ما العملات المشفرة؟ كيف ظهرت؟ وهل ستستمر في المستقبل؟ كتاب “اقتصاد العملات المشفّرة ومستقبل النقود” لمؤلفَيه عثمان عثمانية ووداد بن قيراط، يحاول الإجابة على هذه الأسئلة. الكتاب يقع في 320 صفحة وهو صادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” الكائن مقره بالدوحة.
في هذا الكتاب، يبحث المؤلفان المفاهيم المرتبطة بظهور العملات المشفّرة والتكنولوجيا المرتبطة بها، مثل “البلوكتشين” والعقود الذكية، وإذا ما كانت تشكّل بداية عصر جديد تحلّ فيه العملات الرقمية محل العملات التقليدية. ويتناولان تأثير هذا النوع من العملات في البنوك المركزية والسياسة النقدية للدول، ويبحثان سيناريوهات التعامل بها في المستقبل.
وقبل التطرق لمضمون الكتاب، هذه نبذة بسيطة عن المؤلفَين عثمان عثمانية ووداد بن قيراط:
من هو عثمان عثمانية؟
أستاذ محاضر بقسم الاقتصاد، جامعة العربي التبسي، تبسة، الجزائر. باحث في موضوعات تتصل بالاقتصاد والسياسة والمجتمع، ويشتغل على فلسفة الاقتصاد والسياسة وخصوصًا ما يتعلق بالرأسمالية والديمقراطية والحوكمة. من مؤلفاته عالم ما بعد جائحة كوفيد-19: مآلات الأيديولوجيا والاقتصاد (2020).
من هي وداد بن قيراط؟
أستاذة محاضرة بقسم علوم التسيير، جامعة العربي التبسي، تبسة، الجزائر. متخصصة في مجالات إدارة الأعمال والتسويق واستخدامات تكنولوجيا الدفع والمالية الحديثة في قطاع الخدمات. من اهتماماتها البحثية تأثيرات أساليب التسويق الحديثة في جودة خدمات المصارف وأدائها
التكنولوجيا المالية
أصبح التغير التكنولوجي سمة القرن الحادي والعشرين البارزة، وأصبح تسارع ظهور التكنولوجيا على نحو مدمر للتكنولوجيا القديمة واقعًا لا يمكن إنكاره. وهذا التطور لا يعني الأنظمة المادية كالسيارات والحواسيب والهواتف فحسب، بل يعني أيضًا أساليب العمل والنظم المجردة، مثل الأعمال المصرفية وكيفية تقديم الخدمات. وما يُعتبر اليوم تطورًا هائلًا قد لا يكون السقف الذي يمكن أن نصل إليه في المستقبل القريب، وقد لا تَصدُق توقعات المخترع والكاتب راي كيرزويل بأن الآلات ستسيطر على العالم بحلول عام 2045، لكنها بالتأكيد ستؤدي دورًا متزايدًا في مجالات حياتنا كلها.
ونظرًا إلى الأهمية التي تكتسيها النظم النقدية والمالية في اقتصاديات الدول والعالم، تسرع تلك الأنظمة إلى استعمال التكنولوجيات الحديثة في مختلف أبعاد الخدمات التي تقدّمها، سواء تعلق الأمر بالتعامل مع زبائنها أم بتقديم خدمات المدفوعات والإقراض التي تعدّ ركائز أساسية لنشاطها.
تعني التكنولوجيا المالية مجموعة الحلول التكنولوجية التي تقدّمها شركات التكنولوجيا، ولا سيما الشركات الناشئة، للشركات التي تُكوّن النظام المالي، من مصارف وشركات تأمين وأسواق مالية. وتشمل تلك الحلول المدفوعات وكيفية تقديم الخدمات وأدوات مالية في إمكانها تدمير أنموذج العمل التقليدي، والقضاء على عدد كبير من المؤسسات التي لا تتكيف مع هذه التحولات بسرعة.
ويتصل تطور التكنولوجيا المالية، على نحو مباشر، بتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصال من جهة، وأساليب التحليل والمعالجة من جهة أخرى، ما يسمح بتغيير تركيبة الخدمات المقدّمة من مالية بحتة إلى خدمات مالية تنطوي على قدر من التكنولوجيا.
لكل ثورة تكنولوجية محرك أو عوامل تدفعها. ومثلما كان ارتفاع أجور المزارعين في إنكلترا بعد الطاعون أو الموت الأسود عاملًا أساسيًا في قيام الثورة الصناعية فيها فيما بعد، ساهمت التغيرات التشريعية والتكنولوجية في تنامي التكنولوجيا المالية على نحو متسارع خلال العقد الماضي.
العملات البديلة
نظرًا إلى أن التكنولوجيا التي تستند إليها العملات المشفّرة عمومًا أصبحت مفهومة، أُطلقت خلال العقد الماضي آلاف العملات، لكنّها لم تكن دائمًا محل اهتمام المستثمرين والمتعاملين. لكنّ عملاتٍ تقدّم خدمات إضافية كالإيثيريوم التي تعمل أيضًا بوصفها منصة لإنشاء عقود ذكية، والريبل التي تسهّل عمليات تحويل الأموال، حظيت بقبول الكثير من المتعاملين، أشخاصًا ومؤسسات.
العملات البديلة هي عملات مشفرة بديلة غير متوافقة مع البيتكوين، لكنّها تحاكيها عمومًا باستخدام خوارزمية التجزئة نفسها مثل البيتكوين، أي SHA-256، وهي ند – لند Peer-to-peer، وتستخدم عملية تعدين لتوليد كتل جديدة مرتكزة على تكنولوجيا البلوكتشين. ومن الممكن اعتبارها “شوكة صعبة” للبيتكوين، وغالبًا ما يُزعم أنّها تمثّل تحسينًا لها من خلال أداء وظائف مختلفة، أو تحسينًا لبعض مكونات البيتكوين. ويتضح من الإيثيريوم والدوجكوين والفيذركوين Feathercoin والبيركوين Peercoin أنّها تحاول تقديم بدائل أرخص من البيتكوين في استخدام طاقة كمبيوتر أقل لتوليد الكتل.
وقد تساهم التطبيقات اللامركزية في تعزيز الكثير من الممارسات الاقتصادية بإنشاء أنظمة معزَّزة تكنولوجيًا بالبلوكتشين، لتُسهّل المعاملات وتنظّمها وتضمن سلامتها وأمنها بين مجموعة من المتعاملين في مجالات وقطاعات أعمال متنوعة، وهذا ما تَعد به هذه التكنولوجيا حاليًا.
إن المنظمات والمؤسسات المستقلة اللامركزية شكل أكثر تعقيدًا من التطبيقات اللامركزية. ولتصبح منظمةً رسميًا، يجب أن تتبنّى وظائف أكثر تعقيدًا مثل الدستور الذي يحدد حوكمتها علنيًا بالنسبة إلى البلوكتشين، وآلية لتمويل عملياتها مثل إصدار أوراق مالية في عملية تمويل جماعي. إذًا، إنها شبكة لامركزية من الأعوان المستغلين الذين يؤدون المهمات، ومن الممكن تصورها في أنموذج شركة تعمل من دون أي تدخّل بشري تحت سيطرة مجموعة من قواعد العمل.
العملات المشفّرة في ميزان الشريعة الإسلامية
أولت الشريعة الإسلامية جانب المعاملات التجارية والمالية عناية خاصة، وبيّنت الشروط الشرعية الواجب توافرها حتى تتوافق تلك المعاملات مع ما جاء في الدين الإسلامي الحنيف. وذلك يخص النقود كما عُرفت سابقًا، أي النقود الذهبية، أو لاحقًا النقود الورقية، أو النقود الناتجة من التطورات التكنولوجية، كالعملات الإلكترونية والمشفرة حديثًا.
لقد تعامل المجلس الإسلامي السوري، مثلًا، مع العملات المشفّرة بوصفها عملات تؤدي وظيفة التبادل فحسب، ولم يتطرق إلى ما يطرحه آخرون من كونها أصولًا وسلعًا. ويجدر بنا هنا أن نوضّح أن مسألة الجهالة التي تركّز عليها كثيرًا فتاوى الفقهاء والمؤسسات الشرعية هي غير قائمة على النحو المذكور، وهي إن كانت تصحّ على مسألة مصدر العملات المشفّرة، فإنها لا تنطبق على المتعاملين بها، إذ يمكن تتبعهم ومعرفة من يكونون، وهذا بعكس النقود الورقية.
ومع ذلك، لا يصدر هذا النوع من العملات عن جهات رسمية ولا يخضع لرقابة مركزية، وإصدارها غير مغطى، لا بالمعادن كالذهب والفضة، ولا بالعملات الأجنبية وغيرها، وهذا من شأنه أن يجعل قيمتها غير ثابتة وغير مستقرة. لذا، فإن هذا النوع من العملات ليس محرّمًا لذاته، بل لما يحوم حوله من مخاطر ومن مخالفات شرعية.
أما في دار الإفتاء المصرية، فقد أقرّ مفتي الجمهورية، شوقي علّام، أنه لا يجوز شرعًا تداول عملة البيتكوين والتعامل من خلالها بالبيع والشراء والإجارة وغيرها، بل يُمنع من الاشتراك فيها لعدم اعتبارها وسيطًا مقبولًا للتبادل من الجهات المختصة، ولِما تشتمل عليه من الضرر الناشئ عن الغرر والجهالة والغش في مصرفها ومعيارها وقيمتها، فضلًا عما تؤدي إليه من مخاطر عالية على الأفراد والدول، وهذه الوحدات الافتراضية غير مغطّاة بأصول ملموسة ولا تحتاج في إصدارها إلى أي شروط أو ضوابط، وليس لها اعتماد مالي لدى أي نظام اقتصادي مركزي، ولا تخضع لسلطات الجهات الرقابية والهيئات المالية، لأنّها تعتمد على التداول عبر شبكة الإنترنت.
إن هيئات الإفتاء السالفة الذكر، وغيرها في دول أخرى، تبدو غير محيطة بمختلف جوانب العملات المشفرة السابقة. كما أن هناك تلخيصًا لتلك العملات في عملة وحيدة هي البيتكوين، وفي ذلك إهمال لباقي العملات وما تنطوي عليه من ابتكارات في الجانب المالي، مثل عملة الإيثيريوم وما يرتبط بها من عقود ذكية، وعملة الريبل واعتمادها منصة بديلة من نظام سويفت SWIFT.
لذا، يجب ألا يقتصر رأي هيئات الإفتاء والفقهاء على تحريم العملات المشفرة من دون تقديم حلول شرعية أو بدائل، تمكّن المسلمين في العالم من استخدامها أو استخدام عملات خاصة بهم، مثلما هو عليه الأمر بالنسبة إلى البنوك الإسلامية التي تعد بديلًا من البنوك الربوية التقليدية.
مستقبل العملات المشفرة
يعتمد السيناريو الأقرب إلى التحقق بدرجة كبيرة على مدى قبول هذه العملات وتزايد مجالات استخدامها في المستقبل؛ فمن جانب، كلما زاد عدد المحلات والمتاجر ومؤسسات الأعمال والخدمات التي تقبل الدفع بهذه العملات، زاد تداولها واتسعت رقعة استخدامها. ومن جانب آخر، كلما امتد استخدام هذا النوع من العملات إلى منتجات وقطاعات أخرى، كالتأمين أو الأسواق المالية، توطّد قبولها أكثر.
والأهم من ذلك كله هو الثقة التي ستحظى بها هذه العملات في المستقبل. نعلم أن الثقة جوهر الاقتصاد، وإذا اكتسبت العملات المشفرة ثقة الجماهير، فسيصبح حلولها محل العملات التقليدية أو الوجود إلى جانبها مسألة وقت فحسب.
ومع ذلك، لا يرى أشد المتفائلين اليوم أي فرصة لسيناريو استبدال العملات التقليدية بالعملات المشفرة، وربما يكون في هذا السياق إنشاء عملات رقمية خاصة بالبنوك المركزية، مع السماح بحد معيّن من منافسة عملات مشفرة أخرى خاصة، هو السيناريو الأقرب إلى الواقع.