استطاع الإنسان أن يتعامل مع النار والريح والشمس والطاقة النووية يوجهها إلى ما فيه منفعته أو لما فيه مضرة غيره فهل استطاع أن يتعامل مع نفسه يديرها إدارة حكيمة، ويقوم بالترويض عن الشر، إن نفسه تذهب به إلى الهلاك وهو يعلم ذلك تماما لكنه ينقاد لها، فهل يستطيع الإنسان التحكم في نفسه بحيث يوجهها إلى الخير ويكفها عن الشر.

إذا نظرنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم :” لا تغضب[صحيح البخاري] مع ان الغضب طبيعة إنسانية، فهل يريد منا النبي صلى الله عليه وسلم أن نمتنع عن شيء موجود في خلقتنا أم نتحكم فيه فنبتعد عن مسبباته ونقلل من آثاره ما استطعنا، ونوجهه الوجهة الصحيحة؟ كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تغضب وقد وصف الله تعالى عباده الصالحين بقوله {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] إنهم يغضبون لكن الغضب لا ينحرف بهم عن أخلاق المسلم يغضبون لكنهم يكظمون غيظهم ويعفون عن أصحاب السوء؟

وكان من علاج الغضب الأخلاق الحسنة تساعد المسلم على التحكم في غضبه فلا تسمح له أن يعامل السفهاء والجاهلين بأخلاقهم وطريقتهم في التعامل بل يتعالى على غضبه وعلى سفالتهم.

 فإذا غضبت فلتكن حكيما لا تضع السيف مكان العصا، ولا العصا مكان الكلمة، لا تجعل الغضب يسيطر عليك، في ساعة الغضب تتهيأ النفس للانتقام لكن أهل الحكمة يروضون أنفسهم ولا يستجيبون لها.

يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم، فالشيطان همه إثارة الغضب لما يتبعه من ظلم وعدوان وصناعة للأحقاد، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم حتى يذهب بعيدا ويخف التوتر الذي يحيط بك.

توضأ فالغضب جمرة تتقد في جوف ابن آدم، والنار نطفأها بالماء، فالوضوء يعمل أيضا على تخفيف التوتر.

هناك شيء معرفي يمكن للمسلم أن يروض به نفسه وهو ما جاء في الكتب السابقة: يقول الله تعالى يا ابن آدم اذكرني عند غضبك أذكرك عند غضبي. عند الغضب تحضر كل عوامل الانتقام وتجد المحرضين عليه، لكن إذا تذكر الإنسان قدرة الله تعالى عليه وغضبه سبحانه على العبد العاصي ورجاؤه أن يكون من أهل قوله عز وجل (إن رحمتي سبقت غضبي)[صحيح البخاري] فيروض نفسه على أن تسبق رحمته غضبه ليكافأه الله تعالى بنفس المكافأة.

ومما يروض النفس على حسن التعامل مع الغضب السكوت اذا اشتعل الغضب لا تتكلم بكلمة تؤذيك في دينك ودنياك فتخسر صديقك وتطلق امرأتك وربما تخرج من دينك.

هذه الإجراءات التي تحدثنا عنها تساعد الإنسان في ترويض غضبه وتقليل آثاره السيئة.

وشيء آخر يمكن ترويض النفس فيه وهو الملل، تمل النفس من الانتظار تريد أن تنطلق حتى لو لم يكن لها وجهة تتجه إليها، لذلك تجد من ينصرف سريعا بعد الصلاة، ولعل في هذا الانصراف السريع تعبيرا عن الملل واستشعارا بطول الصلاة، وهؤلاء يفوتون على أنفسهم فرصة الحصول على ثواب الأذكار التي تلي الصلاة، وثواب أداء صلاة السنة، وخلال هذه الدقائق يكسب المرء الكثير من الحسنات والراحة النفسية لكن العجلة تسبب  الكثير من الخسائر، لأن العجلة من الشيطان.

 يبدأ المسلم في ترويض نفسه في مسألة العجلة عن طريق عبادة الصلاة، ويبدأ ترويض النفس والحصول على السكينة منذ أن ينوي الإنسان الصلاة، فيجد  قول النبي  صلى الله عليه وسلم:  إِنَّ الْعَبْدَ لاَ يَزَالُ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ، تَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ [مسند أبي داود]. فالمسلم يحصد أجر دعاء الملائكة له طوال مدة إقامته، وهل يحمله ذلك على الانتظار وتعلم الانتظار؟؟

السكينة التي تحل على الإنسان ويفتقدها الكثيرون تبدأ من تحقيق الطمأنينة في الصلاة، وإعطاء كل ركن أو فرض أو سنة حقه، فالعجلة التي تقتل صاحبها أو تجعله يفقد عضوا من أعضائه أثناء القيادة المتهورة لسيارته يتدرب المسلم ويروض نفسه على التخلص منها بعبادة الصلاة، فيروض نفسه على الانتظار الفعّال المثمر الذي يعود على النفس بالراحة، وعلى العقل بالتفكر، وعلى اللسان بالذكر، وعلى العلاقات الاجتماعية مع من يشاركك فترة الانتظار توثيقا وتأكيدا.

ومما يمكن ترويض النفس فيه الشح، فحب المال مركوز فيها لكن الإنفاق علامة على الإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم “الصدقة برهان” [مسند أحمد]، وفي محاولة لترويض النفس لتقدم الأدلة على إيمانها وحبها لربها أكثر من حبها للمال، يسأل الإنسان نفسه لماذا لا تنفق فيجيب أخاف أن يأتي علي يوم لا أجد  فيه مالا، فاستمع إلى ربك الذي تعبده وتثق فيه {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]

جرب النفقة الصغيرة يوميا بمبلغ مهما رأيته صغيرا وأنت تنفق انْوِ أن تكون النفقة عنك وعن والديك وأهلك وذريتك ومن أحسن إليك، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يوزع الأجور، ولاتقل إنه مبلغ بسيط.

تخيل مسار الصدقة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» [صحيح البخاري]، مسلم تصدق بما يساوي وزن تمرة أو ثمنها، كم يبلغ ثمن التمرة الواحدة، ومع ذلك يتقبلها الله تعالى بقبول حسن ثم ينميها للمتصدق وتنمو هذه الصدقة سريعا كما ينمو الحصان سريعا، أيضا ولا تزال هذه الصدقة تنمو حتى تصل إلى حجم الجبل، كم يبلغ وزن التمرة أو مساحتها، كم يبلغ وزن الجبل أو مساحته، هذا هو الكرم الإلهي الذي يدعو المسلم لأن يروض نفسه ويقاوم الشح ليحصل على كل هذا الأجر.

الترويض يحتاج إلى الصبر فالنفس لا تنتقل من اليسار إلى اليمين هكذا {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] ابذل المزيد من الصبر.

لا ييأس الإنسان من نفسه بل يجاهدها ناويا أن تتحول إلى الإحسان في الأقوال والأعمال، ويعتبر أن هذا نوع من الجهاد {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69] ولا يزال الإنسان يجاهد نفسه يغلبها وتغلبه حتى يتمكن منها فإذا دعاها إلى الخير استجابت.

رؤية الإنسان أن ترويض نفسه رسالته في الحياة لذلك فهو يسعى إليها بكل سبيل، ويدعو الله تعالى من كل قلبه، ويستمع للمواعظ يحرك بها أشواقه إلى الله تعالى، ويرغب بها هذه النفس الكسولة يحفزها بالتحفيزات القرآنية والتحفيزات النبوية، تلك التحفيزات التي تعده بالخير إن هو استجاب لأمر ربه.

فالصيام الحقيقي هو الذي يستشعر فيه الإنسان معنى الترويض ووضع الحدود للنفس وتوجيه طاقاتها للخير.

والذكر الذي يربط الإنسان بربه ويوفر له قوة يستطيع بها ترويض النفس.

كل الأخلاق الحسنة يمكن اكتسابها بالتدريج والترويض إنما الحلم بالتحلم والعلم بالتعلم والصبر بالتصبر ومن يتصبر يصبره الله، لذلك فإن الحياة هي فترة ترويض الإنسان على ما يحبه الله، يسعى الإنسان إلى تحسين عبادته وتحسين أخلاقه، كما يسعى إلى تحسين وضعه المادي والاجتماعي، ولن يتم له ذلك إلا بترويض نفسه، فمن ملك نفسه ملك العالم.