحناياها.. فحياتُها الحقيقيّةُ هي يومَ تشرقُ الأرضُ بنورِ ربّها، ويظهرُ حكمُه وعدالتُه، ويأخذُ كلُّ عاملٍ أجرَ عمله وما قدّم في الحياةِ العابرةِ الفانية، حين تنكشفُ النوايا، وتُبلى السرائر، وتغدو الأسرارُ علانية…
هي دائمًا في انتظارِ تلكَ اللحظةِ الحاسمة التي سيُكشف فيها الحجاب، وتنظرُ فيها لوجهِ ربّها الكريم، وتتنعّمُ بنورهِ وبقربهِ، وتسبّحُ بحمدهِ يوم المزيد، حين تكونُ الوجوهُ ناضرة.. يومها يقولُ الرحمنُ: سلوني، ويسأله المؤمنون الرضا؛ فيرضى عنهم ويعطيهم بلا انقطاع ولا نهاية، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر.. وهي دائمًا على يقينٍ دائم بأنَّ وعدَ اللهِ قريب…