قال الحارث المحاسبي -رحمه الله: “واستعن بالله في كل أمر، واستخر الله في كل حال، وما أرادك الله له فاترك الاعتراض فيه، وكل عمل تُحب أن تلقى الله به فألزمه نفسك، وكل أمر تكرهه من غيرك فاعتزله من أخلاقك، وكل صاحب لا تزداد به خيرًا في كل يوم فانبذ عنك صحبته، وخذ بحظك من العفو والتجاوز”. ويشير المحاسبي إلى أنك إذا وقعت في خصومة مع إنسان فالعفو والتجاوز خير لك مردًا من الاستمرار واللدد في الخصومة،

وقد صدق -رحمه الله تعالى- فإن الخصومة تمحق الدين وتشغل العقل، وتقتل طمأنينة القلب والخاطر، وتقض المضاجع، وتجعل سويداء الإنسان جحيمًا دائم الاستعار والاتقاد، فالعفو والتجاوز – وإن صاحبه هَضْم وغَبْن- أغنمُ حظًا إذ يقضي على هذه الآثار كلها، ويعوض بدلاً منها الراحة والسكينة والفضل والإحسان.

وقد وقعت لأحد أتباع التابعين: سَلْم بن قتيبة الباهلي البصري خصومة بينه وبين ابن عم له، فلجّ سَلْم فيها حتى انتهت به إلى مجلس القضاء، ثم عدل عنها إكرامًا لنفسه فكان من الغانمين، قال سلم بن قتيبة: مر بي بشير بن عبيد الله بن أبي بكرة – يعني:وهو في مجلس القضاء ينتظر المحاكمة بينه وبين خصمه – فقال: ما يُجلسك هاهنا؟ قلت: خصومة بيني وبين ابن عم لي، ادّعى أشياء في داري، فقال بشير: إن لأبيك عندي يدًا، وإني أريد أن أجزيَك بها، والله ما رأيت شيئًا أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة ولا أشغل للقلب من الخصومة.

قال سلم بن قتيبة: فقمت لأنصرف، فقال لي خصمي: مالك؟ قلت: لا أخاصمك، قال: إنك عرفت أن الحق معي ؟ قلت: لا، ولكن أكرم نفسي عن هذا، وتركت الخصومة. (حكاها الإمام الغزالي في الإحياء، وابن أبي الدنيا في “كتاب الصمت”).
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله-:
والإنسان إذا ناله الأذى من الناس، وصبر عليه، وسامح فيه، ولم يفكر بالانتقام والمقابلة من مؤذيه كان عاقبة أمره أفضل من عاقبة المنتقم لنفسه المقابل للسيئة بجزائها؛ وذلك أنه إذا تسامح وحلم وتنازل وكرم، يشهد في نفسه ومشاعره مشهد السلامة وبرد القلب كما يشهد مشهد الأمن وهدوء البال.

وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه “مدارج السالكين”وهو يتحدث عن المشهدين السابقين: “ومشهد السلامة وبرد القلب” مشهد شريف جدًّا لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وبطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامة قلبه وبرده وخلوه من ذلك أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، وذلك أن القلب إذا اشتغل بشيء من هذا الانتقام فاته ما هو أهم عنده وخير له فيكون بذلك مغبونًا، والرشيدُ لا يرضى بذلك، ويرى أنه من تصرفات السفيه! فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وأعمال الفكر في إدراك الانتقام؟

أما مشهد الأمن وسكون البال فإنه إذا تَرك المقابلة والانتقام أمن ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد، فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرًا فكم من حقير أردى عدوه الكبير؟
وقد رُويت أبيات للإمام الحافظ الفقيه “أبي شامة المقدسي” وقد جرى عليه اعتداء عظيم وأذى شديد على جسمه وبدنه، وقد شارف السبعين من العمر فقيل له: اجتمع بولاة الأمر ليأخذوا لك الحق؛ وينتصروا لك، فقال هذا الأبيات:


قلت لمن قال: أما تشتكي
ما قد جرى فهو عظيم جليل
يُقيضُ اللهُ تعالى لنا
من يأخذ الحق ويشفى الغليل
إذا توكلنا عليه كفى
فحسبنا الله ونعم الوكيل