كان تبني مؤسسة الدولة مشروع التحديث إيذانا بتغير وجه الحياة في العالم الإسلامي، فعبر قرنين تقريبا افتتحت بالقرن الثامن عشر تغيرت كافة الهياكل والبنى المؤسسية -كالجيش والمؤسسة الطبية والقانونية- وانتقلت من الشكل التقليدي إلى الشكل الحداثي، وقد ارتبط التحديث بصورة أساسية بالإخفاق الذي مُني به العالم الإسلامي في مواجهته مع الغرب، وقد شاع تفسيران له آنذاك، الأول نظر إليه على ضوء التخلي عن التطبيق الأمثل للشريعة في الدولة العثمانية وولاياتها، والآخر أرجعه إلى الجمود الذي أصاب بنية الدولة، ورأى أن لا مناص من اقتفاء أثر الحضارة الغربية واقتباس منتجاتها، وهو التفسير الذي تبناه المفكرون ورجال الدولة وتحول مع الوقت إلى سياسة عامة للدولة.

شكل التحديث المعرفي فاتحة مشروع التحديث في العالم الإسلامي، وبالإمكان أن نؤرخ له بدخول أول مطبعة ذات حروف عربية إلى البلاد الإسلامية في عشرينات القرن الثامن عشر وذلك بعيد مضي قرنين من اعتمادها في الغرب، وقد اتخذ التحديث المعرفي مسارا سلكته جميع مشاريع التحديث اللاحقة عليه أو بعبارة أخرى لقد صار نموذجا اقتفت أثره المشاريع اللاحقة.

معالم المشروع التحديثي: المطبعة نموذجا

يمكننا إيجاز معالم التحديث المعرفي الذي تبنته الدولة في عدة عناصر، فمن حيث التوقيت جاء دخول المطبعة إلى العالم الإسلامي إثر المواجهات العنيفة مع الغرب، ويلاحظ أن الدول الإسلامية التي عرفت طريقها باكرا إلى المطبعة كالدولة العثمانية ومصر وإيران خاضت حروبا مباشرة مع الغرب، فالدولة العثمانية على سبيل المثال ظلت طوال قرنين تأبى إنشاء مطبعة إسلامية فوق أراضيها -مع سماحها للأقليات الدينية بذلك- ولم تقدم على إنشائها إلا عام 1827 أي بعيد أقل من ثلاث عقود على هزيمتها التاريخية الأولى أمام روسيا والنمسا.

ومن حيث الفاعلين، ينبغي التمييز بين من آمن بضرورة التحديث من الداخل الإسلامي وهم في الغالب من النخبة السياسية والمثقفة الذين ارتحلوا إلى الغرب وهالهم عمق الفجوة الحضارية التي تفصل عالم الإسلام عن الغرب وعادوا وقد آمنوا بضرورة تقليد الغرب واقتباس منتجاته الحضارية، وبين من عُهد إليهم بإنفاذ مشروع التحديث فعليا، وجل هؤلاء غربيون انتقلوا من بلادهم وأقاموا في بلاد الإسلام ونسبة معقولة منهم اعتنقت الإسلام، وباندماج وتحالف هذين الصنفين شق مشروع التحديث طريقه في العالم الإسلامي.

وتطبيقا على التحديث المعرفي وقف وراء إنشاء المطبعة العثمانية رجلان يمثلان هذان النمطان وهما محمد سعيد أفندي وهو سياسي عثماني ارتحل إلى باريس بصحبة والده في مهمة سياسية وهناك شاهد المطبعة للمرة الأولى واقتنع بوجوب إنشاء واحدة في الدولة العثمانية، ولما عاد فاتح إبراهيم متفرقة (1670-1745م) وهو من ذوي الأصول المجرية، وقد ارتحل من بلاده في مقتبل شبابه واستقر به المقام بالدولة العثمانية وتحول إلى الإسلام، وبفضل إلمامه بعدة لغات عهدت إليه الدولة ببضع مهام سياسية خارجية، وقد اقترن اسمه بكونه صاحب فكرة إنشاء أول مطبعة إسلامية ومديرها الأول.

أما من حيث مستهلكي الحداثة، وهم من يقع على عاتقهم عبء تلقي المنتج الحداثي واستهلاكه، وموقفهم على الدوام يمكن تلخيصه في الرفض والمقاومة لمنتجات التحديث، فقد رفض هؤلاء اقتناء الكتاب المطبوع وآثروا المخطوط حسب وصف أحد الرحالة الغربيين الذي لاحظ كتاب ابن سينا المطبوع في الطب يعلوه التراب في احدى المكتبات على حين يقبل المثقفون على النسخ الخطية من الكتاب. ويحتاج هذا الرفض الاجتماعي الواسع إلى بعض التفسير خاصة أنه يبدو غير مبرر، فما الذي يحول دون قبول منتج مادي -لا عقائدي- سيؤدي إلى انتشار المعرفة ورخص تكلفة إنتاجها.

في تفسيرات الرفض الإسلامي

يعلل فريق من الباحثين الغربيين الرفض الإسلامي المبدئي للمطبعة بكون العقل الإسلامي يرفض مبدأ التجديد الذي يرتبط لديه بمفهوم “البدعة” وهي أمر مذموم يخشى معه أن يفتقد الإسلام نقاءه الأولى وتعاليمه الأساسية، من جهة أخرى إذا ما انضاف هذا الجديد الوافد إلى الآخر بحيث آتى من خارج الدائرة الحضارية الإسلامية فإنه في هذه الحالة يغدو مرادفا للكفر[1].

وثمة من يقيم منهم رابطا بين هذا الرفض والنظام المعرفي الإسلامي الذي يقوم على التلقين والتلقي المباشر، فقد تلقى الرسول -صلوات الله عليه- الرسالة السماوية بالتلقي المباشر عن جبريل ونقلها إلى أصحابه بذات الكيفية حتى صارت تقليدا إسلاميا متبعا عبر قرون[2]، وتشكل المطبعة تهديدا لهذا النظام المعرفي حين يغدو بمستطاع المرء التعلم وتلقى المعرفة لا بالتلقين المباشر عبر العلماء وإنما من خلال وسيط هو الكتاب المطبوع ما يعني إمكانية تفكك هذا النظام.

على الجهة المقابلة فإن حججا إسلامية واقعية بإمكانها أن تفسر الرفض ومنها كثرة أعداد النساخين والوراقين الذين عاشوا في الدولة العثمانية والذين قدرت أعدادهم بما يتراوح بين 20 إلى 80 ألفا والإضرار بأقوات هؤلاء هي مسألة محل اعتبارولا ريب، ويضاف لذلك شيوع اعتقاد لدى المسلمين أن المطبعة ستفتح بابا لتحريف الكتب الدينية، ولم يكن ذلك محض افتراض جانبه الصواب كما قد يُظن، فقد قارن المسلمون بين الطبعات الأولى للقرآن التي صدرت في العواصم الغربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي شابها عدم الدقة والإهمال وبين الطبعات الأولى المتقنة والمدققة للتوراة والكتاب المقدس التي صدرت عن ذات المطابع[3]. والواقع أن المسلمين لم ينفردوا بهذا التخوف فقد عرف العالم الغربي بعضا من هذه النقاشات حول الكتاب المقدس في بواكير القرن السادس عشر[4].

على أي حال لقد كانت الأخطاء الطباعية -بغض النظر عن كونها متعمدة أم لا- عاملا دفع العلماء إلى تحريم طباعة القرآن الكريم وامتد التحريم إلى الكتب الدينية التي كان هناك تشكك في إمكانية دخول التحريف إليها، وقد استمر هذا الرفض لمدة طويلة إذ تأخرت طباعة القرآن والكتب الدينية في العالم الإسلامي حتى القرن التاسع عشر.

العقل الفقهي والمطبعة

لم يكن بمقدور الدولة الراغبة في إدخال المطبعة سوى تفكيك الرفض الإسلامي باستصدار فتوى تجيز ذلك، فقد استصدر السلطان العثماني أحمد الثالث (1703-1730م) فتوى من شيخ الإسلام– مفتي الدولة العثمانية- يكشيهرلي عبد الله أفندي تم تضمينها في الفرمان السلطاني القاضي بإنشاء المطبعة.

وتقضي هذه الفتوى بجواز طبع كتب علوم الآلة دون العلوم الشرعية، وقد حمل شيخ الإسلام هذه الجواز على مبدأ المصلحة -إذ ليس هناك من النصوص الشرعية والأدوات الفقهية ما يمكن الاستناد إليه- معتبرا أنه ينتج عن الطباعة كثرة تداول الكتب في الأيدي ورخص أثمانها، غير القبول ليس مطلقا إذ نجد لديه تخوف من هذا المنتج الحداثي حين يختتم فتواه بضرورة تشكيل لجنة لتدقيق هذه الكتب خشية التحريف[5].

وعلى الجهة المقابلة لم نعثر على الفتاوى المضادة التي تحرم الطباعة ولم نقف على حجج الرفض، كما أننا لم نعثر في كتب الفقه الحنفي -المذهب الرسمي للدولة العثمانية- أثر للمناقشات الفقهية حول الطباعة، وهو ما يجعل من مقارنة الآراء الفقهية المختلفة عملا متعذرا، ويفتح المجال أمام احتمالات عديدة، ورغم ذلك نستطيع الادعاء أن القول بالتحريم كان هو الأصل وأن القول بالجواز كان استثناء والقائلين به أقلية، مستندين في ذلك إلى تحريم شيوخ الأزهر -بعد حوالي قرن من هذه الفتوى- الطباعة في مصر، وحتى بعد انتشار الطباعة مع نهايات القرن التاسع عشر ظلت بضع مصرية تشكك في نجاسة مواد الطباعة وفي عدم جواز اشتغال غير المسلمين بطباعة الكتب الشرعية[6].

نخلص من هذا كله أنه بينما اندفعت الدولة في إدخال المطبعة دون أن تعنى بمحاولة التعريف بفوائدها وثمراتها المرجوة مدفوعة بالرغبة في تقليص الهوة الحضارية مع الغرب، فإن العقل المسلم تردد في قبولها مدفوعا بالخشية من تحريف كتبه الدينية التي حفرت في الصدور عبر قرون، وبفعل هذا الامتناع توقفت المطبعة العثمانية عن العمل بعد حوالي عقد من بداية اشتغالها مع وفاة مؤسسها.

 


[1] Robinson, Francis. Technology and Religious Change: Islam and the Impact of Print. In: Modern Asian Studies, Vol. 27, No. 1,(Feb., 1993), p.233.

[2] Ibid.234.

[3]   Ghali, Walid. Print or not print: is that still the question? 38th Annual Conference of The European Association of Middle East Librarians (30th May- 1st June 2016), p.4-5.

[4] Larsson, Göran. Muslims and the New Media Historical and Contemporary Debates, Routledge,2011,p.31.

[5] حقي العظم، مختصر تاریخ: الطباعة والصحافة الترکیة العثمانیة، مجلة المقتبس، ع66 (القاهرة: 1 أغسطس 1908)، ص471- 472 .

[6] راجع، محمد العباسي المهدي الحنفي، الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية، القاهرة: المطبعة الأزهرية، 1301، ج2.