تطلبت النهضة العلمية التي ظهرت منذ القرن الثاني للهجرة وضع منهجية لتصنيف العلوم والمعارف بحيث يتضح معها حدود كل علم، وكان أول من التفت لأهمية تصنيف العلوم فلاسفة اليونان حيث صاغ أفلاطون أول لبنة في صرح التصنيف وتبعه أرسطوطاليس وجاء من بعدهما فلاسفة الإسلام.فكيف كان مسار تصنيف العلوم عند العرب والمسلمين؟

موجز تاريخ التصنيف واتجاهاته

يتعذر على الدارسين تحديد البداية الحقيقية لتصنيف العلوم عند العرب ضمن الحضارة الإسلامية، لكن هذه الظاهرة تطالعنا منذ أواخر القرن الثاني على يد جابر بن حيان، غير أنها لا تكتسب قوتها إلا في القرن الثالث وتبلغ أوجها خلال القرن الرابع تلبية للتطور المعرفي وتنوع الروافد الثقافية وضروب المعارف التي تتطلب مقايسة العلوم وربما المفاضلة بينها في بعض الأحيان.

كان أول من شرع في الاهتمام بتصنيف العلوم الفلاسفة والمفكرين ذوي الصلة بالثقافات الأجنبية وخاصة اليونانية مثل: الرازي، والفارابي وابن سينا، والتوحيدي، وبعض الوراقين كابن النديم، ثم أدركهم علماء الشريعة في مرحلة لاحقة حيث صنف كل من: ابن حزم والغزالي والبيضاوي والذهبي وغيرهم، ويمكن فهم دوافع الفلاسفة للاتجاه نحو معالجة العلوم على أساس تصنيفي على ضوء عاملين:

  • الأول الرد على التعريفات الساذجة للعلم من قبيل:” العلم أربعة؛ الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان”، أو “العلم علمان: علم يرفع وعلم ينفع” وغير ذلك من الأقوال التي شاعت في خلال هذه الفترة ويتضح منها تجاهل أصحابها لفكرة شمولية المعارف، وإهمالهم للعلوم التجريبية والفلسفية.
  • والثاني الرد على تعصب الفرد للعلم الذي ينتمي إليه، وانتقاصه من شأن العلوم والمعارف الأخرى، وهو ما نجد صداه في الصراع بين أهل الأدب والمنتسبين إلى العلم على نحو ما تطرق إليه أبو بكر الرازي في كتابه (الطب الروحاني)، وضمن ذلك الصراع لم تحظى الفلسفة بأي تقدير من الفريقين، ومن هنا اتجه الفلاسفة لوضع تصنيف للعلوم يحقق التكامل بين المعارف، أو على الأقل يسمح بوضع تصور للعلوم لا ينبذ الفلسفة ولا يهمل الشريعة بل يوفق بينهما ضمن إطار واحد (1) على نحو ما فعل الكندي والفارابي، وقد أقر علماء الشريعة هذا التصور ولم ينكروه.

تأثرت عملية تصنيف العلوم في بدايتها بما كان سائدا لدى اليونان من قبل حيث تم تبني التقسيم الثلاثي للعلوم الذي وضعه أرسطوطاليس الذي قسم العلوم إلى علوم نظرية وعلوم عملية أو آلية [ميكانيكية] ثم قسم العلوم النظرية إلى ثلاثة أجزاء هي: العلم الرياضي، العلم الطبيعي والعلم الإلهي أو الميتافيزيقا، وقد اقتفى ابن سينا أثر هذه القسمة لكنه لم ينقلها بحذافيرها وإنما أدخل تعديلات عديدة عليها، حيث جعل العلم الإلهي في المرتبة الأولى والعلم الطبيعي في المرتبة الثالثة، ثم اتسعت الشقة بين التقسيمات الإسلامية والتصنيفات اليونانية في القرون التالية حيث أصبح للمسلمين تقسيماتهم الخاصة للعلوم الدينية، فضلا عن مخالفة ابن خلدون للتقسيم الأرسطي بصورة قاطعة حين حذف ابن خلدون العلوم العملية وأحل محلها الصنائع، وهكذا ابتعدت عملية التصنيف تدريجيا عن النموذج اليوناني حتى صارت إسلامية خالصة على النحو الذي نجده لدى حاجي خليفة والتهانوي. 

 وبالنظر في المؤلفات الغزيرة التي خلفها العلماء المسلمون نجدها تتوزع ضمن اتجاهين:

  •  اتجاه نظري فلسفي يقوم على إحصاء العلوم والتعريف بحدود كل فرع منها، ويمثله الكندي والفارابي وابن سينا والحسن العامري وغيرهم من الفلاسفة. 
  • واتجاه تطبيقي لا يكتفي بالتعريف بحدود العلم وإنما يدرج المصنفات المندرجة فيه ويعرف بمؤلفيها فيما يشبه العمل البيبليوغرافي، ويمثله ابن طيفور البغدادي في كتابه (أخبار المؤلفين والمؤلفات)، وابن النديم في (الفهرست)، وحاجي خليفة في (كشف الظنون).

خارطة المصنفات

يتعذر علينا تتبع جميع المصنفات في مجال تصنيف العلوم عند العرب لذا فسوف نكتفي بالتعريف بطائفة من أهم الكتب في هذا الباب موزعة على القرون، على نحو يتبين منه التطور الحاصل فيها:

  • القرن الثاني الهجري: وهو القرن الذي شهد بدايات الاهتمام بعلم التصنيف، وفيه وضع جابر بن حيان (رسالة الحدود)، وهي أقدم مصنف وصل إلينا في هذا المجال.
  • القرن الثالث الهجري: وهو الذي شهد الانطلاقة الحقيقية لتصنيف العلوم عند العرب، ففيه وضع الكندي [توفي بعد 252 ه] أسس التقسيم الفلسفي للعلوم في رسالته (كتب أرسطو وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة)، وفيها قسم الفلسفة إلى ثلاثة علوم مرتبة على على النحو التالي: علم الربوبية ويليه العلم الرياضي ويشمل: علم العدد والهندسة والتنجيم، ويليه العلم الطبيعي (02)، كما شهد أيضا تشكل الاتجاه التطبيقي على يد ابن طيفور البغدادي [ت: 280ه] في كتابه (أخبار المؤلفين والمؤلفات).
  • القرن الرابع الهجري: وفيه اتسع نطاق التأليف وبلغ أوج نضجه كما يدل على ذلك التصانيف التي ظهرت خلاله، ومنها (إحصاء العلوم) للفارابي [ت: 339ه] وقد أحصى فيه العلوم الموجودة في عصره علما علما، وعين غرضها بدقة، وبين مجمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وقد جاء في خمس فصول، الأول في علم اللسان وأجزائه، والثاني في علم المنطق وأجزائه، والثالث في العلوم الرياضية، والرابع في العلوم الطبيعية والعلم الإلهي، والخامس في العلم المدني وعلمي الفقه والكلام (3)، وفيه وضع الخوارزمي [ت: 387ه] كتابه الشهير (مفاتيح العلوم) (4)، وأما مصنفات الاتجاه التطبيقي فقد وضع ابن النديم [توفي بعد عام 380 ه ] كتابه الذائع (الفهرست) الذي يقع في عشر مقالات، وقسم كل مقالة إلى عدد من العلوم لا تستوي عددا، وأردفها بكل ما صدر فيها من الكتب، وساعده على ذلك أنه كان يعمل وراقا (5)
  • القرن الخامس الهجري، وأبرز من صنف فيه: ابن سينا [ت: 429 ه] حيث تطرق لذلك كتاب (الشفاء)، وفي رسالته (أقسام العلوم العقلية)، والجرجاني [ت:470 ه] في كتابه الذائع التعريفات وفي (جامع الفنون) وفي (ينابيع العلوم في الفنون السبعة)، والملاحظ أن هذا القرن قد شهد أيضا ظهور الكتابات الأولى لعلماء الشريعة في تصنيف العلوم، ولعل ابن حزم الأندلسي [ت: 456] صاحب رسالة (مراتب العلم) كان أول الفقهاء الذين بحثوا في هذه المسألة، ثم تلاه آخرون.
  • القرن السادس الهجري: وفيه تعزز حضور علماء الشريعة حيث نجد أن الغزالي [ت: 504ه] قد ناقش مسألة تصنيف العلوم عند العرب ضمن كتابه (الإحياء)، كما كتب ابن خير البلوي [ت: 559ه] في كتابه (نموذج العلوم) الذي شمل 24 علما من العلوم المعروفة في عصره، وكتب أبو المظفر الأبيوردي [ت: 507ه] طبقات العلوم. 
  • القرن السابع الهجري: وممن صنف فيه الإمام البيضاوي [ت: 685ه] الذي كتب (موضوعات العلوم وتعاريفها)، وفخر الدين الرازي [ت: 606ه] في(حدائق الأنوار وحقائق الأسرار)، والقفطي [ت: 624] وله (إنباه الرواة) و(تاريخ الحكماء)، وأبو الحسن علي ابن أنجب البغدادي [ت: 674 ه] وله (أخبار المصنفين وأسماء المصنفات).
  • القرن الثامن الهجري: ومن أكثر مصنفاته ذيوعا (إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد) للسنجاري [ت: 747ه]، وفيه يقسم العلوم إلى عشرة علوم أصلية، سبعة منها نظرية وهي: الإلهي والطبيعي والهندسة والهيئة والعدد والموسيقى، والمنطق، وثلاثة عملية وهي السياسة والأخلاق وتدبير المنزل، وهو لا يكتفي بهذا التقسيم وإنما يفرع العلوم النظرية إلى علوم أخرى فرعية، وتبلغ عدد العلوم المذكورة في الكتاب 60 علما، وإضافة السنجاري الحقة تتمثل في تقسيمه العلوم الإسلامية بعيدا عن مصادرها (النقل و العقل) وفقا للتقسيم الشائع، وإنما وفقا لغاياتها فثمة علوم تطلب لذاتها وهي العلوم النظرية وعلوم أخرى غير مقصودة لذاتها وهي العلوم العملية (6).
  • القرن التاسع الهجري: ومن مصنفاته الذائعة (المقدمة) لابن خلدون [ت: 808ه] التي ذهب فيها إلى أن العلوم التي يخوض فيها البشر تعليما وتحصيلا على صنفين: صنف طبيعي يهتدي إليه الإنسان بفكره وهي العلوم الحكمية، وصنف نقلي يأخذ عمن وضعه وهي العلوم النقلية الوضعية، ومنها كذلك (أنموذج العلوم) للفناري [834ه] الذي حصر فيه العلوم في مائة علم، و(موضوعات العلوم) للبسطامي [858ه].
  • القرن العاشر الهجري: وفيه ظهرت طائفة كبيرة من المصنفات وجلها لعلماء من الشرق الإسلامي في إيران والدولة العثمانية مثل: نموذج العلوم لجلال الدين الداوني [ت: 907 ه] و(مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم) لطاشكبري زادة [ت: 968ه]، و(أنموذج الفنون) لميرزا خان الشيرازي [ت:940ه]، و(أنموذج العلوم الإسلامية واللغوية) لعيسى الصفوي [ت: 953ه].
  • القرن الحادي عشر الهجري: ومن مصنفاته (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) وهو من وضع حاجي خليفة [ت: 1068ه]، وهو أشهر المصنفات في علم التصنيف وأكثرها شمولا واكتمالا، و(فهرست العلوم) لحافظ الدين العجمي [1055ه]، و(معادن الجوهر ونزهة الخواطر في علوم الأوائل والأواخر) للعاملي [ت: 1031ه].
  • القرن الثاني عشر الهجري، ومن مصنفاته الذائعة (ترتيب العلوم) لساجقلي زادة [ت: 1154ه]، و(كشاف اصطلاحات الفنون) للتهانوي [1158ه] وهما من المصنفات العثمانية، و(اللؤلؤ المنظوم في معرفة حدود العلوم لمستنصر بن حرم الدين المغربي [ت: 1173ه].
  • القرن الثالث عشر الهجري، ومن مصنفاته (تنويع العلوم) لزين الدين بن محمد بن علي السهروردي الكردي [ت: 1200ه]، و(أنواع العلوم) للحسيني الشيرازي [ت: 1205ه]، و(أنواع العلوم) للمرعشلي الحائري [ت: 1240ه].

خلاصات واستنتاجات

من خلال العرض السابق يمكن أن نتبين بضع مسائل:

– الأولى، أن مسألة تصنيف العلوم وترتيبها لم ينقطع التصنيف فيها ولم يضمحل منذ القرن الثاني حتى مطالع العصور الحديثة، إذ أننا نجد كتب عديدة صدرت خلال القرنين الماضيين مثل: (أبجد العلوم) لصديق حسن القنوجي [1307ه]، و(مبادئ العلوم) لمصطفى الحكيم [ت: 1311ه]، و (اكتفاء القنوع بما هو مطبوع) لإدوارد فان ديك، و(معجم المطبوعات) لإليان سركيس [ت: 1919م].

– والثانية، أن الفلاسفة كانوا أول من اهتم بتصنيف العلوم انطلاقا من أن هذا التصنيف يعد جزءا لا ينفصل عن فلسفة العلم، ثم أخذت المصنفات تنحو منحى تطبيقي مع دخول الوراقين مجال التصنيف، ويبدو أن التصنيف الفلسفي الذي كانت له الصدارة في القرون الأولى قد تراجع مفسحا المجال للتصنيف العملي (الببليوغرافي) الذي كانت له الغلبة في القرون المتأخرة.

– والثالثة، تتعلق بالبعد الإثنوغرافي للقائمين على عملية التصنيف؛ فقد كان رواد التصنيف الأوائل ينحدرون من أصول غير عربية فارسية وكردية وإن كانوا يقيمون في الحواضر العربية الكبرى، بغداد، دمشق، البصرة، الكوفة، وبحلول القرن الخامس صارت عملية التصنيف عربية في المجمل مع اهتمام علماء الشريعة بهذا المجال، ثم أخذت تتحول نحو العثمانية منذ القرن العاشر تقريبا على يد عدد من العلماء العثمانيين الأفذاذ مثل: حاجي خليفة وطاشكبري زادة، وساجقلي زادة.


[1] إحسان عباس، تصنيف العلوم عند العرب، عمان: مجمع اللغة العربية، 1983، ص 71-73.

[2] محمد محمد علي أبو ريان، تصنيف العلوم بين الفارابي وابن خلدون، الكويت، عالم الفكر، مج 9، ع 1، 1978، ص 100.

[3] نفس المرجع السابق، ص 101.

[4] أنظر مقالنا حول الخوارزمي والتصنيف الموضوعي للمعارف العربية

https://cutt.us/IziXu

[5] إبراهيم الإبياري، الفهرست لابن النديم، القاهرة: تراث الإنسانية، ع 3، مارس 1965، ص 202.

[6] عبد الرحمن عبد الهادي، إرشاد القاصد إلى أسمى المقاصد، بيروت: المسلم المعاصر، ع 55-56، 1990، ص 199.