عانى العقل المسلم ردحا من الدهر –وما يزال- من نير الاستتباع الثقافي[1]، الذي أصاب بلفحه عددا غير قليل من أبناء هذه الأمة، -وخاصة شبابها الذين هم أرْوِمة فخارها، وشريان حياتها- لعوامل عدة، أبرزها احتواء التيارات الغربية للمناهج التعليمية، وتعطيل دور التربية بالقدوة، فضلا عن أنّ كثيرا من الأُسر قد رقّ الدين في نفوسها، وهان عليهم الأخذ بشريعته، فأخذت تحذو حذوَ المدنية الغربية، مبتعدة عن حياض الدين الإسلامي وأصالته؛ وإن ما ينبغي الوعي به اليوم هو أن واقع العالم الإسلامي “يعيش تصدعا ثقافيا، يقوم على الازدواج، الذي اتخذ صيغا مختلفة، منها الازدواج بين ثقافة المستعمر وثقافة الأصل، والازدواج بين الحداثة والأصالة، والازدواج بين الذات والغير..”[2]، فضلا عن الانفصام الذي حصل بين المادة والروح، وقد أفضى ذلك إلى السير على منوال النموذج الغربي، سواء في نمط الحياة المادية، أو الإعلاء من الفكر الغربي؛ والبعد عن النموذج المعرفي الإسلامي؛ فلا عجب إذا رأينا من يعلي من مطالب جسده، مقبرا أشواق روحه.

وإن عودة المسلم إلى المنابع الكامنة في أصالة الإسلام، كفيلة بأن تعود به إلى جادّة الصواب، لتزيل عنه غبش ما يعتري حياته من تيارات تعكّر صفوَ فكره، وأن تجعله لا يطلّ على العالم الغربي إلا من موقف الرشد الفكري، وليس بغرض الانبهار به؛ حيث سيكون الغرب –على تعدده، إذ ليس الغرب غربا واحدا- مدروسا دراسة موضوعية حصيفة من لدن المثقف المسلم، ومن ثم فإنه يجعل من الآخر الغربي موضوعا للدراسة بدل أن يبقى دارسا، وباسطا سيطرته على المسلمين، وهكذا يتم تحويل الغربي من “ذات دارسة إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس، مهمتـه القضاء علـى الإحساس بالنقص أمـام الغرب، لغة وثقافة وعلما”[3]؛ وهنا تعود الثقة للذات المسلمة، للتعامل مع الآخر من منطلق الرشد الفكري، وألا تبقى هدفا من أهداف الاستشراق؛ ولتواجه الهيمنة الغربية التي جعلت من العولمة وسيلة لاستعلائها، وتفوقها على العالم الإسلامي؛ وفي حقيقة الأمر أن هذه الهيمنة لن تستمر طويلا لعوامل متعددة، ومنها أن العالم الغربي بدأ يعود إلى عهد الرجعية والتخلف، وهذا ما عبر عنه أحد الكتاب الإنجليز في وصفه لحالة أوروبا بقوله: “إن أوروبا بدأت تدخل في عصر ظلام جديد يتميز بالأوبئة والمتسولين وانهيار المدن، وبعث الخرافة، وعودة التهديد القادم من الشرق”[4]؛ مما ينمّ عن أن الغرب لم يقم على دعائم تكفل له التفوق والريادة، بل كانت قوته وهمية فحسب؛ وإن القوة الحقيقية كامنة في الدين الإسلامي، الذي له تميز عن سواه، فيما يمتاز به من عالمية.

وإن شخصنا علاقة العالم الإسلامي بالعالم الغربي، فإننا واجدون صراعا موغلا في القدم بين العالَمين، وتوترا قائما بينهما، وقد زادت حدته في الآونة الأخيرة، خاصة “في العلاقات الثقافية، وهو التوتر الذي لا يمكن شرحه إلا على أساس ديني”[5]، مثلما يمكن تفسير ذلك الصراع الضارب في القدم، الذي كان الدافع إليه دافعا دينيا، وإن كان في الغالب “يتحول إلى حرب كلامية، حيث يسعى كل من أصحاب الديانتين إلى أن يغض من قدر الآخر وينتقص منه، ويرميه بأبشع الأوصاف والنعوت، ويكون ذلك إيذانا باندلاع حروب طاحنة”[6]؛ وها هي تلك الحروب الكلامية تستعر في مجتمعنا، -وما أشبه الليلة بالبارحة- إذ إن المجتمع المسلم لما اكتوى بنار الحداثة، أضحى الصراع فيه جوهرا للعلاقات الإنسانية[7]، وهذا من سوءات الحداثة الغربية؛ ولسنا نردد مع من نقضها بالبحث عن حداثة بديلة عنها؛ فلسنا في حاجة إلى حداثة، كيفما كانت هذه الحداثة؛ حتى لا نقع في ردود الأفعال، لأنه ينبغي أن نمتلك الفعل، لأننا أصحابه.

وإذا كانت الأفكار تلحُّ على أصحابها في خوض ساحة الحوار، فإنه لا ينبغي أن يكون حوارا على عواهنه، بل لا بد أن تكون له ضوابطه، ومن بينها تكافؤ المتحاورين، وألا يكون أحد طرفيهما مهيمنا على الآخر؛ حتى لا يكون الحوار محسوما لصالح فئة دون أخرى.

ولا ينبغي أن يغفل المسلم عن الحوار مع الذات، ومعرفة كنهها؛ لأن ذلك كفيل باكتشاف الفكر، حيث إن إنتاج الأفكار ينطلق من الحوار، ولا سبيل إلى معرفة الذات إلا بمعرفة العزيز الغفار؛ وطوبى لعبد وصل إلى مولاه، وليس ذلك إلا وصولا إلى العلم به جلَّ في علاه[8]؛ وذلك بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، والتفطن لمواقع معانيها في القرآن الكريم، حيث إنها تُعين على فهمه، وهذا من أشرف العلم وأنبله[9].

وإنَّ من الضروريات اللازمة في سبيل مواجهة الاستتباع الثقافي هو أن يلتفت المثقف المسلم إلى أسلمة المعرفة، والحفاظ على المفاهيم المستمدة من النموذج المعرفي القرآني، وبذلك تصل الأمة المسلمة إلى ما به تدرأ عنها الاستتباع، وهوى الابتداع؛ فتتحرر من ربقتهما، وتكون لها الكفاءة الثقافية[10].

ولا يفوتنا أن ننبه إلى أهمية التجديد -باعتباره ضرورة حياتية- الذي هو عامل مهم في انتشال الأمة من واقع الاستتباع الثقافي؛ ومفتاح التحرر من ذلك الواقع المرير، هو العودة إلى أصل النبع النمير، الذي نستمد منه ثقافتنا؛ وأولى بالمؤمن أن يبدأ بتجديد إيمانه، فيكون إذاك منتصرا على مطالبه الجسدية، فيرتقي بأشواقه الروحية، مقتحما الفتنة التي تمحص النفوس، قال الله تعالى ﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة (سورة الأنبياء: 35)، فيكون المسلم بذلك في دائرة الاختبار، ليطهر نفسه فيلتحق بركب الأبرار، بعد أن يتخذ لنفسه منهاجا إيمانيا يسير بجذوته، وهو منهاج قاصد إلى الله تعالى، يقيهِ من انطماس بصيرته، بإقباله الكليّ على مولاه، والأنس به جلّ في علاه، والحرص على لزوم طاعته، والتنائي عن الحرص على ما تكفَّلَ له به؛ وبذل الجهد فيما طلب منه، ولله درّ الإمام ابن عطاء الله السكندري (ت 709هـ) حين قال: “اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك”[11].

فهل آن الأوان ليتحرر العقل المسلم من الاستتباع الثقافي، والهيمنة الغربية؛ ويمتح من مناهل المرجعية الإسلامية، ويقوم بتأصيل ثقافته تأصيلا شرعيا؛ حتى يعود رائدا على الأمم كما كان في سالف عهده؟ هذا ما نرجوه في الغد الباسم الذي ننتظره إن شاء الله.

 

 


[1] – يعد الاستتباع الثقافي من المفاسد الثقافية الأربع التي تحدث عنها الدكتور طه عبد الرحمن، وهي المفاسد التالية: الاستتباع الثقافي، والتخريب الثقافي، والتنميط الثقافي، والتلبيس الأخلاقي. انظر: الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، د. طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب- بيروت، لبنان، ط 3، 2014م، ص 82، 85.

[2] – الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، د. طه عبد الرحمن، المرجع السابق، ص 86. (بتصرف يسير).

[3] – انظر: مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي، الدار الفنية، القاهرة، 1411هـ/ 1991م، ص 29.

[4] – نقلا عن: صراع الحضارات بين عولمة غربية وبعث إسلامي، د. جعفر شيخ إدريس، مكتبة الملك فهد، الرياض، مجلة البيان، 1433هـ، ص 19.

[5] – انظر: حوار الغرب مع نفسه، ضمن كتاب: القدس العربي: رمز وذاكرة، د. المهدي المنجرة، دار وليلي، مراكش، ط 1، 1996م، ص 241.

[6] – انظر: الكفار: تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام، أندرو هويتكروفت، ترجمة: قاسم عبده قاسم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط 1، 2013م، (بتصرف).

[7] – هذا ما أشار إليه الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط 1، 1427هـ/ 2006م.

[8] – استوحينا هذا من قول ابن عطاء الله السكندري: “وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به”. انظر: إيقاظ الهمم شرح متن الحكم، أحمد بن عجيبة، دار المعرفة، لبنان، ص 295.

[9] – في هذا المعنى يقول الإمام أبو الحسن الحرالي (ت 638 هـ)  “وذلك لسر من أسرار مواقع معاني الأـسماء الحسنى فيما يناسبها من ضروب الخطاب والأحوال والأعمال، وهو من أشرف العلم الذي يفهم به خطاب القرآن”. انظر: نصوص من تفسير الحرالي، ضمن تراثه في التفسير، تحقيق: محمادي بن عبد السلام الخياطي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 1، 1418هـ/ 1997م ص 220.

[10] – ركز الدكتور طه عبد الرحمن في حديثه عن درء الاستتباع الثقافي على: التحرر الثقافي، والتكافؤ الثقافي؛ وهو لا ينظر إلى هذا الأخير على أنه تكافؤ مطابقة، بل هو تكافؤ مغايرة. انظر له: الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، ص 89، 91.

[11] – الحكم العطائية، ابن عطاء الله السكندري، سلسلة تقريب التراث (2)، ط 1، 1408هـ/ 1988م، ص 47.