من المعلوم أن الشريعة جاءت للحفاظ على المقاصد الكلية، وقد عبر الفقهاء عنها بتعبيرات مختلفة، أساسها أنها: الحفاظ على الدين والمال والنفس والعقل والنسل أو النسب، وقد يلحق البعض بها العرض.

وقد طرح عدد هذه الكليات وترتيبها وتقديم بعضها على بعض إشكالات في ترتيبها من حيث الأولية والصدارة، ثم من حيث التعارض فأيها يقدم، وبأي مبرر يكون ذلك؟

أولا: عدد الكليات

لا يختلف أغلب العلماء الأقدمين في حصر الكليات بل في جعلها خمسة، ومنهم من يزيد كلية سادسة، كما في قول القرافي: “حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال قيل والأعراض” (شرح تنقيح الفصول: 1/391). وقول الزركشي: “حفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسب فالمال والعرض” (تشنيف المسامع بجمع الجوامع: 3/291) وقول الشوكاني: ” وقد زاد بعض المتأخرين سادسا، وهو حفظ الأعراض، فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم، وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى، وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد، وهو أحق بالحفظ من غيره” (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، 2/130).

ومع ذلك فقد اشتهرت بالكليات الخمسة حتى قال بعضهم: “وتسمى هذه بالكليات الخمس وكل منها دون ما قبله وحصر المقاصد الكلية في هذه ثابت بالنظر إلى الواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء” (ابن أمير الحاج، التقير والتحبير، 3/144) وانظر: (البيضاوي، الإبهاج في شرح المنهاج: 2/151، والقرافي، نفائس الأصول في شرح المحصول 4/1932، والطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة: 3/242).

وقد تعقب المتأخرون كلام المتقدمين بعض التعقب، فاقترح الشيخ الطاهر بن عاشور إضافة مقصد سماه: ” مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال” حيث قال: “لم يبق للشك مجال يخالج به نفسَ الناظر في أن أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظامُ أمر الأمة، وجلبُ الصالح إليها، ودفعُ الضر والفساد عنها” (مقاصد الشريعة: 2/391)  وقد قال الريسوني: ” وعلى كل، فحصر الضروريات في هذه الخمسة، وإن كان قد حصل فيه ما يشبه الإجماع، يحتاج إلى إعادة النظر والمراجعة”. (نظرية المقاصد: 1/44)، ونفس الأمر وقع للدكتور عبد المجيد النجار، فقد اعترض على الحصر في الكليات الخمسة، واقترح زيادات عليها من قبيل: “حفظ إنسانية الإنسان”، و”حفظ البيئة”، و”حفظ المجتمع” (مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة: ص: 49/56) كما قدم لذلك بعض التطبيقات.

ثانيا: أسماؤها

لم يكد الدارسون يتفقون على تعيين الكليات الخمسة، وإن اتفقوا في تسمية أغلبها، وعلى ذلك سنورد الكيات التي لم يخل منها تعداد فيما اطلعنا عليه، ثم تلك التي وقع فيها خلاف، ثم تلك التي لم تذكر أصلا.

1 – الكليات التي اتفق على عدها وتسميتها: العقل، المال، وقد يردان بصيغة الإفراد أو بصيغة الجمع.

2 – الكليات التي اختلف في إدراجها اختلافا شكليا: وهي الدين، فرغم أن بعضهم أسقطها في العد إلا أنه يعيدها بطريقة أخرى غير مباشرة. وتشهد كتاباتهم على رعايتها رغم إسقاط البعض لها من الحساب.

3 – الكليات التي اختلف في تسميتها: وهي: النسب، والنفس؛ فالنسب تارة يتسمى النسل، وتارة يسمى النسب. والنفس تارة تسمى نفسا، وتارة يعبر عنها بالدم وكل ذلك بطريق الإفراد مرة، وبطريق الجمع مرة.

وفي رأيي أن الاختلاف في تسمية كلية الحفاظ على النفس أو الدم راجع إلى ملمح إدخال الجناية على البدن أو عدم إدخالها فيها، فالذين يعبرون بالدم يريدون إدخال الجناية على البدن بشكل أصرح من الذين يعبرون بالجناية على النفس.

4 – الكليات التي يندر إدراجها: وهي العرض. وقد أضافه بعض ونفاه بعض وممن دافع عن إضافته الإمام الشوكاني رحمه الله.

ثالثا: ترتيبها

أما فيما يتعلق بتراتبيتها فللأقدمين فيها مذاهب:

1 – مذهب الترتيب السكوتي، ومن أشهر من رتبها والتزم ترتيبها –وإن لم يدافع عن الوجه الذي على أساسه رتبها- الإمام الغزالي كما في قوله: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم” (المستصفى: 1/174).

2 – مذهب الترتيب التصريحي: كما فعل كل من:

ـ الآمدي، حيث قدم الدين ثم النفس ثم النسل ثم العقل ثم المال، (الإحكام في أصول الأحكام: 4/275-277)

ـ والقرافي في ترتبيه لها حيث رتبها على النحو التالي: “حفظ [الدين] والدماء، والعقول، والأنساب، والأموال” (نفائس الأصول: 4/1932)، ويشهد لعمده إلى هذا الترتب قوله: “تقدم العلة المقتضية حفظ أصل الدين على غيرها من الضروريات وغيرها؛ لأن الدين أهم الكليات الخمسة” (نفائس الأصول في شرح المحصول: 9/3782).

ـ والشوكاني: حيث قال: “وهي خمسة: أحدها: حفظ النفس. ثانيها: حفظ المال. ثالثها: حفظ النسل. رابعها: حفظ الدين. خامسها: حفظ العقل”. (إرشاد الفحول: 2/129-130 بتصرف)

3 – مذهب ترك الترتيب: كما فعل كل من:

ـ الإمام الرازي في قوله: “النفس، والمال، والنسب، والدين، والعقل” (المحصول: 5/160) وقوله: ” النفوس، والعقول، والأديان، والأموال، والأنساب” (المحصول: 5/458)

ـ والبيضاوي في قوله: “حفظ النفس بالقصاص، والدين بالقتال، والعقل بالزجر عن المنكرات، والمال بالضمان، والنسب بالحد على الزنا” (منهاج الأصول [مع شرحه نهاية السول] 1/325). “حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب” (منهاج الأصول [مع شرحه نهاية السول] 1/364)

ـ وابن أمير الحاج، وقد اختار ترتيبها على النحو التالي: الدين، العقل، والنسب والمال. ثم قال: ” وتسمى هذه بالكليات الخمس وكل منها دون ما قبله” (ابن أمير الحاج، التقير والتحبير، 3/144).

ـ والقرافي في قوله: “حفظ الدماء والأعراض والأنساب والعقول والأموال” (شرح تنقيح الفصول: 1/164)، و”حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال قيل والأعراض” (شرح تنقيح الفصول: 1/391). وقد اضطرب ترتيب الإمام القرافي هنا عن ما اعتمده في نفائس الأصول، لذلك يعد من الآخذين بالمذهبين، ولا أملك ترجيحا أرجح به بينهما.

وهذا الاختلاف بين الأقدمين في ترتيب الكليات ينقض ما نسبه الريسوني للبوطي من ادعاء الأخير الإجماع على ترتيب معين للكليات (نظرية المقاصد: 1/47).

رابعا: الترجيح بينها

يعتمد الترجيح بين هذه الكليات على عوامل متحركة يتفاوت الناس في إدراكها، ولعل أقرب مثال يمكن أن نصور به الكيات بغض النظر عن عددها هو مثال الدائرة التي تبدأ من نقطة محددة لا تكون لها أي قيمة حين تسير الدورة وتتكرر…

ولعلنا نجعل الدين ذا أولوية مطلقة تندرج تحته الكليات الأخرى، ويهيمن عليها، بدليل أن الغرض الأصلي من الخلق العبادة “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون“.

ونجعل بعده مباشرة العقل باعتباره أداة الخطاب التي يتوجه الأمر والنهي الشرعيان إليها.

ثم نجعل النفس أو الدم في المرحلة الثالثة، حيث لا يصح التعقل ولا التعبد بدون حياة سليمة من الاعتداء عليها بأي وجه اعتداء كان، على أن نجعل الاعتداء على ما دون النفس أخف من الاعتداء على النفس (كما أشار إلى ذلك العز في قواعده).

ثم نجعل المال في المرتبة الرابعة، باعتباره أداة الحياة التي تضمن ديمومتها واستمرارها. ثم نجعل الحفاظ على النسب أو النسل في المرحلة الخامسة، باعتباره أول محطات التقاء الفردي بالجماعي، على أن نجعل الحفاظ على العرض فرعا عن الحفاظ على النسب.

ثم تبدأ المقاصد الكلية الاجتماعية من بعد ذلك.

من خلال ما تقدم فإن الضبابية الملحوظة في تراتبية المقاصد الكلية –وخاصة عند الحديث عن مكملاتها- تعود إلى ضعف العقل البشري القاصر أمام الوحي الإلهي الدائم أولا.

ثم إلى عدم إدراك مدى الاستقلالية أو التداخل بين الكليات،  فالناظر للرخص من زاوية كونها محافظة على كلية غير الكلية المترخَّص منها قد يتخيل أن المترخص إليها أولى من المترخص منها، لكن إمعان النظر يدفع هذا التوهم، إذ الرخص في الغالب للحفاظ على دوام الكلية المترخص فيها، إن لم يكن بالأعيان فبالإجمال.