في بعض القضايا نجد هناك اتفاقاً غير مقصود، وتحالفاً غير مقدس، بين بعض من أعداء الإسلام وبعض من أكثر المتعصبين للإسلام؟!.. وبعض الناس يعجب ويتعجب من هذا الإتفاق.. ولكننا إذا تذكرنا وتأملنا المقولة السياسية التي تقرر أن أهل «التطرف» من اليمين واليسار ـ هم دائماَ متفقون، يجمعهم الموقف الخاطئ ويحد بينهم الانحراف عن الموقف الحق، الذي هو العدل بين باطلين «والوسط» بين تطرفين وانحرافين.. إذا تذكرنا هذه المقولة وتأملنا، ثم نظرنا على ضوئها في حقل الفكر الإسلامي، زال عنا العجب و التعجب من ذلك الاتفاق غير المقصود والتحالف غير المقدس بين هذا البعض من أعدا أعداء الإسلام وذلك البعض من أكثر المتعصبين للإسلام؟!..

وقضيتنا ـ قضية موقف الإسلام من «الفن»، ومن «الفن التشكيلي» ـ وبالذات النحت والتصوير ـ واحدة من القضايا التي اتفق فيها المعادون للإسلام والعرب والحضارة العربية الإسلامية مع قطاع كبير من «الفقهاء» وأنصاف المثقفين بثقافة الإسلام، من الذين وقفوا عند ظواهر النصوص، والمدلول الحرفي والجامد للمأثورات!…

فالشائع لدى هؤلاء وأولئك أن الإسلام، كدين، قد اتخذ موقفاً غير ودي، إن لم نقل معادياً، من الفن التشكيلي، عندما حر م تصوير المخلوقات الحية، حيوانات كانت أو إنساناً، وإن هذا التحريم قد أصاب الحضارة العربية الإسلامية بما يشبه العقم أو الفقر في هذا الميدان. وأن ما شهدته هذه الحضارة من نحن وتصوير إنما كان نشاطاًَ دنيوياًَ تأثرت فيه بالمواريث السابقة على الإسلام، وأنها قد احتضنته وطورته في تناقض، إن لم نقل في عداء، للإسلام كدين!..ونحن عندما نتأمل «حجج» هؤلاء الذين يغضون من شأن «الماسة الفنية» في حضارتنا العربية الإسلامية، نجد أن الأحاديث النبوية التي رويت في ذم التصوير والنهي عنه هي العمدة والمرجع لكل الذين رأوا أن للإسلام موقفاً غير ودي من النحت والتصوير.. ومن هنا كان استقراء هذه الأحاديث، وتفسيرها على ضوء الواقع الذي قبلت فيه والظروف والملابسات التي أحاطت بقولها.. مع البحث عن خيوط التطور في السنة النبوية إزاء هذه القضية… أمراًَ جوهرياً وضرورياً وحيوياً في وعي الموقف الحقيقي للإسلام من النحت والتصوير…
لكننا نفضل أن نبدأ دراستنا للقضية بالنظرة أولاً في موقف القرآن الكريم من هذا الموضوع.. فهو المصدر الأول للدين، والنص المعصوم من الوضع والتحريف، والقول الفاصل والحاكم الذي تفسر على ضوئه بقية المأثورات!..

القرآن والحاسة الفنية

ولحسن الحظ فإن كل من له صلة بالقرآن الكريم، حتى ولو لم يكن متديناً بالإسلام، سيجد في بلاغة القرآن، التي هي بعض إعجازه، حقيقة لا يمكن إدراكها ووعيها، ومن ثم الإيمان بها، إلا من قوم قد ارتقت بهم الحاسة الفنية إلى حيث يدركون ما في هذا الكتاب من أسرار الإعجاز وفنون البيان.. فالإيمان بإعجاز القرآن مرهون بازدهار الحاسة الفنية لدى المسلم وبتحول هذه الحاسة إلى قسمة ملحوظة في الحضارة الإسلامية، ومن ثم فإن البداهة قاضية بأن يكون القرآن داعياً يزكى تنمية الحاسة الفنية لدى المسلمين!..

فإذا انتقلنا من مجال التعميم إلى الدراسة الواقعية رأينا كيف امتلأت سور القرآن الكريم بما نسميه في الدراسات الأدبية والفنية بـ«التعبير بالصور» أي رسم الصور الحسية كي تعبر بها آياته عن المعقولات والأفكار، فنحن، في القرآن، أمام عشرات، بل ومئات، من اللوحات التي تعبر بالصور المحسوسة عن المعاني والمعقولات.. أي أمام «التمثل» و«التصوير»!..

  • فعندما يتحدث القرآن الكريم عن الذين كفروا، فأحبط الكفر أعمالهم، وأضاع الثمار المرجوة من مثلها، نجد «يمثل» هذه «الفكرة» فيعرضها في «صور» محسوسة، و«يرسمها» في لوحات فنية تراها العين عندما ينطق بكلماتها اللسان!.. فأعمال هؤلاء الكفار: رماد هبت عليه الريح العاصفة، فلم تبق منه لأصحابه كثيراً ولا قليلاً! [مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد]..
  • ولوحة فنية أخرى يصور فيها القرآن هؤلاء الكافرين الذين جعلهم تنكبهم عن الحق ودعوته وهديه بمثابة الصم البكم المعطلة ملكاتهم العقلية، أما ما يهذون به فليس إلا النعيق!. [ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون]. أما اليهود الذين حولوا كتابهم، التوراة، إلى «شكل» غاب من ساحتهم ما به من «مضمون» فإنهم كمثل الحمار، يحمل الكتب الثقيلة الكثيرة دون أن يدري من مضمونها شيئ أو ينتفع بقليل من هذا المضمون!: «مثل الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، والله لا يهدي القوم الظالمين].
  • أما ذلك البائس الذي أتاه الله الآيات، فانسلخ منها بدلاً من أن يلتزمها ويهتدي بها، فإن الغواية قد أصابته ببؤس جعل منه مثل الكلب اللاهث في كل الحالات: [واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون].أما هؤلاء الذين تركوا الاستنصار والاستعانة بالله وأسبابه وطرقه، وركنوا إلى غيره، وهما منهم أن لدى هذا الغير نصراً يستعيضون به عن نصر القادر الحكيم، فإن ما يعتمدون عليه لا يعدو، في قوته، «قوة» بيت العنكبوت!: [مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كان يعلمون].
  • وطلاب الحياة الدنيا.. أولئك الذين يقفون منها عند حدود اللعب واللهو والزينة والتفاخر بما لا يستقر ولا يثبت ولا يدوم… يرسم القرآن الكريم لهم ولما اختاروه ووقفوا عنده لوحات تجسد لهم الضياع الذي اختاروا والبؤس الذي ينتظرهم انتظار المصير!.. فهذا النبات الذي جادت به الصحراء بعد أن زارها المطر، سرعان ما تصيبه الصفرة، ثم يصبح حطاماً!: [اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور].. [واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً].. [إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخرجت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون]..
    نعم.. كذلك يفصل الله الآيات.. وكذلك يصور القرآن الأفكار فيحل المعقولات إلى صور محسوسة نعرضها آياته الكريمة في لوحات!..
  • أما أولئك الذين يفسدون ثمرات إنفاقهم الأموال بالرياء والسمعة والتفاخر، عندما يجعلونها المقاصد والغايات من وراء الإنفاق، فإن إنفاقهم هذا تراب وغبار غطى سطح جبل صخري أملس، فالناظر إليه يحسبه تراباً، لكن وابل المطر سرعان ما يعري الزيف ويكشف الصلد ويذهب بثمرات الإنفاق الذي لم يقصد به وجه الله!: [يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا أصدقائكم بالمن والأذى كالذي ينفق ما له رثاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي كما هو الواجب، وكما هو شأن المؤمنين، فإن ثمراته تبقى، بل وتزدهر وتتضاعف: [ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها فطل، والله بما تعملون بصير]..
    لوحتان تجسدان الأفكار والمعقولات بالصور المرئية والمحسوسة، تعرضهما الآيتان المتتابعتان: فالتراب الذي يعلو الصخر سرعان ما يذهب به المطر.. بينما يسبب هذا المطر النماء للحديقة التي تعلو الربوة فتؤتى أكلها ضعفين، فشتان ما بين الربوتين المتقابلتين، عندما ينزل عليهما المطر فتتحول إحداهما إلى صخرة جرداء بينما تصبح الثانية جنة غناء!..
  • والكلمة.. الفكرة.. كثيراً ما تتحول في آيات القرآن الكريم، بالتمثيل، إلى صورة محسوسة، ينمى إبداعها الحاسة الفنية للمتدبرين المتفكرين!: [ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتى أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون].
    وفي مقابل هذه الشجرة ذات الأصل الثابت الراسخ والفروع السامقة في السماء، والتي تعطي طيب العطاء في كل الأحايين.. في مقابلها، وعلى الضد منها صورة الكلمة الخبيثة!: [ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار]؟!.
    هكذا.. وعلى هذا النحو تتناثر في القرآن الكريم تلك الصور التي تجسد الأفكار وترسم المعقولات وتحول المعاني إلى لوحات فنية تقرأ باللسان وترى بالبصيرة وترتسم في المخيلة… الأمر الذين ينفي، نفياً قاطعاً، ما يزعمه البعض ويتوهمه البعض الآخر من موقف غير ودي للقرآن من الرسم والتصوير!.

ماذا فيه عن التماثيل؟!

غير أن باستطاعة الذين يتهمون الإسلام بتهمة إضعاف الحاسة الفنية، بناء على قولهم إنه قد حرم التصوير والنحت للأحياء ذات الروم، باستطاعتهم أن يقولوا: إن تعبير القرآن بالصور قد حد من تأثيره تحريم «الفكر الإسلامي» للتصوير والنحت، وهو تحريم تتعدد أسانيده في الأحاديث النبوية الشريفة، ويؤيده الكثير من الفقهاء… فالقضية ما تزال قائمة… قضية الموقف من الإنسان.. هل له أن يصور الأحياء؟! أم أن ذلك حرام ممنوع؟!.

واستكمالاً لعرض موقف القرآن الكريم من هذه القضية. وتمهيداً للنظر في موقف السنة النبوية منها ـ نود أن ننبه إلى أن القرآن الكريم لم يتخذ من التصوير للأحياء موقفاً معادياً.. بل لقد أناط الأمر بالمقاصد والغايات والنتائج والثمرات.. فإذا كانت الصور والتماثيل وسائل للشرك بالله، وسبلاً ينحرف البعض، بتعظيمها، عن عقيدة التوحيد، كان الرفض لها والتحريم لصنعها هو موقف القرآن.. أما إذا كانت لمجرد الزينة ولإبراز براعة الإنسان وقدرته ولتجميل الحياة وتنمية الحس الجمالي عند الإنسان، وكذلك إذا كانت لتخليد القيم والمعاني والمآثر الطيبة والجميلة..الخ..الخ.. فإنها عندئذ تصبح من الطيبات المباحة، بل والمقصودة المرغوبة، باعتبارها من نعم الله على الإنسان!.
ولقد عرض القرآن الكريم للحديث عن «التماثيل» ـ صراحة وبالنص ـ في موطنين اثنين.. وجاء حديثه عنها في أحد الموطنين حديث الرافض المحرم.. وفي الثاني حديث العادلها من نعم الله على الإنسان…
ففي سورة «الأنبياء»، وبصدد الحديث عن قوم ابراهيم، عليه السلام، أولئك الذين اتخذوا التماثيل أصناماً عبدوها من دون الله، جاء حديث القرآن معادياً لهذه التماثيل، ومن ثم ـ وبالتبعية ـ لصناعتها عندما تستهدف هذا الشرك بالله.. [ولقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنابه عالمين. إذ قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟. قالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين. قال: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين. قالوا: أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين؟. قال: بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين].
ولم يقف الموقف القرآن من هذه «التماثيل» ويمحو وجود هذه الأصنام.. فاستمر سياق القرآن يتحدث عن قول ابراهيم، عليه السلام، لقومه: [وتالله لأكيد من أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين. فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون].
وما صنعه ابراهيم مع «التماثيل» المعبودة هو ما صنعه خاتم المرسلين محمد () عندما طهر شبه الجزيرة من أثر لها، وأذن في الناس، يومئذ، وهو يحطمها، قائلاً: [جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً]!..
أما الموطن الثاني الذي عرض فيه القرآن ـ باللفظ ـ للحديث عن التماثيل، فكان في معرض تعداد نعم الله سبحانه على نبيه سليمان عليه السلام، فلقد ذكر القرآن «التماثيل» وصنعها وصانعيها باعتبارها من نعم الله على نبيه سليمان!.. فهو قد سخر له الريح… وأتاح له عيناً تفيضب بالنحاس المذاب ـ [القطر] ـ وسخر له الجن تصنع له زينة الحياة الدنيا: بيوتاً عالية ـ [محاريب] ـ وحفراً كبرة ـ [جفان]… وقدوراً راسيات… وأيضاً: «تماثيل» من زجاج ونحاس ورخام، تصور الأحياء، بل وتصور الأنبياء والعلماء! ـ كما يقول المفسرون ـ… [ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذابا لسعير. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور]… «فالتماثيل» هنا ـ وعند انتفاء مظنة عبادتها ـ هي من نعم الله على الإنسان، وعاملها وصانعها إنما يعملها [بإذن ربه].. وعلى الذين أنعم الله عليهم بهذه النعمة مقابلتها بالشكر لله!..
إذن… فموقف القرآن الكريم من التصوير والتماثيل، للأحياء، ليس واحداً. وليس مطلقاً.. فحيثما تكون سبيلاً للشرك بالله، فهي حرام، والواجب تحطيمها… أما عندما لا تكون هناك مظنة لعبادتها فهي من نعم الله، التي يجب على الإنسان أن يقصد إليها، وأن يتخذ منها سبيلاً لترقية حسه وتجميل حياته وتزكية القيم الطيبة وتخليدها…
لكن.. هل اتخذت السنة النبوية من الصور والتماثيل ذات هذا الموقف القرآني؟!… أم أنها قد اتخذت، فقط، موقف المنع والنهي والتحريم؟!..
إن البعض ينطلق من ظاهر نصوص عدد من الأحاديث النبوية، فيرى أن السنة قد حرمت الصور والتماثيل للأحياء ـ حيواناً كان أو إنساناً ـ وأنها بذلك قد نسخت الإباحة التي كانت لها في شريعة النبي سليمان.. لكننا إذا طلبنا تبيان علة هذا النسخ فسنجد أنها: تحول الصور والتماثيل إلى مع بودات عندما ظهر الإسلام، كما كان حالها لدى قوم إبراهيم (عليه السلام)، وهو ما لم تكنه زمن نبوة سليمان… وإذا كانت الأحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً، فإن التحريم للتماثيل والصور سيصبح، بداهة، مرهوناً بمظنة اتخاذها أنداداً تشارك الله في الألوهية والتعظيم، فإذا ما انتفى هذا السبب وزالت هذه المظنة انتفى التحريم وعادت الإباحة حكماً للصور والتماثيل!..
ولحسن الحظ.. فإن «النظرة الشاملة» وأيضاً «الاستقرائية» للأحاديث النبوية التي رويت في «الصور والتماثيل» تؤكد هذا الذي نذهب إليه، وتقطع بأن التحريم مرهون بكون هذه الصور والتماثيل مظنة العبادة والإشراك بالله، كما أنها تفصح عن أن هذه الأحاديث التي تنهي عن «الصور والتماثيل» إنما كانت تعالج شؤون جماعة بشرية هي قريبة عهد بالشرك والوثنية، وأن توحيدها لله سبحانه قد خرج بها من هذه الحالة خروج الدواء بالمريض من مرحلة العلة إلى بدايات طريق الشفاء.. فهي قد خرجت من الوثنية وعبادة الصور والتماثيل، لكنها لا تزال في «دور التفاهة»، الأمر الذي استدعى تركيز الأحاديث النبوية على النهي عن اتخاذ الصور والتماثيل كيلاً تعود هذه الجماعة إلى المرض من جديد!..


السنة.. والصور والتماثيل

وبادئ ذي بدء… فإن لدينا عدداً من الأحاديث النبوية تنهي عن التصوير… وعن اتخاذ الصور والتماثيل…. لكننا يجب أن نستحضر، ونحن نتدبرها، المناخ والبيئة والإطار الذي قيلت فيه، حتى ندرك المقاصد والعلل والحكم والغايات.. فهي قد قبلت لمؤمنين بالله الواحد كانوا حتى الأمس القريب يعبدون الصور والتماثيل.. وهؤلاء المؤمنون كانوا محاطين بعبدة الصور والتماثيل الذين لم يؤمنوا بعد… وصناع النسيج والأثاث والأدوات ـ وهم في الأساس من غير العرب ـ كانوا يزينون مصنوعاتهم ومنسوجاتهم بصور الآلهة ـ (الأصنام) ـ.. فكان النهي عن هذه الصور نهياً عن الوثنية، ودعوة لتنقية المنازل من صور الأصنام المعبودة في الجاهلية، وسعياً لاجتثاث جذور المرض الوثني، وذلك حتى تبرأ هذه الجماعة البشرية تماماً من الشرك والتعدد، وترسخ في قلوبها عقيدة التوحيد… ولذلك جاء النهي عن الصور التي تمثل الأحياء ـ وهي التي كانت تعبد ـ ولم يحدث نهي عن صور الشجر أو تلك التي تحاكي الطبيعة، إذ لم تكن من المعبودات… فالمستهدف ليس «الفن»، وإنما الوثنية والمسارب التي يمكن أن تؤدي إلى عودة الإشراك بالله!..

  • وفي إطار هذا النهي نقرأ قول الرسول (): «من صور صورة عذب يوم القيامة حتى ينفخ فيها، وليس بنافخ…»،.. أي حتى ينفخ فيها الروح فيحييها.. وأنى له أن يصنع ذلك!….. ولقد جاء رجل من أهل العراق، كان يحترف التصوير، جاء إلى عبد الله بن عباس فقال له: يا بن عباس، إني رجل أصور هذه الصور وأصنع هذه الصور، فافتني فيها!؟» فقال له ابن عباس: «أنبئك بما سمعت من رسول الله، سمعت رسول الله يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم!».. ثم استطرد ابن عباس فأشار على الرجل أن يصور ما لا حياة فيه، فيمارس الفن في غير ما هو مظنة الوثنية مما جاء فيه النهي والتحريم، فقال للرجل: «.. فإن كنت لا بد فاعلاً فاجعل الشجر وما لا نفس فيه».

  • ولقد وضع الرسول () هذا الحكم وهذا الموقف موضع التطبيق، فقاد المسلمون حملة إزالة وتحطيم لصور المعبودات الوثنية وتماثيلها… صنعوا ذلك بالمدينة ـ قبل فتح مكة وتطهير الكعبة ـ ففي الحديث الذي يرويه علي بن أبي طالب يقول: «كان رسول الله في جنازة، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسهر ولا قبراً إلا سواه ولا صورة إلا لطخها؟ فقال: [سبعة]: أنا يا رسول الله، فانطلق، فهاب أهل المدينة، فرجع!. فقال علي بن أبي طالب: أنا أنطلق يا رسول الله، فانطلق، ثم رجع، فقال: يا رسول الله، لم أدع بها وثناً إلا كسرته، ولا قبراً إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها، ثم قال رسول الله: من عاد لصنعة شيء من هذا كفر بما أنزل على محمد!…». فالإزالة هنا كانت لرموز الوثنية، بما فيها البور وشواهدها!.
  • ويوم فتح مكة… أمر النبي عمر بن الخطاب أن يتقدمه إلى الكعبة فيزل من داخلها الصور والتماثيل المعبودة، والتي كانت تمثل ابراهيم واسماعيل ومريم… فعن ابن جريج: «… أن النبي نهى عن الصور في البيت، ونهى الرجل أن يصنع ذلك. وأنه أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح، وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه..»… ويروي ابن عباس أن النبي «لما رأى الصور في البيت ـ يعني الكعبة ـ لم يدخل، وأمر بها فمحيت. ورأى ـ [صور] ـ ابراهيم واسماعيل، عليهما السلام، بأيديهما الأزلام، فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بالأزلام قط!»… وفي البخاري أن عمر بن الخطاب كان يمتنع عن دخول الكنائس من أجل ما فيها من التماثيل والصور المعبودة «وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل»!.
    فالنهي، في النظرية والتطبيق، يستهدف مظان الشرك وشراك الوثنية والروافد التي تحفظ الحياة لنقيض عقيدة التوحيد!.. وليس التصوير أو النحت كفن من الفنون!..

  • فإذا ما جئنا إلى التجربة العملية والذاتية لرسول الله () مع الصور، وفي داخل منزله، ومع أهله، رأينا الأحاديث التي تحكي هذه التجربة شاهدة على نقول.. فعندما تكون الصور مظنة تعظيم، أو تمثل شاغلاً يلهي عن الصلاة والاستغراق في التعبد بين يدي الله، أو مظنة أن التوجه في الصلاة إنما هو إليها!.. عندما يكون الأمر ذلك أو نحواً منه، يكون نهي الرسول عنها، ودعوته لإزالتها.. فإذا ما تحولت هذه الصور عن أماكنها هذه، فزالت عنها تل المظنة، غدت مقبولة في بيت النبوة، بل وأصبحت مما يستخدمه الرسول، عليه الصلاة والسلام!..
    فعائشة، أم المؤمنين، تروي الحديث فتقول: «قدم رسول الله () من سفره، وقد اشتريت نمطاً ـ ]ثوباً من صوف ـ أو بساطاً] ـ فيه صورة، فسترته على سهوة بيتي ـ [السهوة: الرف، أو الطاق، أو الكوة..] ـ فلما دخل ()، كره ما صنعت، وقال: أتسترين الجدر يا عائشة؟! فطرحته، فقطعته مرفقتين ـ [وسادتين] ـ فقد رأيته متكئاً على إحداهما وفيها صورة!». فكراهة الرسول، هنا، للصورة قد ارتبطت بكونها ترفاً يستهدف مجرد ستر الجدار! وبكونها، بهذا الوضع في مثل هذا الموقع مما يستقبله المصلي، فتشغله، أو تكون مظنة استقبالها في الصلاة!.. فلما انتقلت الصورة إلى الوسادة، لم ينه عنها الرسول، بل استخدم الوسادة «وفيها الصورة» كما تقول عائشة في الحديث!..ويؤكد هذا التفسير ـ هذا إذا كان محتاجاًَ إلى تأكيد؟! ـ حديث الصحابي أنس بن مالك ـ وهو خادم الرسول، العارف بشؤون منزله ـ الذي يقول فيه: «كان قرام ـ [ستر] ـ لعائشة قد سترت به جانب بيتها، فقال رسول الله (): أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي!»… فالنهي خاص بمكان وضعه، والسبب في التحريم هو أن تصاويره تعرض أمام الرسول وهو في الصلاة… أي أن العلة هي قصد الابتعاد عن ما يشغل عن الصلاة، وإزالة كل ما من شأنه إيجاد شبهة التعظيم لغير الله!.. ولذلك.. فعندما تزول هذه الشبهات وهذه المحاذير عن الصور والتماثيل، فإن الحكم فيها والموقف منها يتغير بالتأكيد… فليس القصد هو تحريم الصور والتماثيل، لمجرد أنها فن، وبعلة أنها صور وتماثيل!.. وإذا كان القرآن الكريم ـ كما مر ـ قد حكم لنا نبأ التماثيل في عهد سليمان باعتبارها نعماً إلهية يصنعها صانعوها بإذن الله، فإن النبي ()، يحدثنا عن سوق في الجنة كل بضاعتها الصور، صور النساء والرجال!.. فعلي بن أبي طالب يروي قول الرسول: «إن في الجنة سوقاً ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور من السناء والرجال، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها!..»… فهي لن تقود إلى شرك أو وثنية.. ومن ثم فهي حلال.. بل ونعمة من نعم الله، وبعض من نعيمه على الصالحين يوم الجزاء!..بل إن مجتمع المدينة ذاته، ذلك الذي شهد التحريم للصور ـ نظرياً وعملياً ـ عندما كانت مظنة للشرك والوثنية ـ إن هذا المجتمع ذاته قد تغيرت نظرته للصور والتماثيل عندما أخذ يبرأ من مرض الوثنية والتعدد.. فعندما دخل المسور بن مخرمة على عبد الله بن عباس «يعوده في مرض مرضه، فرأى عليه ثوب استبرق وبين يديه كانون عليه تماثيل، فقال له: يا بن عباس! ما هذا الثوب الذي عليك؟! قال: وما هو؟! قال: استبرق! قال: والله ما علمت به، وما أظن رسول الله نهى عنه إلا للتجبر والتكبر، ولسنا بحمد الله كذلك. قال: فما هو الكانون الذي عليه الصور؟!. قال ابن عباس: ألا ترى كيف أحرقناها بالنار؟!..». فابن عباس يرى أن تحريم الاستبرق علته التجبر والتكبر، فإذا زالت العلة زال التحريم.. ويرى كذلك، إن علة تحريم التماثيل هي مظنة تعظيمها، فأم وقد وضعت حيث لا تعظيم لها، وأما وقد أمن الناس من مظنة عبادتها، فلا تحريم!. وعندما ينزع الصحابي أبو طلحة الأنصاري نمطاً ـ [ثوباً من صوف ـ سترا] ـ من على فراشه، فيسأله الصحابي سهل بن حنيف: «تنزعه؟! فيقول: لأن فيه تصاوير، وقد قال فيها رسول الله ما قد علمت!» يرد عليه سهل بن حنيف قائلاً: «أو لم يقل الرسول: إلا ما كان رقماً في ثوب؟!».. فيعلمنا بذلك أن النهي ليس مطلقاً، وإن ما كان مقصوداً به المنفعة ـ من الصور ـ وبعيداً عن مظنة الشرك والعبادة فلا نهي عنه ولا تحريم فيه!.

إذن… فالسنة النبوية، مثلها في ذلك مثل القرآن الكريم، لا تحرم الصور والتماثيل على التعميم والإطلاق.. وإنما التحريم فيها، كالتحريم في القرآن، خاص بالمواطن التي تصبح فيها هذه الصور والتماثيل شراكاً للشرك وحبالاً للوثنية وسبلاً لتعظيم غير الله. أما إذا كانت للمنفعة، وتجميل الحياة وزينتها المشروعة وتخليد القيم الفاضلة وتزكيتها… فإن موقف السنة النبوية يصبح معها، لا ضدها، لأنها بذلك تنتقل من الأمور الضارة إلى حيث تصبح واحدة من نعم الله على الإنسان!.


موقف الفقهاء

وعلى الرغم من أن الكثرة الكثيرة من فقهاء المسلمين قد وفقت عن حرفية الأحاديث المحرمة للتصوير، ولم تربط هذا التحريم وتوقته بفترة نقاهة العرب الذين أسلموا من مرض الوثنية الجاهلية، وإنما تركوا، بما كتبوه في الفقه، انطباعاً بتأييد التحريم للصور والتماثيل، الأمر الذي وإن لم يمنع ازدهار الفن التشكيلي في حضارتنا إلا أنه جعل النظرة الدينية إليه هي النظرة إلى «الواقع» الخارج عن مباركة الفقهاء!.. على الرغم من ذلك، فإن قطاعاً هاماً من المفسرين للقرآن ومن الفقهاء ـ وخاصة فقهاء المذهب المالكي ـ قد أباحوا التصوير والنحت إذا كانت لهما ضرورة اجتماعية أو تربوية..

فالمفسر: النحاس، أحمد بن محمد بن اسماعيل المرادي (338هـ 950م) يحدثنا عن أن قوماً من المفسرين والفقهاء قد قالوا: إن «عمل الصور جائز» وأنهم قد استدلوا بالآية التي جعلت من صنع التماثيل سليمان نعمة من نعم الله [يعملون له ما يشاء من محاريب تماثيل].. واستدلوا كذلك بصنع المسيح عيسى ابن مريم، بأمر الله، لتماثيل الطير [.. أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكمن من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله]… فعيسى قد صنع تماثيل للطير من الطين، وجاز ذلك عندما لم تكن شبهة وثنية تلحق بالعقائد بسبب هذه التماثيل.

ويحدثنا المفسر الأندلسي: مكي بن حموش [355 ـ 437هـ 966 ـ 1045م] في كتابه [الهداية إلى بلوغ النهاية] ـ وهو سبعون جزءاً في معاني القرآن وتفسيره ـ يحدثنا عن «إن فرقة تجوز التصوير» مستدلة بهذه الأدلة ذاتها.

والقرطبي (671هـ 1273م] يشير إلى اجتهاد فقهاء المالكية بجواز التماثيل عندما تقتضيها ضرورات التربية، مثل تربية البنات التي تستدعي تعويدهم على اللعب بالمدمى ـ من «عرائس» وغيرها.. فيقول: «… وقد استثنى من هذا الباب ـ [باب الخلاف في التحريم] ـ لعب البنات، لما ثبت عن عائشة أم المؤمنين أن النبي () تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع، ولعبها معها. قالت: كنت ألعب بالبنات ـ [أي اللعب ـ الدمى ـ العرائس] ـ عند النبي، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل ينقمعن ـ [يتغيبن وراء سرت] ـ منه، فيسر بهن ـ [يبعثهن] ـ إلي فيلعبن معي؟!».
فعائشة تلعب بعرائسها ـ وهي دمى وتماثيل لأحياء آدمية مع صواحبها.. والرسول يرى ويرضى، بل يبعث لها بصواحبها يلاعبنها إذا هن اختبأن منه حياء!..
وفي [طبقات ابن سعد] ما يفيد تنوع هذه الدمى.. فلقد كان فيها دمى للخيل أيضاً.. فعن عائشة قال: «دخل علي رسول الله () يوماً وأنا ألعب بالبنات، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: خيل سليمان. فضحك!».
ثم يعقب القرطبي على هذه القضية فيحكي أن العلماء قد أباحوا الدمى واللعب بها، للدور الذي تقوم به في التربية، وخاصة تربية البنات «حيث يتدربن على تربية أولادهن» منذ الصغر بالألفة التي تنشأ بينهن وبين دمى العرائس والأطفال!..

بل إننا واجدون لدى مجتهد آخر من مجتهدي المذهب المالي ما هو أكثر من إباحة التصوير والتماثيل، التي تتطلبها مصالح الأمة العملية وتنمية معارفها العلمية وتربية حاستها الفنية وتهذيب طباعها وسلوكها.. واجدون لدى الإمام القرافي، أبو العباس أحمد بن إدريس [684هـ 1285م] الاشتغال بفن النحت والتصوير، لا مجرد الإفناء بإباحته فقط!… فهو يتحدث عن ممارسته فن صناعة الدمى والماثيل، فيقول في كتابه [شرح المحصول]: «.. بلغني أن الملك الكامل وضع له شمعدان ـ وهو عمود طويل من نحاس له مراكز يوضع عليها الشمع للإنارة ـ كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة الملك، فإذا انقضت عشر ساعات ـ [أي حان وقت الفجر] طلع الشخص على أعلى الشمعدان، وإصبعه في أذنه، وقال: صبح الله السلطان بالسعادة. فيعلم أن الفجر قد طلع؟!..».
يحكي القرافي عن هذا الشمعدان الذي استخدمت فيه التماثيل ـ تماثيل الإنسان ـ آلة يقاس بها الزمن، وفيها الحركة والصوت معاً!.. ثم يعقب فيتحدث عن تجربته هو في صنع شمعدان مماثل، به إلى جانب تمثال الإنسان تمثال أسد، فيقول: «.. وعملت أنا هذا الشمعدان، وزدت فيه: أن الشمعة يتغير لومها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد إلى الحمرة الشديدة، في كل ساعة لها لون، فإذا طلع شخص على أعلى الشمعدان، وإصبعه في أذنه، يشير إلى الآذان، غير أني عجزت عن صنعة الكلام؟!».
فههنا فقيه، مجتهد، مارس صناعة الفن، فكان مثالاً، يصنع تماثيل الإنسان والحيوان، وفي صنعته هذه تتتابع وتتعدد الألوان؟!
وهكذا… فإلى جانب الذين منعوا التصوير والنحت، في تراثنا الفقهي، كان هناك الذين أباحوا هذا الفن، بعد أن أمنت الأمة خطر الشرك وعبادة هذه التماثيل والصور، بل وكان هناك الفقهاء المجتهدون الذين مارسوا هذه الصناعة فكانوا: فقهاء ـ مجتهدين ـ فنانين»!.

العصر الحديث

عندما شرعت مدرسة التجديد الديني تزيل عن الفكر الإسلامي غبار العصور المظلمة ـ عصور المماليك والعثمانيين ـ وجدنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده [1266 ـ 1323هـ 1849 ـ 1905م] يطرق هذا الباب، باجتهاده وتجديده، فيعلن مباركة الإسلام لهذه الفنون، وينبه على دورها النافع في تسجيل معالم الحياة وحفظها، وفي ترقية الأذواق والحواس، والاقتراب بالإنسان من صفات الكمال!.

ولقد عرض الأستاذ الإمام لهذه القضية، قضية دور «الفنون التشكيلية» في حياة الأمة، أثناء سياحته في جزيرة «صقلية» سنة 1903م. ففي «صقلية» زار المتاحف والمقابر ومواطن الآثار التي تحتفظ وتحكي، بالصور والتماثيل، آثار الغابرين.. وكان يرسل إلى مجلة [المنار] فضولاً يحكي فيها مشاهداته في رحلته، وفي هذه الفصول كتب عن هذه الفنون، وعرض لرأي الإسلام في الصور والرسوم التماثيل..
والذين يتأملون الصفحات التي كتبها الأستاذ الإمام حول هذه القضية يطالعهم الرجل ذواقة للفن، عاشقاً للإبداع الفني، الأمر الذي يضيف إلى تجديده في الدين والأدب واللغة قسمة أخرى تجعل له فضلاً لا ينكر في السعي لتجديد حياة الأمة بواسطة الفنون!.. فهو يتحدث، في شاعرية راقية، عن الرسم كفن يضاهي الشعر ـ الذي هو ديوان الأمة العربية منذ القدم ـ غير «أن الرسم: شعر ساكت، يرى ولا يسمع، كما أن الشعر: رسم يسمع ولا يرى؟!..».
ثم يعرض للحديث عن منافع هذه الفنون ودورها في حفظ تراث الأمة على مر الأزمنة، وما يعنيه ذلك من حفظ للعلم والحقيقة والتاريخ، كي تظل شاهدة فاعلة لمن يأتي من أجيال «فحفظ الآثار ـ الرسوم والتماثيل ـ هو حفظ للعلم والحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها!».
ثم يأتي الأستاذ الإمام إلى القضية الشائكة والخلافية.. قضية موقف الإسلام من هذه الفنون وأصحابها، فيدلي بالقول الفصل في فائدتها، لتغير الملابسات والمقاصد التي دعت إلى نفور المسلمين منها في عصر البعثة النبوية، يوم كانت الرسوم والصور والتماثيل إنما تتخذ كي تعبد مندون الله، أو على الأقل كانت مظنة شبهة، لتعظيمها دينياً، فكان أن نهى عنها الرسول عليه الصلاة والسلام… أما الآن، وبعد زوال هذا الأمر بالكلية، وبعد أن لم تعد الرسوم والتماثيل مظنة شبهة العبادة أو التعظيم الديني، وبعد أن وضحت منافعها في ترقية أذواق الأمة، وحفظ حقائق تاريخها وعلومها، فإن رضاء الإسلام عنها، بل ومباركته لها، أمر لا شك فيه!..
والأستاذ الإمام عندما صاغ اجتهاده هذا وسطر لنا تجديده في هذا الميدان، كان يوجه حديثه إلى الشيخ محمد رشيد رضا [1282 ـ 1354هـ 1865 ـ 1935م] صاحب مجلة [المنار].. وكانت [المنار] تنشر هذه الفصول التي يصف فيها سياحته دون توقيع… وكان يتولى يومئذ منصب «مفتي الديار المصرية» ويتربع على عرش الإمامة والاجتهاد في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها!..
وفي هذه الفصول أخذ الشيخ محمد عبده يتحدث إلى الشيخ رشيد رضا، عن هذه القضية، فقال، بعد وصفه لما شاهد من الرسوم والصور والتماثيل في متاحف صقلية وأديرتها وكنائسها ومقابرها وميادين مدنها، وبعد حديثه عن دور هذه الرسوم والصور والتماثيل في «حفظ العلم وتخليده… قال:
«… وربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية؟، إذا كان القصد منها ما ذكر، من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية، وأوضاعهم الجسمانية؟ هل هذا حرام؟ أو جائز؟ أو مكروه؟ أو مندوب؟ أو واجب؟…. فأقول لك:
إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محى من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك، بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة ـ [لاحظ أن المفتي هو المتكلم؟!] ـ فإذا أوردت عليه حديث: «إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون»، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو، والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين. والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان، وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف، وأوائل السور، ولم يمنعه أحد م العلماء، مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضع النزاع، أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه، على الوجه الذي ذكر.
أما إذا أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صور، طمعاً في أن الملكين الكاتبين، أو كاتب السيئات على الأقل لا يدخل محلاً فيه صور، ك ما ورد، فإياك أن تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل؟!، فإن الله رقيب عليك وناظر إليك حتى في البيت الذي فيه صور، ولا أظن أن الملك يتأخر عن مرافقتك إذا تعمدت دخول البيت الذي فيه صوراً؟!..
ولا يمكنك أن تجيب المفتي: بأن الصورة، على كل حال، مظنة العبادة، فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضاً، مظنة الكذب، فهل يجب ربطه؟!، مع أنه يجوز أن يصدق، كما يجوز أن يكذب؟!.
وبالجملة، فإن يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل….. وليس هناك ما يمنع المسلمين من الجمع بين عقيدة التوحيد ورسم صور الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية، وتمثيل الصور الذهنية..».
هكذا صاغ الأستاذ الإمام، في الفنون التشكيلية، ما يشبه الفتوى الشرعية، فقرر أنها أداة لحفظ الحقيقة العلمية، بل و«وسيلة من أفضل وسائل العلم»، وأنها فنون راقية، ترتقي بذوق الإنسان، كما يرتقي به فن الشعر، وغيره من الفنون التي ليس على الإبداع فيها كلام ولا ملام في الإسلام!..
وهو، بذلك، قد اقتحم ميداناً وعراً من ميادين التجديد والإصلاح في فكر الإسلام الحديث وحياة المسلمين المحدثين.

وبعد…


فهل هناك شك، الآن، في أن موقف الإسلام من «الفن التشكيلي» هو الود والتعاطف، والتزكية والمباركة، على الرغم مما هو شائع عن موقف الإسلام في هذا الميدان؟!..

  • إن القرآن الكريم قد ميز بين التماثيل والصور، عندما تكون سبيلاً للشرك بالله، والانحراف عن نقاء عقيدة التوحيد، فحرمها إذا كانت كذل أو فطنة لذلك.. وبينها إذا كانت سبيلاً للمعرفة، وحفظ للحقيقة، وتهذيب النفس، وتنمية حاسة الذوق والتذوق لدى الإنسان… فاعتبرها من نعم الله على الإنسان، و تحدث عن صنعها، إذا كانت مستهدفة لهذه الأغراض الخيرة، باعتباره صنعاً يتم «بإذن الله»!..
  • كما أن التعبير القرآن الكريم، عن الأفكار والمعقولات، بالصور «الحسية ـ الفنية» شاهد على استهدافه تنمية الحاسة الفنية لدى المؤمنين به.. فهو مع الفن والجمال، لا ضده، كما يتوهم نفر من المتعصبين ضد الإسلام ونفر من المتعصبين ـ بلا وعي ولا علم ـ للإسلام؟!.
  • أيضاً.. فإن الأحاديث النبوية، التي حرمت التصوير والنحت، إنما كانت تعالج مرض الشرك والوثنية، وتطبب جماعة بشرية كانت حديثة عهد بالتوحيد وقريبة عهد بعبادة الصور والتماثيل… فعلة التحريم ظاهرة، وتؤكد على أنه مؤقت بقيام العلة، وليس مطلقاً مؤيداً…
    وليس هذا مجرد استنتاج… فكثير من الأحاديث التي سقناها في هذه الدراسة قاطعة بذلك.. ومن ثم فإن موقف السنة النبوية، من هذه القضية، متسق تماماً مع موقف القرآن الكريم منها.
  • أما الفقهاء الذين وقف كثير منهم عند حرفية نصوص الأحاديث، ولم يبصروا ارتباط تحريمها للصور بعلة هذا التحريم، ودوران هذا التحريم مع هذه العلة وجوداَ وعدماً… فإن آخرين منهم قد اتخذوا موقفاً مغايراً، فأفتوا بجواز الصور والتماثيل، طالماً أن خوف الشرك والوثنية غير قائم، وتحدثوا عن دور هذا الفن في العلم والتعليم والتربية والتهذيب. بل ومارس بعضهم صنعة هذا الفن الجميل.. فكانت حياتهم واجتهاداتهم وممارساتهم التجسيد لموقف الإسلام الحق من هذا الفن.. موقف التزكية والمباركة، طالما كان فناً راقياً، يسعى أهله به إلى ترقية حياة المسلمين وتمكينهم من تذوق نعم الله الجميلة التي أفاضها على الطبيعة، وسخرها لتجميل حياة الإنسان.