يعد التعلم الذاتي من أهم استراتيجيات التعلم الحديث، وهو أحد أهم الأنماط فاعلية في العملية التعليمية، وهو أسلوب يتيح للمتعلم توظيف مهارات التعلم بفاعلية، مما يسهم في تطوير الإنسان في العملية التعليمية من خلال مخاطبته، من ناحية السلوك والمعرفة والوجدان، بحيث يمكن الإنسان أن يتعلم بنفسه دون الاعتماد على الوسائل التقليدية من الذهاب للمدرسة أو المعهد أو الجامعة، أو حتى التلقي المباشر من الأستاذ، بل يدرس من خلاله الطالب بعض المعارف والعلوم ، وقد يستعمل بعض البرامج أو المشاهدات المرئية لتشرح له المعلومات التي يريد أن يتحصلها، أو المهارات التي يريد أن يجيدها.

وكثير من الناس يعتبر ( التعلم الذاتي) من استراتيجيات التعليم الحديث التي لم تعرف من قبل، وأن نشأتها إنما جاءت من خلال المناهج الغربية في التربية والتعليم وليس لها علاقة بأنماط التعليم القديم في حياة المسلمين القدامى، خاصة أن غالب الطرق القديمة التي عرفها المسلمون كانت تقوم على المشافهة والتعلم من خلال ذهاب الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم ويتلقون العلوم والمعارف من المعلمين والمدرسين، وهي الطريقة التي تسير عليها معظم المناهج التعليمية في العالم.

وإن كانت هناك بعض المعارف والعلوم التي يمكن للإنسان أن يتحصلها بنفسه، إلا أن الحديث عن ( التعلم الذاتي) في علوم الشريعة عامة وفي علم الفقه خاصة يكاد يكون بعيدا جدا، بل وجدنا من يحذر من (التعلم الذاتي) في علوم الشريعة، وأنها علوم لابد من أخذها على يد الشيوخ، ولا يمكن للطالب أن ينال منها قسطا وحده.

إلا أن الإمام الشاطبي – رحمه الله- في كتابه ( الموافقات) في قسم المقدمات تحدث عن طريقتي التعلم:

الطريقة الأولى: المشافهة، وهي أن يأخذ طالب العلم مشافهة عن شيوخه ومعلميه.

الطريقة الثانية: المطالعة، وهي أن يتعلم الطالب العلم عن طريق مطالعة الكتب، لكنه اشترط لذلك أمرين:

الأول: أن يكون له كتاب يعنى بمصطلحات العلم الذي يدرسه حتى إذا أشكل عليه شيء رجع إليه ليفهم ما خفي عليه معناه.

الثاني: أن يراجع شيوخه فيما أغلق عليه مما قرأه ولم يفهمه، حتى يفتحوا له مغاليق العلم.

وهذه الطريقة الثانية، وهي طريقة المطالعة، والتي تحدث عنها الشاطبي كانت – في ظني-  هي من أوائل الإشارات إلى ما عرف اليوم بـ ( التعلم الذاتي)، فقد تنبه الشاطبي إليها، واعتمدها إحدى طرق التعلم.

وإن كان الشاطبي- رحمه الله- قد تنبه إلى مفهوم ( التعلم الذاتي)، وأنها إحدى طرق التعلم، إلا أن الإمام ابن بدران الحنبلي – رحمه الله- قد قدم لنا طريقة عملية للتعلم الذاتي، حتى في أصعب العلوم التي يتصور أن يتعلمها الإنسان ذاتيا، وهو علم الفقه، فقد ذكر الإمام ابن بدران الحنبلي في كتابه: ( المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، (ص: 489- 490)) إلى أنه من واجبات طالب العلم أن لا يقف عند حد التلقي فحسب، بل عليه أن يبذل جهدا في تحصيل طلب العلم مع جهد المعلم.

وقد وضع الشيخ عبد القادر بن أحمد بن بدران طريقة مفيدة للطالب في طلب العلم وهي :

الخطوة الأولى:أن يأتي الطالب على جملة كافية من المتن، ثم ينشغل بحلها وفهمها دون النظر إلى شرحها.

الخطوة الثانية: قراءة شرح الجملة من الشرح؛ امتحانا للفهم الأول، وتصحيح ما كان فيه من خطأ.

الخطوة الثالثة: اختبار الطالب فهمه للشرح على نحو ما فعل مع المتن.

الخطوة الرابعة: الرجوع للحاشية لاختبار صحة فهم الشرح.

الخطوة الخامسة: الاشتغال بتصوير المسألة وحفظها حفظ فهم وتصور لا حفظ تراكيب وألفاظ.

الخطوة السادسة: كتابة المسألة بعبارات من الطالب دون الالتزام بتراكيب المؤلف.

الخطوة السابعة: مراجعة الشيخ وقراءة ما كتبه الطالب عليه حتى يمتحن فهمه ويتحصل ما يزيده الشيخ عليه.

يقول ابن بدران: ” وكنا نرى أن من قرأ كتابا واحدا من فن على هذه الطريقة سهل عليه جميع كتب هذا مختصراتها ومطولاتها، وثبتت قواعده في ذهنه، وكان الأمر على ذلك”.

كما أبان الشيخ عبد الحميد بن باديس الجزائري عن  دور الطالب في التحصيل، وأنه لا يقف عند جهد الأستاذ، بل على الطالب واجب الأداء حتى يتحصل على العلم بطريقة تحصل منها الملكة العلمية، فيقول: “فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها، هذا هو المقصود من الدرس على الشيوخ، فأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع، فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه بمطالعته للكتب ومزاولته للتقرير والتحرير.

ثم إن الدروس إنما تحصل فيها قواعد بعض العلوم، وتبقي فنون كثيرة من فنون العلم يصل إليها الطالب بمطالعته بنفسه وحده، أو مع بعض رفاقه، فلا ينتهي من مدة دراسته العلمية في الدروس إلا وقد اتسع نطاق معلوماته بفنون كثيرة. ونرى الطلاب اليوم في أكبر المعاهد – كالزيتونة – لا يخرج الطالب عن كتبه الدراسية إلى مطالعة شيء بنفسه مما يكسبه علماً أو خبرةً بالحياة، فيخرج الطالب بعد تحصيل الشهادة وهو غريب عن الحياة. فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي، والتحصيل النفسي ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم، ويوسعوا نطاق التفكير” (ابن باديس، حياته وآثاره، للدكتور عمار الطالبي (4/203) ..

ويلاحظ هنا أن التعلم الذاتي في علوم الشريعة لا يقصد به أن يكون الطالب وحده في طلب علوم الشريعة، وأن يأخذها من الكتب مباشرة، وإنما يقصد بها أن يكون للطالب بذل مع بذل الأستاذ، وأنه يرجع إليه فيما أشكل عليه، بل يرجع إليه حتى يتأكد من فهمه لما تعلم.

وعندي أن هذه الطريقة أفضل من الطريقة التقليدية التي تجعل طالب علم أصم أمام شيخه، مستمعا دون مشاركة منه، بل يقتصر دوره على التلقي دون أن يقوم بأي مشاركة في العملية التعليمية، والأفضل أن يقرأ طالب العلم الدرس قبل ذهابه، وأن يحاول فهمه ابتداء، إن كان يملك ملكة الفهم، ودرس عدة سنوات، ثم يستمع إلى شيخه ويحاوره فيما أشكل عليه، أو يقدم له ما قد يراه من الشرح، حتى يتدرب على النقد والتحليل، ثم يقرأ عن الدرس من المراجع الأخرى غير الكتاب الذي يشرحه الشيخ، وأن يبذل جهدا في اختصار وكتابة ما تعلم، وأن يحتفظ بكراس لما يكتب هو أو يضيف، وأن يكون شريكا لأستاذه في التعلم؛ فهذا مما يمرسه على معرفة مواطن العلم، ويمكنه من البحث والدراسة؛ فيكون جامعا بين الطريقة القديمة والحديثة في التعلم؛ آخذا من كل واحدة محاسنها، تاركا مساوئ كل منهما.