إن من رحمة الله تعالى على عباده أن خلق الإختلاف والتباين، والذي هو في نفسه علامة على وجود الخالق وقدرته وعلى اختلاف مشيئته في عباده وأقداره فيهم. والمتأمل في حكمة الله تعالى في الإختلاف يستشعر أهميتة وما جلب للناس من فوائد وملذات وتيسير ورحمة.

اختلاف السماء والأرض فيه رحمة لنا، ففي الأرض مساعينا وأرزاقنا، وإلى السماء نرنو للأفق والهواء العليل الذي نستنشق ومنها تهب علينا نسمات الرحمة والإسترخاء. فلو أصبحت الأرض كالسماء لما استطعنا السعي والزراعة وتربية الحيوانات لإنتاج الطعام، ولم يكن هناك الماء الكافي للأحياء، ولفقدنا ثروات الأرض وكنوزها ومعادنها وأنهارها وطعامها. ولو كانت السماء كالأرض لما وجدنا الهواء الذي نتنفس ولضاقت علينا الأرض بما رحبت، فلا مكان سوى أراضين وتراب .. لا سماء ولا هواء ولا راحة ولا متنفس. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].

واختلاف الليل والنهار فيه رحمة لنا، ففي الليل سكون وراحة وفي النهار سعي وجد … فعندما يعاود الليل بعد يوم جهيد ملئ بالعمل والتعب، يرخي أسداله بالراحة والسكينة، وتنوم الأنام لراحة الأبدان والأعصاب … ويأتي بعده الصباح بإشراقه ونوره، وفيه يوم جديد في ثوب أخضر جميل يهب عليه النسيم العليل وتزينه ألوان الزهور وشقشقة العصافير، فيملأ النفوس بالبِشر والسعادة والإنشراح، فتنطلق الأنام للعمل مع أمل وتفاؤل وسعادة ويقين. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 6].

واختلاف الفصول فيه رحمة لنا، فبينما يشتد علينا حر الصيف وسخانة الشمس يأتي الخريف بالرحمة والفرج، وينزل المطر ليروي العطشى من النبات والحيوان، وتخضر الأرض وتنبت زهرتها، فيفرح الصغار والكبار، ثم يتلوه الشتاء فيشتد علينا ببرده القارس، فيأتي بعده الفرج والتيسير في الربيع، فتهب علينا أنسامه العليلة التي تبهج القلوب، وهكذا تعاقب الفصول فيه رحمة بنا، إذ لو كان العام كله صيف لهلكنا من الحر، ولو كان العام كله شتاء لهلكنا من البرد، ولولا إختلافها وتعاقبها لما ابتهجنا بالربيع والخريف ولما نمت الأشجار وأثمرت وتعافت وأعطت.

 واختلاف الشمس والقمر فيه رحمة لنا، فبينما تأتينا الشمس بضيائها ونورها ودفئها الذي لا غنى للناس عنه، يأتينا القمر بضوءه الجميل وهدوءه الذي يجلب الراحة والسكينة. فلو كانت الشمس مثل القمر لما أتانا ما يكفينا من الضوء والحرارة ولتجمدنا وهلكنا على كوكب الأرض. ولو صار القمر مثل الشمس لما تحملنا الحرارة ليل نهار ولأحرقتنا شدتها بين الشمسين؛ ولم يعد هناك نوم وسكينة وراحة، ولإختل تعداد الشهور القمرية والشمسية. قال تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [الأنعام: 96].

واختلاف الحيوانات فيه رحمة لنا، فبينما تمدنا المواشي باللحوم الشهية والألبان الطازجة والجلود ذات الجودة العالية، تمدنا الطيور بالبيض واللحوم، وتمدنا البحار بالأسماك والحيوانات البحرية، ويمدنا النحل بالعسل اللذيذ المصفي والذي فيه شفاء للناس. هذا غير ما تمدنا به دودة القز من حرير، والغزلان من مسك، والأفيال من عاج، والنمور من جلود، والحيتان من زيوت، وغيرها الكثير من المنتجات الحيوانية التي تفيد الناس ويبنون عليها حياتهم وأرزاقم وتكسبهم. فتنوعها يوسع الرزق عليهم ويجعلهم يستنفعون من بعضهم البعض ويشترون ويبيعون ويتبادلون بضائعهم المختلفة. واختلاف الحيوانات أيضاً يضفي جمالاً على الطبيعة الخلابة. ووجود الحيوانات البرية يوازن الطبيعة ويعادلها … إذ لو اختفت الحيوانات المفترسة لإزداد عدد الحيوانات العشبية وأكلت الأخضر واليابس وتنافست مع الإنسان على المزروعات والغذاء. ولو اختفت الحيوانات العشبية لما توفرت اللحوم للإنسان ولجاعت الحيوانات المفترسة وجالت هائمة لتفترس بني البشر إذا لم تجد كفايتها من الفرائس الحيوانية.

واختلاف الأشجار فيه رحمة لنا، فاختلافها يؤدي إلى تنوع ثمارها بكل ما فيها من مواد غذائية وبروتينات وفيتامينات ومعادن هامة لصحة الإنسان، كما يتيح خيارات جمة ومذاقات طيبة ومتباينة من ثمارها اللذيذة. وتنوع الأشجار يتيح خيارات وأنواع كثيرة من الأخشاب التي تنفع الإنسان في مختلف أغراض البناء والديكور وصناعة الأثاث وأعمال النجارة والمشغولات اليدوية. ومن الأشجار المختلفة يترَّزق الناس ويبيعون محاصيلهم وأخشابهم وأعلافهم وبذورهم. ثم يستظل بها المارة من هجر الظهيرة وحرارة الشمس. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141].

واختلاف البلدان فيه رحمة لنا، ففي كل بلد شيء جديد، من كنوز ومباهج تسر العين لرؤيتها وتدعوك لزيارتها، وكل بلد منحه الله من الخير ما منحه، من جمال الطبيعة وسحرها، ومن خبرات أهلها وأفكارهم وتجاربهم، ومن منتجاتها وبضائعها، ومن طعامها وشرابها وطبخاتها اللذيذة وأطباقها الشهية، ومن لغات ولهجات وأعراق، ومن عادات وتقاليد وأعراف،ـ ومن مهارات وصناعات وتكنولوجيا وفن، ومن موارد ومعادن ومحصولات ومواد خام .. وغيرها من كل الخيرات.

واختلاف أعراق البشر وألسنتهم وألوانهم فيه رحمة لنا، فالتعارف وتبادل الخبرات والفنون كله يزين الأرض ويكثر مباهجها، ويتيح الخيارات والبدائل لمختلف الأذواق، ويزيد العلوم والمعارف في مختلف المجالات … ويروج التجارة وتبادل البضائع والمنتجات بين الناس. كما أنه يقوى الأنسال والجينات بالتزاوج ويحسن مستوى الصحة والجمال بخلط الألوان والأعراق … بل وتجد أجمل الناس وأصحهم ما نتج من تزاوج الأعراق المختلفة. قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22]

واختلاف الذكر والأنثى فيه رحمة لنا، فوجود الذكر يسعد الأنثى ووجود الأنثى يسعد الذكر، ولأجل تجمعهما ترنو القلوب وتهفو، فالكل يحلم بيوم زواجه واللقاء بشريك حياته من الجنس الآخر. فذاك ربيع الحياة وبهجتها، ولولا اختلاف الذكر والأنثى لما كان هذا ممكن. فلو لم يوجد الرجل لصعب على المرأة تحمل أعباء العمل والكد لكسب العيش مع ما عليها من رعاية الصغار وحملهم وتنشئتهم. ولو لم توجد المرأة لشق على الرجل رعاية الصغار وتربيتهم وحده مع ما عليه من العمل والسعي لكسب العيش. فوجود كلاهما معاً فيه رحمة لهما، ولواهما معهاً لما استمر النسل وتوالدت الأجيال وسارت سنة الحياة؛ ولما استقامت موازين الكون واستمرارية البشر فيه. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 22].

واختلاف الأذواق فيه رحمة لنا، فلولاه لبارت السلع. وهو مفيد في زيادة المنتجات وتنوعها واخلافها مما يوفر البدائل والخيارات للناس. ومفيد في تزاوج الناس وأعراسهم، حيث ما لا يعجب أحدهم يعجب غيره وهكذا. ومفيد في مجال الفنون حيث تتنوع الإبداعات والألوان والأساليب الفنية. ومفيد في مجال الأطعمة والطبخ حيث تتنوع المأكولات وطرق طهيها. ومفيد في ناحية الملابس حيث تجد في المتجر الواحد عشرات الملبوسات بمختلف الألوان والتفاصيل. ومفيد في اختلاف أشكال المنازل والتصاميم الهندسية والديكورات. ومفيد في مجال تنوع المجالات والعلوم والتكنلوجيا وغيرها.

واختلاف القدرات فيه رحمة لنا، حيث كل شخص لديه مهارات تختلف عما لدى غيره؛ فيستفيد الناس من خبرات بعضهم البعض، ويستعينون ببعضهم البعض وتتوزع فرص العمل والمرتبات. كما أن الوظائف ستختلف وتترك الخيارات للناس فيما يروق لهم من أعمال وما يجيدونه من مهارات … وفي هذا رحمة أيضا.

واختلاف الألوان فيه رحمة لنا حيث تتميز لنا الأشياء من بعضها البعض وتتباين. كما أنها مصدر لجمال الطبيعة والحياة على سطح الأرض، إذ لو كانت الأرض كلها بما فيها بلون واحد لأصبحت قبيحة وصعُبت الحياة عليها بل وربما فسدت. فالألوان بهجة وتمايز. وهي تساعد على فهم وتيسير العلوم، وعمل خرط الذهنية لتوزيع المعلومات وتوضيحها. ولولا الألوان لصعبت الصناعة والهندسة والتصاميم والبناء وغيرها. كما صعبت دراسة الطب والفنون وغيرها من العلوم.

اختلاف المراكب ووسائل النقل فيه رحمة لنا. فبركوب الطائرات تثنى لنا قطع آلاف الأميال والوصول لمشارق الأرض ومغاربها في غضون ساعات. وركوب القطارات يسر لنا الوصول إلى المدن البعيدة في زمن قصير. كما أتاح لنا التمتع بالنظر إلى الطبيعة الخلابة أثناء الرحلة، لاسيما إن صاحبه رفقة مرحة من أهل وأصدقاء وطعام لذيذ وخدمات جيدة. وركوب السيارات يسر لنا الوصول إلى أماكن العمل والمدارس والمستشفيات والمنازل. وأصبح ذلك أيسر بكثير من المشي إليها قدماً أو ركوب الدواب كما كان يحدث في الماضي. ثم لا نزال نستطيع الاستمتاع بالسير على الأقدام لتصح أبداننا ونتنفس الصعداء فيتجدد مزاجنا وتذهب همومنا وأحزاننا وتصفو أرواحنا. وهكذا تبادل وسائل التنقل وإختلافها فيه رحمة وتيسير وصحة وسعادة لنا.

واختلاف المذاهب الفقهية وأهل العلم فيه رحمة لنا، حيث يجعل لنا سعة فيما يمكننا إتباعه. وفي ذلك تيسير على الأمة وتسهيل. كما أن إختلاف الصحابة فيه تيسير. فقد بين النبي أنهم خير القرون[1] … فنتبعهم ويتيسر لنا الأخذ بما ذهبوا إليه إن صح وتخيره. قال الشافعي رحمه الله: “فأصحاب رسول الله في الدين في موضع الأمانة، أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع مَن بعدهم[2]. وبما أن هؤلاء جميعاً بشر فليسوا بمعصومين … فلنرجع في المسائل الخلافية للقرآن والسنة ثم ما كان عليه النبي وأصحابه ثم ما أجمعت عليه الأمة لاسيما في الأمور العقدية.

واختلاف القراءات أصولا وفرشا فيه رحمة لنا، حيث تعددت اللهجات واختلف النطق بين القبائل، واختلافها فيه تيسير وتسهيل للقراءة على جميع الألسن والأصول العربية وزيادة في معاني وتفاسير الآيات.

ومن يتفكر ويتدبر في خلق الله تتجلى له حكمته في الاختلاف وجميل صنعه وإحسانه إلى خلقة … فالحمد لله عليها حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه … وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.