منهج المؤلف في هذا الكتاب كما أشار في المقدمة إيراد الأحاديث الكثيرة من هديه ﷺ في التعليم وأساليبه فيه ، وعزو الحديث إلى مصادره ، والتعليق عليه ، ومن ثم الإشارة إلى كثير من الفوائد والاستنباطات الجليلة ، وذكر مظانها في عدد كبير من كتب الأئمة ، وقد قسم الكتاب إلى شطرين : الشطر الأول اختص ببيان شخصية الرسول ﷺ وذاته الشريفة ، وبيان رفيع مزاياه وتصرفاته الحكيمة ،والشطر الآخر لعرض أساليبه في التعليم وسديد إرشاداته وتوجيهه.
الرسول المعلم ﷺ
جعل المؤلف ـ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله ـ هذا القسم للحديث عن كون النبي ﷺ معلماً بنص القرآن الكريم ، وإثبات السنة المطهرة . ” هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين “.
“.. وإنما بعثت معلماً ” “.. إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مُيسراً “.
ثم شهادة التاريخ بكمال شخصية الرسول ﷺ التعليمية ، بحيث تتقاصر أمامه أسماء كل الكبار الذين عرفوا وذكروا في عالم التربية والتعليم وتاريخهما ، ومن ذلك حضه على محو العامية وتحذيره من الفتور في التعليم والتعلم ، ثم كلمة وجيزة عن شخصيته التعليمية التي تبرز فيها الرأفة والرحمة ، وترك العنت وحب اليسر، والرفق بالمتعلم ، والحرص عليه ، وبذل العلم والخير له في كل وقت ومناسبة ، ثم كلمات جامعة في بيان خصائص هذا الرسول المعلم وفضائله ، وشرف أخلاقه وشمائله ، تتبدى منها جوانب شخصيته العامة ، لأن معرفتها من تمام معرفة شخصيته التعليمية ، التي هي جزء منها ولا تستقل عنها ، كما يتبدى منها أيضاً مبعث قبول أقواله وأحكامه الصادرة عنه ، والتأسي بأفعاله الواردة منه ، ومدى وقعها في النفوس ، وهي تشمل كل جانب من جوانب الحياة والدين ، وقد أثبتها المؤلف رحمه الله من كتاب ” أعلام النبوة ” للماوردي .
ألوان متعددة من الحديث
ويقدم المؤلف ـ رحمه الله ـ لهذا القسم بأن من درس كتب السنة وقرأها بإمعان رأى أن رسول الله ﷺ كان يلون الحديث لأصحابه ألواناً كثيرة ، فكان تارة يكون سائلاً ، وتارة يكون مجيباً ، وتارة يجيب السائل بقدر سؤاله ، وتارة يزيد ما سأل ، وتارة يضرب المثل لما يريد تعليمه ، وتارة يصحب كلامه القسم بالله تعالى ، وتارة يلفت السائل عن سؤاله لحكمة بالغة منه ﷺ ، وتارة يعلم بطريق الكتابة ، وتارة بطريق الرسم ، وتارة بطريق التشبيه أو التصريح ، وتارة بطريق الإبهام أو التلويح “.ثم يسوق نماذج كثيرة للأساليب التعليمية من خلال تعليمات النبي ﷺ المدونة في كتب السنة المطهرة ، وقد وصل بها إلى أربعين أسلوباً مدللاً عليها بالشواهد ، مستنبطاً منها الفوائد ، محلاة بالتعليقات الطريفة اللطيفة ، وما من شك أن من يمعن النظر في هذه الأساليب ، وما أفاده منها التربويون والعلماء المسلمون خلال العصور، وما استنبطوه من طرائق ، يجد لها متشابهات كثيرة في طرائق التعليم وأساليب التدريس في هذا العصر، كانت الريادة فيها لخير المعلمين ﷺ ، كما كان السبق في تطبيقها في وقت متقدم جداً لأتباعه الذين فقهوا عنه ، وتتبعوا آثاره .
أساليبه ﷺ في التعليم
ومما يجدر الإشارة إليه أن كتب التربية والتعليم المعاصرة حفلت بأساليب متعددة ، كان للأسلوب النبوي فضل الريادة فيها ، والإشارة إليها ، وتطبيقها عملياً ، وسنقف هنا عند عشر مما أورده المؤلف ـ رحمه الله ـ لنرى أسبقية الأسلوب النبوي فيها :
ـ التدريج في التعليم (تعليمه ﷺ الشرائع بالتدريج) مقدماً الأهم فالأهم ، ومعلماً شيئاً فشيئاً ، ليكون أقرب تناولاً ، وأثبت على الفؤاد حفظاً وفهماً ، من ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه ” كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن ، والعمل بهن “.
ومن تطبيقاته في أساليب المربين ما قاله ابن شهاب ” ولا تأخذ العلم جملة ، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة ، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي “.
ـ رعاية الفروق الفردية في المتعلمين ، وقد أشار المؤلف إلى أن النبي ﷺ كان شديد المراعاة للفروق الفردية بين المتعلمين من المخاطبين والسائلين ، فكان يخاطب كل واحد بقدر فهمه ، وبما يلائم منزلته ، من ذلك قوله لرجل : ” لا تغضب ” وكررها ثلاثاً ، وأمره لآخر وقد جاء يبايعه على الجهاد والهجرة أن يبقى مع والديه ، ويحسن صحبتهما ، وطلبه من أحدهم وقد سأله ما أكثر ما يخافه عليه ، أن يمسك عليه لسانه !!
ـ تعليمه بالحوار والمساءلة ، وهي طريقة تذهب الملل عن السامع وتجعله يحفظ ما يسمع وقد رآه شاخصاً أمام عينيه كما في حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان .
ـ استعمال وسائل الإيضاح بأشكالها المتعددة (بالرسم على الأرض والتراب) قال جابر: ” كنا جلوساً عند النبي ﷺ ، فخط بيده في الأرض خطاً هكذا أمامه ، فقال : هذا سبيل الله عز وجل ، وخط خطين عن يمينه ، وخطين عن شماله ، وقال : هذه سبيل الشيطان ، ثم وضع يده في الخط الأوسط ، ثم تلا هذه الآية : ” وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم مما وصاكم به لعلكم تتقون “.
ـ ابتداؤه ﷺ أصحابه بالإفادة دون سؤال منهم ! لا سيما في الأمور المهمةالتي لا ينتبه لها كل واحد حتى يسأل عنها ، فكان صلى الله عيه وسلم يعلم أصحابه جواب الشبهة قبل حدوثها ، خشية أن تقع في النفوس فتستقر بها ، وتفعل فعلها السيئ .
ـ تشجيع المحسن في إجابته (امتحانه ﷺ) العالم بشيء من العلم ليقابله بالثناء عليه إذا أصاب .
ـ توظيف المناسبات (انتهازه ﷺ المناسبات العارضة في التعليم) فيربط بين المناسبة القائمة ، والعلم الذي يريد بثه وإذاعته كما في قصة الجدي الميت ، وتهوين أمر الدنيا في قوله : ” فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم “.
ـ تعليمه ﷺ (بالترغيب والترهيب) وعدم اقتصاره على الترهيب خشية التنفير، ولا على الترغيب لئلا يؤدي إلى الكسل وترك العمل .
ـ تعليمه بالعبرة (بالقصص وأخبار الماضين) ليكون في ذلك العبرة والموعظة والقدوة والائتساء .
كما في حديث الرجل والكلب العطش ، وفي حديث المرأة والهرة التي حبستها .
ـ ضبط المعلومات بالكتابة (اتخاذه ﷺ الكتابة وسيلة في التعليم والتبليغ ونحوهما) فقد كان له أكثر من خمسة عشر كاتباً يكتبون عنه القرآن ، وكتاب آخرون إلى الآفاق والملوك لتبليغ الإسلام ، والدعوة إليه .
وبعد أن يورد المؤلف ثلاثين أسلوباً ، من مثل اهتمامه بتعليم النساء ووعظهن ، واكتفائه بالتعريض والإشارة في تعليم ما يستحيا منه ، وتعليمه بالمقايسة والتمثيل ، واستعادة السؤال لإيفاد بيان الحكم ، وإجماله الأمر ثم تفصيله ليكون أوضح وأمكن في الحفظ والفهم ، يختم بالتعليم بذاتيته الشريفة ﷺ ، فهو معلم بذاته الشريفة لكل متعلم ومسترشد ، تتمثل فيه غاية التعليم بأساليبه المختلفة ، فقد كان ﷺ معلماً ، بمظهره ومخبره ، وحاله ومقاله ، وجميع أحواله .