بعد ثلاثين عامًا من الوعود والمؤتمرات، ما زال العالم يراوح مكانه في مواجهة أبسط حقوق الإنسان: الحق في العمل الكريم، والعيش الكريم، والكرامة الإنسانية. ففي ظلّ عالمٍ يزداد فيه الثراء فاحشًا عند القلّة، يزداد الفقر قسوةً عند الملايين. ومن قلب الدوحة، حيث اجتمع صنّاع القرار والمجتمع المدني في القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية، خرج “إعلان الدوحة” لا كوثيقة روتينية، بل كنداءٍ أخلاقيٍّ عاجل يُذكّر العالم بأن العدالة الاجتماعية ليست خيارًا، بل شرطًا وجوديًّا لبقاء المجتمعات.

لم يعد يكفي الحديث عن “النمو الاقتصادي” كمجرّد رقمٍ يرتفع أو ينخفض. فالنمو الذي لا يلامس حياة الفقراء، ولا يخلق فرصًا حقيقية للشباب، ولا يضمن كرامة المرأة، هو نموٌّ باطل. ومن هنا، يضع إعلان الدوحة أمام المجتمع الدولي تسعة تحديات جوهرية لا يمكن تجاوزها بالشعارات، بل تتطلب إرادة سياسية، وتعاونًا عالميًّا، واستثمارات ذكية في الإنسان لا في الأرباح وحدها.

9 تحديات وتشخيص معمق لأزمة التنمية الاجتماعية العالمية

تسعة تحديات يتوجّب على المجتمع الدولي التعامل معها وتجاوزها للقضاء على معدّلات الفقر والبطالة المتفاقمة على المستوى العالمي. هذا هو جوهر الرسالة التي حملها إعلان الدوحة، الصادر عن القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية التي استضافتها دولة قطر. فبعد مرور ثلاثة عقود على القمة العالمية الأولى في كوبنهاغن عام 1995، أقرّ القادة المجتمعون ببطء وتفاوت التقدم المحرز، مؤكدين أن الفجوات وأوجه عدم المساواة ما زالت تتسع، وأن العالم يواجه مجموعة معقدة ومترابطة من التحديات التي تهدد أسس التنمية الاجتماعية المستدامة.

لقد جاء إعلان الدوحة في قمة التنمية الاجتماعية ليضع يده على مكامن الخلل، محدداً تسعة تحديات رئيسية لا يمكن تجاوزها إلا بتضافر الجهود الدولية، وإعادة توجيه الأولويات نحو وضع الإنسان في صميم العملية التنموية. هذه التحديات التسعة، التي تمثل عقبات كأداء أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، تتطلب تحليلاً معمقاً ومنهجية عمل جديدة تتجاوز الحلول الجزئية.

قمة عالمية ثانية للتنمية الاجتماعية في الدوحة، قطر، 4-6 نوفمبر 2025. الأمين العام للأمم المتحدة يتحدث على المنصة أمام جمهور متنوع. خلفية تحمل شعار القمة باللغة العربية والإنجليزية.
قمة التنمية الاجتماعية في الدوحة 2025

يمثل الإعلان تشخيصاً دقيقاً للواقع العالمي، حيث كشف عن أن التقدم نحو تحقيق معظم أهداف التنمية المستدامة كان بطيئاً جداً، بل وتراجع في بعض الأهداف. وتتركز هذه التحديات في النقاط التالية:

1. الفقر متعدد الأبعاد واستمرار تباطؤ التقدم

على الرغم من الأشواط الكبيرة التي قُطعت في الحد من الفقر منذ عام 1995، إلا أن الإعلان حذر من تباطؤ هذا التقدم في السنوات الأخيرة. ويشير الإعلان إلى أن أكثر من مليار شخص ما زالوا يعانون من الفقر بأشكال وأبعاد مختلفة. ويؤكد الإعلان على أن الفقر ليس ظاهرة عامة، بل يتركز بشكل غير متناسب بين فئات محددة، وهي:

  • الأطفال والنساء.
  • الأشخاص ذوو الإعاقة وكبار السن.
  • الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الريفية وفي ظل أوضاع هشة.

إن هذا التحدي يتطلب مقاربة لا تكتفي بالتركيز على الدخل، بل تتناول الأبعاد الصحية والتعليمية والاجتماعية للفقر، وهو ما يتماشى مع الدعوة إلى استثمار في المعرفة والتعليم الجيد كعلاج أساسي للفقر، كما أشار إليه روبرتو سواريز سانتوس، الأمين العام للمنظمة الدولية لأصحاب العمل.

2. الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية

ما زال الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية حقائق واقعية في أجزاء واسعة من العالم، مع ارتفاع المعدلات العالمية لنقص التغذية في السنوات الأخيرة. هذا التحدي لا يرتبط فقط بنقص الموارد، بل يتفاقم بسبب النزاعات المسلحة وحالات الطوارئ الإنسانية، مما يهدد الأمن والاستقرار الاجتماعيين.

 إعلان الدوحة في قمة التنمية الاجتماعية: 9 تحديات أمام المجتمع الدولي
قمة التنمية الاجتماعية في الدوحة 2025

3. الفجوات التعليمية واستمرار وجود أطفال خارج المدرسة

على الرغم من اتساع نطاق فرص الحصول على التعليم، إلا أن الإعلان نبه إلى أن أطفالاً كثيرين ما زالوا خارج المدرسة. هذا التحدي لا يقتصر على الوصول إلى التعليم فحسب، بل يمتد ليشمل جودة التعليم والإنصاف في توفيره، مما يعيق بناء القدرات البشرية اللازمة للتنمية المستدامة.

4. النقص الهائل في الحماية الاجتماعية

كشف إعلان الدوحة في قمة التنمية الاجتماعية عن فجوة هائلة في الحماية الاجتماعية، حيث ما زال أربعة مليارات شخص يفتقرون إلى أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية، من بينهم نحو ملياري طفل. هذا النقص يجعل الأفراد والمجتمعات عرضة للصدمات الاقتصادية والصحية، ويقوض جهود القضاء على الفقر.

5. العمالة غير النظامية والفقر بين العمال

ما زالت العمالة غير النظامية منتشرة بشكل واسع، حيث يكسب مليارات الأشخاص عيشهم في الاقتصاد غير الرسمي. ويشير الإعلان إلى أن ملايين العمال يعيشون في فقر، وأن أجورهم لا تكفي لتحقيق مستوى معيشي لائق أو لإعالة أسرهم. وتتأثر النساء والشباب بشكل غير متناسب بهذا القطاع غير المستقر. كما أن التقدم المحرز نحو إنهاء عمل الأطفال بطيء جداً، مما يمثل تحدياً أخلاقياً وتنموياً كبيراً.

6. بطالة الشباب ونقص فرص العمل اللائق

يعاني ملايين الشباب من الافتقار إلى فرص الحصول على التعليم أو العمل أو التدريب، وأغلبهم من الشابات. ويعاني الشباب، خصوصاً ذوي الإعاقة، من مستويات أعلى من البطالة وينخرطون بمعدلات أعلى في العمل غير النظامي. وحذر الإعلان من أن النقص في فرص العمل اللائق يمكن أن يخلّف عواقب طويلة الأمد على جهود القضاء على الفقر ورفاه الأجيال الحالية والمستقبلية.

7. تفاوت الدخل وعدم المساواة المتجذرة

وصل انعدام المساواة إلى مستويات مذهلة، حيث ازداد تفاوت الدخل في بلدان كثيرة متقدمة ونامية على حد سواء منذ عام 1995. وتظل الفجوات في الأجور العالمية كبيرة. ويبرز الإعلان تحديين فرعيين رئيسيين:

  • عدم المساواة بين الجنسين: ما زال متجذراً بعمق، حيث تكسب النساء أقل من الرجال في المتوسط، وملايين النساء خارج القوى العاملة.
  • أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة: هم أكثر عرضة للعيش في فقر ويواجهون تكاليف إضافية مرتبطة بالإعاقة وعوائق اجتماعية واقتصادية تحول دون اندماجهم.
رجل يتحدث من منصة في مؤتمر دولي، مع وجود علم الأمم المتحدة خلفه. يظهر في الخلفية شعار المؤتمر وتفاصيل تصميم ملون.
قمة التنمية الاجتماعية في الدوحة 2025

8. الفجوات الرقمية وعوائق الاتصال الإلكتروني

ما زالت الفجوات الرقمية قائمة في البلدان بحد ذاتها وفي ما بينها، خاصة في المناطق الريفية والنائية. يفتقر مليارات الأشخاص إلى إمكانات الاتصال الإلكتروني والوصول إلى شبكة الإنترنت والمهارات الرقمية. كما أن البنية التحتية والربط الرقمي ما زالا يشكلان تحدياً في البلدان النامية، مما يعيق الاستفادة من التطور التكنولوجي في التنمية الاجتماعية.

9. التحديات الجيوسياسية والبيئية والاقتصادية المعقدة

أشار إعلان الدوحة إلى مجموعة من التحديات المعقدة والمترابطة التي تهدد المكاسب التي تحققت في مجال التنمية الاجتماعية، وتشمل:

  • التوترات الجغرافية السياسية والنزاعات المسلحة: التي تؤدي إلى المجاعة والجوع وحالات الطوارئ الإنسانية والنزوح القسري.
  • الأزمات الاقتصادية وأعباء الديون: التي لا يمكن تحملها.
  • تغير المناخ والتدهور البيئي: بما في ذلك فقدان التنوع الحيوي، وندرة المياه، والتصحر، والتلوث.
  • التحولات الديموغرافية: بما في ذلك النمو السكاني السريع وانخفاض معدلات المواليد وشيخوخة السكان.

الالتزامات الدولية: خارطة طريق لمواجهة التحديات

لم يكتف إعلان الدوحة بتشخيص الأزمة، بل شدد على مجموعة من الالتزامات التي يجب على المجتمع الدولي تبنيها لمواجهة هذه التحديات. وتتركز هذه الالتزامات في ثلاثة محاور رئيسية:

1. تعزيز النمو الاقتصادي الشامل والعمل اللائق

أكد الإعلان على الالتزام بتعزيز النمو الاقتصادي الشامل والمستدام وتوفير العمل اللائق للجميع. ولتحقيق ذلك، نص الإعلان على:

  • اعتماد سياسات الاقتصاد الكلي التي تعزز خلق فرص العمل وأجور الكفاف، مع مراعاة ظروف البلدان.
  • دعم ريادة الأعمال من خلال تهيئة بيئة مواتية، خاصة للنساء والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن والشباب.
  • تسخير المساهمة الإيجابية للقطاع الخاص في إيجاد فرص عمل، مع الاعتراف بأهمية السلوك التجاري المسؤول.
  • الاستثمار في التعليم الشامل والمنصف والجيد في كل المستويات.

2. تعزيز الحماية الاجتماعية والتمكين الاقتصادي

ركز الإعلان على ضرورة تقوية شبكات الأمان الاجتماعي وتمكين الفئات الأكثر ضعفاً، وذلك من خلال:

  • النظر في الآثار المضاعفة لنظم الرعاية والدعم لجهة زيادة المشاركة في العمل وتيسير الانتقال من العمل غير النظامي إلى النظامي.
  • ضمان حصول مقدمي ومتلقي الرعاية على الحماية الاجتماعية في كل مراحل الحياة.
  • تنفيذ سياسات تكفل التمكين الاقتصادي للمرأة، بما في ذلك الميزانية المراعية للمنظور الجنساني وتعزيز الأجر المتساوي لقاء العمل متساوي القيمة.
  • تعزيز بناء القدرات لمواجهة الأثر الذي يخلّفه الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات.

3. تهيئة بيئة دولية مؤاتية

أكد الإعلان على أهمية التعاون الدولي كشرط أساسي لتحقيق التنمية الاجتماعية، وذلك من خلال:

  • دعم تهيئة بيئة اقتصادية دولية مؤاتية للبلدان النامية.
  • تعزيز المساعدة التقنية والمالية لتنفيذ برامج سياسات الاقتصاد الكلي.
  • تعزيز وصول البلدان النامية “وصولاً منصفاً” إلى الأسواق العالمية والاستثمارات والتكنولوجيات.
  • تعزيز دور المجتمع الدولي في دعم البلدان التي تمر اقتصاداتها في مرحلة انتقالية.
اجتماع رسمي خلال القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية في الدوحة، قطر، من 4 إلى 6 نوفمبر 2025. يظهر ثلاثة متحدثين على المنصة، يتناولون قضايا التنمية الاجتماعية.
قمة التنمية الاجتماعية في الدوحة 2025

دعوة للعمل الجماعي

يمثل إعلان الدوحة وثيقة تاريخية لا تكتفي برصد التحديات، بل تقدم خارطة طريق واضحة المعالم للعمل الجماعي. إن التحديات التسعة التي حددها الإعلان، من الفقر متعدد الأبعاد إلى الفجوات الرقمية والتهديدات الجيوسياسية والبيئية، تؤكد على أن التنمية الاجتماعية لم تعد قضية داخلية تخص كل دولة على حدة، بل هي مسؤولية عالمية مشتركة.

إن الالتزام بتنفيذ هذه التعهدات، وتوجيه الاستثمارات نحو التعليم والحماية الاجتماعية والتمكين، هو السبيل الوحيد لضمان أن يكون عام 2030 نقطة تحول حقيقية نحو عالم أكثر عدلاً ومساواة واستدامة.