ثمّةَ خاصيّةٌ عجيبةٌ للأدب، لا أدركُ كنهَها ولا تفسيرها، بل ولا أملكُ حتّى تسميتَها، مع ذلكَ فإنّي أكادُ أجزمُ أنّها سرٌّ من أسرار هذهِ النفسِ النقيّةِ الصافيةِ الخالصة، المولودةِ على الفطرة، والتي لم يتسنَّ للدنسِ بعد أن يلطّخَها بوحولِه.. وكأنّ للأدبِ سرٌّ خاصٌّ يحيطُ بالإنسانِ المفعَمِ بالصدقِ والإحساسِ والوضوح، ويأسرُه، لكن بكاملِ الحريّة..

ثمّةَ انطلاقٌ واسعٌ وممتدٌّ للأدبِ ضمنَ دائرةِ الحلم التي لا نهايةَ ولا حدودَ لها.. وكأنّ للأدبِ روحٌ تسري في الأحلامِ على هوادة لتريحَ روحَ الإنسان وتحاكيها وتدمجها معها بكلِّ انسيابٍ وأريحيّة، فتغذوَها بالحقائقِ المنقوصةِ المتفاوتة، أو بالحقيقةِ الكاملةِ المطلقة… لا أدري.. وكأنّهُ تفرّدٌ عجيبٌ يتفرّدُ به الأدبُ وحدَه، جاعلًا من نفسهِ ولنفسهِ سلطةً خاصّةً ومعمَّمة، تجري على الكلِّ ويحتفي بها الكلّ – ما خلا أصحاب القلوب الميتة المتحجّرة – متّخذةً منهم أرضًا خصبةً لبذورِها، تتولّدُ الأسئلةَ والإجاباتُ المطمئنةُ أو المريبةُ فيها..

فالأدباءُ من كلِّ الأطيافِ والألوانِ والأشكال – عامّةً وعلى الأغلب – يجمعهم خيطٌ واحدٌ ورقيق، ألا وهو خيطُ هذي النفسِ الرهيفةِ الشفّافةِ السامية، والألمِ الإنسانيِّ المضاعَفِ الدفينِ الذي لا يحسنُ البوحَ إلاّ على سمعِ الورقِ.. ومن ثمّ يعودُ هذا الخيطُ لينثرَهم ويبعثرهم ويفرّقَ جمعهم، ويردَّ منهم كلَّ فرقةٍ إلى دائرتِها الخاصّةِ المتفرّدةِ بالوضوحِ أو الإبهام.. بالغموضِ أو التكاشُف… وهكذا تدنو الدوائرُ وتتفرّق، وتتجاذبُ وتتنافَر، وتتباعدُ وتتقارب بحسبِ التعدّدِ والتنوّعُ والتباينُ في العقائدِ والمبادئِ والثوابتِ والقيم، التي هي في النهايةِ والبدايةِ مياهُ هذه النفسِ التي تتعطّشُ لها ولا تملكُ أن تحيا وتزكوَ بدونها..

وبذا يحطُّ الأدبُ بجانحهِ الرقيقِ الحالمِ على قلبِ كلِّ سمعٍ مرهَفٍ صادقٍ حسّاس، لكنّهُ سرعان ما يمضي ضامًّا جناحَهُ الآخرَ ضانًّا بهِ عن المبهَمين التائهين.. ولا يلتقي الجانحانِ ويحلّقان بالنفسِ عاليًا أبدًا ويسموان بها، إلاّ عند أولئكَ الأصفياء الصادقين، الموقنين الخلّص، الذين استنارت قلوبُهم قبلَ الأدبِ بالإيمان، والذين عرفوا كيف يجعلون من الأدبِ تربةً خصبةً لزرعِ قيمهم، وسقيا مبادئهم، وحصادِ صحوتهم على أسسِ الشريعةِ القويمةِ المستقيمةِ، وسبيلها الذي لا ثانيَ له.. وتنميةِ بذورِها وثمارِها، وحقولِها وأطيابِها، وزهرِها ورياحينِها ضمن دائرةِ الإبداعِ الفطريّةِ المتوازنة، التي تعرفُ التحليقَ جيّدًا ضمنَ حدودِها الآمنة، لتنيرَ أفئدةَ الناسِ وعقولهم وأرواحهم على السواء، وتغمرَها بدفءٍ خالصٍ لا مثيلَ له، دونَ أن تقطعَ فيهم تلكَ الصلةَ الدقيقةَ الممتدّةَ بينَ الجانحينِ، جانحِ الحُلمِ وجانحِ الإيمان…

فإذا ما قُدِّر للأدبِ السامي المحلّقِ بجناحيهِ المتّصلَين، أن يكونَ المتكلّمَ الرسميَّ، والناطقَ الأمينَ الصادقَ باسمِ سفينةِ الدينِ الحقِّ الراسيةِ أو الجاريةِ على نورِالإيمان، فلا ريبَ أنّ الأدب سيكونُ للسفينةِ حينها خيرَ رُبّانٍ…