اليابان الشعب الذي لا ينهزم و لا ينكسر، يقدس العلم والتعليم ويمتلك إرادة فولاذية وقدرة عجيبة على الخروج من الأزمات، يقول خبراء علم الاجتماع بأن العزلة الجغرافية التى عاشتها اليابان ولدت لدى شعبها قوة في الاعتماد على النفس ومواجهة التحديات، وقد بدا ذلك جليا من خلال تعاطيها مع الأحداث والكوارث التى عاشتها، آخر زلزال ضرب اليابان وأحدث تسونامي توهوكو في مارس 2011، تضرر المفاعل النووي بفوكوشيما خلف خسائر مدمرة، لم تمض إلا أشهر قليلة حتى تم إصلاح جميع الخسائر وإعادة المدن المتضررة إلى أحسن مما كانت عليه من قبل مع إضافة أجهزة حماية جديدة ومتطورة، هذه القدرة على البناء والتغلب على الأزمات هي نتيجة مباشرة لثورة البحث العلمي التي عرفتها اليابان منذ سبعينيات القرن الماضي.

خلال الفترة ما بين 1970 و1980 بدأت اليابان تدريجيا في فك الارتباط مع الخارج في مجال البحث العلمي والاعتماد على نفسها من خلال إنشاء مراكز بحث وجامعات متطورة في مجال البحث العلمي، استقلالية اليابان في مجال البحث العلمي وقدرتها على تطوير منظومتها البحثية كان عاملا أساسيا في زيادة قوتها التنافسية وظهورها كقطب صناعي جديد في العالم.

العصر الذهبي للبحث العلمي في اليابان

مع بدايات عام 1980 تم إنشاء وكالة العلوم والتكنلوجيا في اليابان معلنة بذلك بدء ما يعرف بـ”عصر الاستقلال التكنلوجي لليابان”، وهكذا قامت الحكومة اليابانية في هذه الفترة بتوجيه جهودها إلى دعم السياسة الجديدة في مجال البحث العلمي، مع حلول عام 1986 كانت المخصصات المالية  للبحث العلمي من الدخل القومي لليابان تفوق مخصصات الولايات المتحدة الأمريكية.

انعكس هذا الأداء بشكل ايجابي جدا وحقق نجاحا كبيرا أبهر المهتمين بمجالات البحث العلمي حيث أنه بعد ثلاث سنوات من تطبيق سياسة الحكومة اليابانية وصل عدد العاملين في مجال البحث العلمي إلى 700 ألف شخص وهو ما يفوق عدد العاملين في هذا المجال في كل من فرنسا، بريطانيا وألمانيا مجتمعين، وأصبحت اليابان تخرج أكبر عدد من المهندسين في العالم بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي، ومن بين 1.2 مليون براءة اختراع مسجلة عالميا سنة 1985 كانت 40% من هذه الاختراعات لليابانيين، وفي الولايات المتحدة الأمريكية كان 19% من ما يقارب 120 ألف براءة اختراع مسجلة لمخترعين يابانيين.

من أجل تحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية أنفقت اليابان في تلك الفترة 1987 ما يقارب 39.1 مليار دولار في تطوير البحث العلمي وإنشاء المراكز البحثية والمختبرات والجامعات المتخصصة وشكل هذا المبلغ نسبة 2.9% من الدخل القومي وهي النسبة الأعلى عالميا، كانت هذه الفترة وحتى سنة 2000 بمثابة العصر الذهبي لأداء البحث العلمي في اليابان .

تراجع في قوة المنافسة بعد ظهور الصين

فقد شهدت فترة ما بعد 2000 تراجعا ملحوظا لأداء اليابان، حيث تراجع عدد البحوث اليابانية واقتباساتها مقارنة مع الصين وفرنسا وبريطانيا وكوريا الجنوبية، وكان هذا  مثار نقاشات وانتقادات واسعة في المجتمع الياباني. تراجع اليابان في مجال البحث العلمي وصل ذروته في سنة 2011 حينما احتلت اليابان المركز الرابع عالميا في عدد البحوث المنشورة بـمعدل 31,487 بحث من مجموع البحوث العالمية المقدرة بـ 392,074، بينما  احتلت الصين المرتبة الثانية عالميا ب 76,664 بحث.

تميز وعبقرية رغم التراجع

رغم تراجع اليابان في عدد البحوث المنشورة من المرتبة الثانية عالميا إلى المرتبة الرابعة ، إلا أنه لا يزال لدى هذه الأمة العظيمة ما تقدمه للبشرية ولا يزال عطائها مستمرا في مجال البحث العلمي وكأنها تريد أن تقول أن التراجع لا يعني الانهزام. في سنة 2016 فاز البروفوسير الياباني يوشينوري اوسومي لأبحاثه عن الالتهام الذاتي التي أدت دورا حاسما في فهم تجدد الخلايا وردة فعل الجسم على الجوع والالتهابات.

وفي عام 2015 أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في ستوكهولم فوز الياباني تاكاكي كاجيتا والكندي آرثر بي مكدونالد بجائزة نوبل للفيزياء لعام 2015 لاكتشافهما ان جسيمات النيوترنيو هي ذات كتلة، نجاح الياباني تاكاكي يأتي ليعزز مكانة اليابان في مجال البحث العلمي.

المنظومة البحثية في اليابان

تمتلك اليابان منظومة بحثية قوية ومتميزة تشمل العديد من مراكز البحوث والمختبرات ومدن تعليمية ويشمل البحث جميع مجالات البحث العلمي من الزراعة والصناعة والتكنلوجيا والطب والهندسة وغيرها. ومن ضمن هذه المراكز والمختبرات:

المركز البحثيRiken: من أكبر مراكز البحث العلمي في اليابان ومن أكثرها عطاء وتميزا تأسس سنة 1917 في العاصمة طوكيو، ويمتلك الآن عدة فروع مختصة في البحث العلمي تنتشر في مختلف مناطق اليابان.

المدينة العلمية Tsukuba: ويطلق عليها أيضا المدينة الأكاديمية، وهي من أكبر المدن العلمية في اليابان تأسست 1970 وتضم هذه المدينة 46 مركز بحث وجامعتين، وتسهم بشكل كبير في مجال البحث العلمي والأكاديمي في اليابان.

الجمعية اليابانية لتعزيز العلوم (JSPS):  مركز بحث مستقل تم إنشاءه بهدف دعم وتعزيز البحث العلمي، تم إنشاء هذا المركز سنة 1932، منذ إنشاءها وحتى الآن تعمل الجمعية اليابانية لتعزيز العلوم على إطلاق برامج توجيهية وتطويرية لحقل البحث العلمي في اليابان.

دروس عميقة من تجربة اليابان في مجال البحث العلمي ، تجربة ساهمت في رقي وازدهار هذه الدولة ووضعها في مصاف الدولة المتقدمة ، إنها تجربة  ملهمة  لنا كشعوب عربية وإسلامية تتوق إلى تغيير واقعها وحجز مكان في منظومة الدول المتقدمة، لا يبدواالآسيويون أكثرا ذكاءا ونضجا منا، ولا حتى أكثر قراءة للواقع ولا أكثر فهما له، لكنهم أقدر على مقارعة التحديات والتغلب على الصعوبات، وفوق ذالك أقوى إرادة وأكثر تصميما على تحقيق أهدافهم. فهل نفهم تلك الدروس على بساطتها؟