“أعظم سخرية، أننا في سعينا، الذي لا نهاية له، لملء حياتنا بالراحة والسعادة، خلقنا عالمًا لا يحتوي على أي منهما”[1] ربما تلخص هذه المقولة علاقة الإنسان بالبيئة، ففي سعي الإنسان للسيطرة على البيئة، وتحقيق رفاهيته، أضر بنفسه وأفسد البيئة المحيطة به، ورغم أن مشكلات البيئة تقيد كثيرا من حركة البشر، لكن تبقى للاستجابات المجتمعية دورها في إيجاد التناغم أو التنافر بين الإنسان والبيئة.

تحيط البيئة بالإنسان من كل اتجاه، من التربة والماء والهواء والغلاف الجوي، لكن منذ الثورة الصناعية تكاثرت التهديدات البشرية للبيئة، على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسان، تهديدٌ يطرح  تساؤلات مصيرية، منها: هل يمكن أن ينمو الاقتصاد دون تدمير البيئة؟ وهل التغيرات التي طرأت على الحياة الإنسانية، تهدد مصير الأرص كلها؟ وهل أصبح الإنسان أكثر تأثيرا وتهديدا وخطرا على البيئة من ذي قبل؟.

يؤرخ كتاب “البيئة: تاريخ الفكرة” تأليف “بول وورد” و”ليبي روبن” و” سفوركر سورلين” والصادر عن عالم المعرفة في مايو 2023 في 270 صفحة، لظهور مفهوم البيئة، وما ارتبط به من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، وتطوره ليصبح حقلا معرفيا جديدا تصب فيه علوم ومعارف متنوعة طبيعية وإنسانية وتكنولوجية، وكيف انتقل البيئة كمصطلح وعلم من إطاره التخصصي الضيق ليغطي اهتمامات معرفية واسعة.

الواقع أن البيئة لم تعد محصورة في موضوع العلوم الطبيعية، فهي ليست منعزلة عن التاريخ والسياسة والآداب والاقتصاد، فعلم التاريخ البيئي حقل معرفي مستقل في الدراسات الأكاديمية، ويمكن تعريفه بأنه “تاريخ العلاقات المتبادلة بين البشر والطبيعة” ومعنى هذا أن الأرض كلها بما فيها الغلاف الجوي أصبحت موضوعا للدراسة.

البيئة..إدراك مختلف

قدرات الإنسان لا محدودة في تدمير البيئة، سوءا بالأسلحة أو الصناعات الملوثة، أو تدمير التنوع البيولوجي، أو الافراط في الاستهلاك، وأمام هذا التحدي، أصبحت البيئة هما عالميا مشتركا، فالتأثيرات البيئية لا تتقيد بالحدود الجغرافية، التي وقع فيها الاعتداء على البيئة، ولكن تتجاوزها إلى مناطق متعددة أخرى في العالم.

منذ توقف المدافع في الحرب العالمية الثانية، انصرف البشر إلى إعادة البناء والانتاج، ولم تمض سنوات، حتى أطل مصطلح البيئة عالميا، فظهرت أسئلة جديدة أمام البشرية، مع توسع العالم في إنشاء المدن العملاقة، وابتعاد مصادر الغذاء عن تجمعات السكان، وشكل هذا عبئا ضخما على البيئة.

ومع صعود الإنسان للفضاء، ورؤيته للأرض، وتطور العلوم والمعارف الخاصة بـ”الكوكب الأزرق” أو الأرض كما بدت من الفضاء، أصبح الإنسان قادرا على رؤية الأرض بصورة مجملة، وفهم قضاياه، وهو ما انعكس في الاهتمام بالبيئة وبالغلاف الجوي، الذي تكاثرت فيه الطائرات، والتي زادت-حاليا- على (39) ألفا، تنقل ثلاثة مليارات شخص سنويا، وقد تصل رحلاتها إلى (16) ألف رحلة في وقت الذرورة في وقت واحد.

يلفت كتاب “البيئة: تاريخ الفكرة” الانتباه إلى دور الكوارث البطيئة في إثارة الاهتمام بالبيئة، ويُقصد بها التغيرات التي تحدث في البيئة بفعل الإنسان، مثل: حالات الجفاف أو “تحمض المحيطات”[2] نتيجة استخدام الكيماويات الزراعية، كذلك التأثير في طبقة الأوزون، فالبيئة حسب كتاب “البيئة: تاريخ الفكرة” أصبحت”هشة، خاضعة للتلوث والاعتداء” وهو ما أفسح للبيئة أن تصعد إلى قمة الاهتمامات العالمية، فجاء المصطلح كفكرة في ظل الاحساس بالشؤم والريبة المرتبطين بالبيئة.

الربيع الصامت

بدأ ظهور مصطلح البيئة عالميا عام 1948 مع كتاب “الطريق نحو البقاء” Road to Survival  لـ”وليام فوغت” والذي كان مصدر إلهام للحركة البيئية العالمية، وثق الكتاب الحالة البيئة في العالم حينها، محذرا من تزايد السكان في العالم، كتهديد وجودي يفوق الأسلحة النووية، تميز الكتاب أنه تحدث عن الأرض ككل، وعن جميع الشعوب التي تحيا عليها، وأطلق مقولته المشهورة :”نحن شركاء على هذه الأرض”…كان خطابا جديدا، لا يرفرف حول الثروة أو الأيديولوجية؛ بل يتحدث عن الأرض كلها، التي وصفها أنها تتألم تحت أقدامنا، وصل الكتاب إلى 30 مليون قاريء، وكانت دعوته الأساسية هي ضبط النمو السكاني العالمي، كان ثورة في التفكير البيئي والتبصر بالبيئة سياسيا، وولد إدراكا بقوة التأثيرات البيئة على الحياة الإنسانية، وتغير تفكير العلماء في كيفية الحفاظ على البيئة، والذي تحول من قضية محلية إلى قضية كوكبية، بعدما أصبح الحفاظ على البيئة قضية أخلاقية.

ومع زحف التصحر على الأرضي الزراعية أخذ الوعي البيئي يتزايد أهميته، بعدما جنى الإنسان آثار أفعاله على الأرض، وأطلقت صيحات بيئة مفادها أن “الكيفية التي يتصرف به البشر هي التي ستحدد فرص بقائهم في عصر قادم” ومن هنا نُظر إلى أفعال البشر البيئية على أنها قوة جيولوجية هائلة تستطيع التأثير في البيئة.

ومع زيادة الوعي ظهرات الوزارات البيئية ووكالات حماية البيئة وبرامج الأمم المتحدة لحماية البيئة والمؤتمرت البيئية والوثائق والاتفاقات البيئية، ومما ساهم في تشكيل مفهوم البيئة:

المستقبل: فالتوجه نحو المستقبل ارتبط بكيفية تعامل الإنسان مع البيئة، ومن هنا أصبحت البيئة انشغالا سياسيا واقتصاديا، واقتحمت الكثير من النقاشات العالمية المستقبلية، وأحس الجميع بوطأة الأخطار، ومسئوليتهم لمواجهتها.

الخبرة: تطور العلوم المختلفة وتقدمها أتاح نمو الاهتمام بالبيئة، وتعمقت هذه الخبرة مع ضخامة المعلومات المتوفرة عن البيئة والقدرة على الدمج بينها ومعالجتها، مما أتاح رسم صورة كلية عن الأخطار والمخاوف البيئية التي تهدد العالم.

مع مطلع الستينيات من القرن الماضي برزت البيئة كمجال محتمل لسياسات حكومية، ولم يأت نهاية العقد، حتى اكتسبت البيئة طابعا مؤسسيا، فكان الحديث عن تلوث الهواء وعلاقة ذلك بالازدحام في المدن وعوادم السيارات، ومع السبعينيات ظهرت الوزارات البيئية في بريطانيا وفرنسا، ووكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة، ومع الثمانينيات تصدر المشهد البيئي النقاشات وكثر الحديث عن إزالة الغابات وفقدان التنوع البيولوجي والتغير المناخي.

ومع تطور المعارف والقياسات الخاصة بالبيئة أدرك العلماء حجم الكارثة التي يلحقها الإنسان بالبيئة، ومن التحذيرات القوية التي يؤرخ لها في المجال البيئي، كتاب “الربيع الصامت” Silent Spring لـ” راشيل كارسون” الصادر عام 1962 والذي حذرت فيه من كارثية المبيدات الحشرية على البيئة، حفز الكتاب حراكا سياسيا، نظرا لأن “كارسون” أوضحت أن الإنسان قادر على تلويث البيئة بالكامل، فالإنسان أصبح ضد الأرض، ومن هنا أخذت كلمة البيئة في الظهور، وكانت مدلولاتها تعني الأخطار الموجودة في الطبيعة والتي تسبب فيها الإنسان.

أخذ مفهوم البيئة يتعزز في المجال السياسي منذ العام 1965 مع إرسال تقرير للرئيس الأمريكي “ليندون جونسون” بعنوان “نحو استعادة جودة بيئتنا” ركز على التلوث في التربة والمياه والهواء وتأثير ذلك على الصحة، كان التقرير يكتظ بالأرقام التي تؤكد أن العالم في ورطة ويحتاج إلى إنقاذ.

ومع إنفاق العالم مليارات الدولارات على الأبحاث البيئية، وتعدد المؤسسات البيئية التي تغطى الأرض، أصبح للبيئة ثقل عند رسم السياسات، ومن الصعب التغاضي عن المخاطر البيئية، ونمت حركات حماية البيئة كظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وكأن الغشاوة انقشعت عن الفكر الإنساني، الذي لم يكن يدرك حجم تأثير إفساده للبيئة على مستقبل الإنسان والأرض معا، وأن تدمير الإنسان للبيئة، لم يعد في قدرة الطبيعة إصلاحه، وأن على الإنسان التوقف عن تلك العبثية والإفساد، وأن يسعى الإنسان للسيطرة على نفسه قبل أن يسيطر على البيئة، فالإنسان هو المشكلة وليس الطبيعة، وأن علاج البيئة يكمن في الإنسان نفسه.

ومن خلال كتاب “البيئة: تاريخ الفكرة” وكتاب “الطريق نحو البقاء” وكتاب “الربيع الصامت”، ومع تطور المعرفة البيئية زادت الثقة في الأرقام، وأصبحت البيئة قابلة للإدارك والتنبؤ، وأتاحت الأرقام رصد التغيرات البيئة بصورة واضحة، وفهم المسار الذي ستتجه إليه البشرية مع تصاعد الأزمات.