يشغل مشروع نصر حامد أبو زيد (1943-2010) التأويلي موقعًا مركزيًا ضمن مشروعات القراءة المعاصرة للقرآن الكريم التي أخذت في الظهور منذ الربع الأخير من القرن الماضي، وعلى الرغم من تعدد هذه المشروعات وتباين مناهجها وتنوع خلفيات القائمين عليها الفكرية إلا أنه يجمعها ادعاءين أساسيين:

الأول: القول بجدة خطابها واستناده إلى مناهج ومفاهيم وأدوات معرفية لم يسبق إليها أحد من علماء السلف، وتوصلها إلى نتائج جديدة تفتح أبوابا مغلقة في التراث لم يتوصل إليها أحد من الأوائل أو الأواخر .

والثاني: دعواها العقلانية ورفعها لواء الاجتهاد في مواجهة خطابات الانغلاق والتجهيل والتخلف التي تسم الخطابات الدينية الكلاسيكية[1].

وليس مشروع أبو زيد استثناء من ذلك رغم أننا نعده أكثر مشروعات القراءة المعاصرة رصانة وتماسكا، ففي كتابه (التفكير في زمن التكفير) نعت أبو زيد مخالفيه من الأساتذة الجامعيين بالجهالة والصبيانية المعرفية، واحتكر لنفسه نعوت التفكير والاجتهاد وانفتاح العقل وما إليها.

محاور المشروع الفكري

حظي أبو زيد بعدد كبير نسبيا من الدراسات يفوق ما تعرض له رفاقه من رواد القراءة المعاصرة، حيث خضع انتاجه المعرفي الذي يضم أربعة عشر كتابا إضافة إلى عشرات البحوث والمقالات للبحث والدرس، وبتحليل جملة مؤلفاته نجدها تتوزع على عدة محاور، وهي:

– محور فهم التراث وكيفية قراءته: وهو في مقدمة الاهتمامات المعرفية التي شغل بها أبو زيد، ويبرر هذا الاهتمام اعتقاده أن الحقول المعرفية التراثية تأسست من خلال بنية واحدة تجمع بينها جميعا، ومن أهم كتبه في التراث؛ هكذا تكلم ابن عربي، الاتجاه العقلي في التفسير: قضية المجاز عند المعتزلة.

– محور الخطاب الديني: والخطاب الديني لديه يشمل الخطابات الإسلامية المختلفة والخطابات الحداثية، وقد وجه أبو زيدا نقدا مزدوجا للخطابات الإسلامية والحداثية على حد سواء فانتقد خطاب اليسار الإسلامي الذي صاغه حسن حنفي، ومحاولات التعاطي مع النص القرآني حيث انتقد نصر أبو زيد محاولات محمد شحرور ومحمود طه وقاسم حاج حمد وغيرهم من الحداثيين، ومن أهم مؤلفاته في ذلك؛ نقد الخطاب الديني، دوائر الخوف: دراسة في خطاب المرأة، اليسار الإسلامي إطلالة عامة، العنف الأصولي.

– محور التأويل ومحاولة إعادة قراءة النص القرآني: وهو صلب مشروعه الفكري وفيه يقتفي أثر علماء اللسانيات المعاصرين -وعلى الأخص Jurij M. Lotman جورج لوتمان وقد ترجم له أبو زيد اثنين من مؤلفاته إلى العربية- في التعاطي مع النص القرآني باعتباره نصا أدبيا إذ لا فرق بين نص وآخر من حيث تشكلها وأثرها إلا في الدرجة أما في النوع فلا اختلاف، فالمسافة بين النص الديني والنص الأدبي ليست بعيدة، ومن أهم مؤلفاته في مجال التأويل: مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، فلسفة التأويل، النص السلطة الحقيقة.

معضلة تفسير النص: التفسير والتأويل

في مقدمة بحثه المعنون (الهرمنيوطيقا وتأويل النص الديني) يشير أبو زيد إلى أن قضية الهرمنيوطيقا الأساسية هي البحث عن “معضلة تفسير النص” سواء أكان دينيا أم دنيويا، وأنها تثير مجموعتين من الأسئلة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة وحول علاقته بمؤلفه أو مفسره من جهة أخرى، ومعضلة تفسير النص ليست قاصرة على الفكر الغربي وإنما تشمل الفكر الإسلامي الذي عانى ولا يزال يعاني من معضلة تفسير النص في تراثنا القديم أو الحديث.

ويوضح أبو زيد أنه على مستوى التراث والتفسير كان هناك دوما تمييز حاسم بين (التفسير بالمأثور) الذي استند على تجميع الأدلة اللغوية والتاريخية التي تساعد على فهم النص، وبين (التأويل) أو ما يطلق عليه التفسير بالرأي الذي لا يبدأ من المعطيات اللغوية والتاريخية وإنما من موقف المفسر الذي يحاول أن يجد له سندا في القرآن، وغالبا ما وصف التأويل بأنه ذاتي وغير موضوعي على حين وصف التفسير بالمأثور بأنه موضوعي.

إن وجود هذين الاتجاهين التفسيريين يحملانه على الاعتقاد بوجود “معضلة” في التراث الديني حيث يمثل كل منهما زاوية في النظر إلى علاقة المفسر بالنص، ف” الاتجاه الأول يتجاهل المفسر ويلغي وجوده لصالح النص وحقائقه التاريخية واللغوية، بينما لا يتجاهل الاتجاه الثاني مثل هذه العلاقة بل يؤكدها على خلاف في مستويات هذا التأكيد وفاعليتها بين الفرق والاتجاهات التي تتبنى هذه الزاوية”[2].

وينتج عن هذه المعضلة مشكل ميتافيزيقي لم يقف على أبعاده الأولون يتمثل في: كيفية الوصول إلى مراد القرآن، وهل في طاقة الفريقين الوصول إلى القصد الإلهي في إطلاقيته وكماله؟ وهو يجيب على الأخير بالنفي مفترضا أنه ليس بمقدور أحد من المفسرين الوصول إلى القصد الإلهي لكون النص الإلهي يتضمن دلالات غير متناهية لا يمكن الوقوف عندها من جهة ولأنه “لا توجد ثمة قراءة بريئة” من جهة أخرى؛ فكل قاريء للقرآن قادر على أن يستنبط من النص ما يشاء من المعاني والدلالات، إذ أن النص ذاته يحتمل أكثر من قراءة، وليس هناك قراءة منزهة لأن أي قراءة تحمل معاني التبديل والإزاحة للمعنى، وبالتالي ليس هناك قراءة أو تفسير يطابق النص أو مراده مطابقة تامة[3]، وإذا أخذنا بهذه الفكرة فإنه يمكن أن تتولد على هامش النص قراءات لا نهائية التي لا يضبطها ضابط ولا يربطها بالنص الأصلي صلة، ولعل هذا ما حدا بعلماء السلف إلى وضع ضوابط لغوية ومنهجية صارمة للتعامل مع النص القرآني والحديثي.

أنسنة الوحي أم نزع قداسته

وانفتاح النص على عدد لا نهائي من التأويلات ليس هو المشكل الوحيد لدى أبو زيد، وإنما يبدو أيضًا في محاولته علمنة الوحي ونفي القداسة عنه، وحول هذا المعنى يقول أبو زيد أن الوحي الإلهي هو قصد من الله تعالى إلى الإنسان، وخطاب موجه للبشر على لسان نبيه وبلغة قومه، فالوحي ألقاه الله تعالى وتلقاه البشر، أعطاه الله تعالى ونطقه النبي وفهمه الناس، ولا شيء يخرج من لا شيء فالكل حلقات متصلة، وإنما الاختلاف في الصياغة والأثر، فالمسافة ليست بعيدة بين الشعر القديم والقرآن الجديد، ومراحل الوحي متصلة من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام، لا يوجد في الانتاج الأدبي لقوم حلقات مفقودة وإبداع على غير منوال.

والوحي لدى أبو زيد بشري بمعنى أنه معطى لبشر وهو الرسول، ومصوغ بلغة بشرية هي اللغة العربية، ومنقول إلى البشر ليحولوه إلى شريعة في حياتهم العامة والخاصة، نقله الرواة شفاهة ودونه الحفظة كتابة في حياته صلوات الله عليه وسلم، وفهمه الناس وأولوه تأويلات مختلفة، ووهو بهذا المعنى ” إنسانيات، أو إلهيات تحولت إلى إنسانيات، إنه كلام الله عندما أصبح كلاما للبشر”[4].

ويمضي أبو زيد موضحا أن الوحي يعني الإعلام، وأنه غير قاصر على النبوة وحدها بل هو نظام كامل من الإشارات والرموز للحيوان والنبات وليس إلى الإنسان وحده، وأنه كان جزءا من مفاهيم الثقافة السائدة قبل الإسلام، مستخلصا من ذلك ” أن ظاهرة الوحي –القرآن- لم تكن مفارقة للواقع [المادي] أو تمثل وثبا عليه، وتجاوزا لقوانينه، بل كانت جزءا من مفاهيم الثقافة، ونابعة من مواصفاتها وتصوراتها”[5].

وما توصل إليه أبو زيد في أطروحته “أنسنة الوحي” وادعاؤه الجدة في هذا المفهوم ما هو إلا استدعاء لمقولة بشرية الوحي، وهي مقولة قديمة صاحبت نزول الوحي على النبي صلوات الله عليه، وليس هذا فحسب بل إن موقف أبو زيد من النبوة ذاته قديم، وقد نفاه الرازي منذ قرون استنادا إلى أنها تعبر عن رؤية غنوصية، ولعل هذا ما دفع يحيى رمضان الباحث المغربي في اللسانيات إلى الاستنتاج أن مشروع نصر حامد أبو زيد وإن تدثر بدثار المعاصرة إلا أنه مشروع فكري يجد جذوره في الفكر الغنوصي القديم.


[1]  يحيى رمضان، المقاربة الهرمسية للوحي : قراءة في الخطاب اللاديني لنصر حامد أبو زيد، عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مج 16، ع 63، 2011، ص 12.

 نصر حامد أبو زيد، الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص، القاهرة: أوراق فلسفية، ع 10، 2004، ص 4-5. [2]

[3]  محمد تحريشي، تأويل النص القرآني عند نصر حامد أبو زيد، مجلة علامات، ع 30، 2008، ص 30.

 نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، القاهرة: 1990، ص 27-32. [4]

 نفس المرجع السابق، ص 38. [5]