إذا استعملنا منهج التحليل فإننا نجد أمامنا- ونحن بسبيل شرح مصطلح ( تفسير التاريخ )- ركنين يضمهما هذا المصطلح، وهما تفسير وتاريخ…

فأما كلمة (( التفسير )) فقد أطلقت لغويا بمعني ( الإبانة ) والإيضاح والشرح والإفهام وبيان المرامي… ومن الناحية (الاصطلاحية ) تطورت هذه الكلمة وأصبحت علما على (( علم )) بعينه هو التفسير… وهو علم – كما يقول التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون: (( يعرف به نزول الآيات وشئونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكميها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها.. إلى آخره.

ونحن نرى- في مقام تفسير التاريخ- انطباق الدلالة اللغوية وانطباق جزء كبير من تعريف (( التفسير )) على العملية التحليلية أو التركبية للتاريخ… فمعرفة النزول وأسبابه، والعملية الترتيبية للآيات النازلة تمهيدا لفهمها- كبناء متدرج متكامل… هذه العملية التي تحدث في علم التفسير ( للقرآن) تحدث كذلك بالنسبة لوقائع ( تفسير التاريخ ).

وأما كلمة ( التاريخ ) فتطلق على الإعلام ( بالوقت ) وهو لفظ عربي أصيل وقيل دخيل مأخوذ من أصل سرياني معناه ( الشهر ) هذا في أصل وضع اللفظ.. أما في الاصطلاح فالتاريخ عند العرب: (( فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث توقيتها وموضوع الإنسان والزمان.

ويرى بعض الكتاب أن التاريخ يشتمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون كله بما يحويه من أجرام وكواكب ومن بينها الأرض وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ويقصر أغلب المؤرخين معني التاريخ على يدلّنا على بحث استقصاء حوادث الماضي كما يدلّنا على ذلك لفظ (Historio) المستمد من الأصل اليوناني القديم، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض بتسجيل أو وصف أخبار الحوادث الفعلي الذي يصنعه الأبطال والشعوب، والتي وقعت منذ أقدم العصور، واستمرت وتطورت في الزمان والمكان حتى الوقت الحاضر.(1)

هذا عن الركنين اللذين يمثلان جناحي مصطلح ( تفسير التاريخ )، وهما: التفسير والتاريخ.

أما عن المصطلح كوحدة متكاملة، فهو يدل على المحاولات التي تبذل لتفسير مسيرة الأحداث وحركة الوقائع، وما يكمن وراءهما من أسباب وعوامل، وما يعقبهما من غايات وأهداف.

فهو يتضمن جانبين أساسيين:

– جانب التاريخ وهو الوقائع الظاهرة وحركة الأيام وتقلبها.

– جانب ما وراء الوقائع الظاهرة والحركة المستمرة دون توقف.

ولقد كان العلامة المسلم ( عبد الرحمن ابن خلدون ) موقفا كل التوفيق في تعريفه للتاريخ تعريفا أقرب إلى (تفسير التاريخ ) -كوحدة متكاملة- منه إلى ( التاريخ ) كركن من أركان العملية التاريخية وهو الركن ( الظاهرة ).. أما ركن (التفسير ) فهو الركن (الباطن).. يقول ابن خلدون في تعريفه الذي نعتبره أقدم وأفضل تعريف قدم لتفسير التاريخ، يقول: (( أما بعد، فإن فن التاريخ من الفنون التي الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب والرحال، وتسموا إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال (!!) إذْ هو في (ظاهره) لا يزيد على أخبار الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصبها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتجال، وحان منهم الزوال، وفي ( باطنه ) نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، فهو ذلك بأن يعد في (علومها ) وخليق(2) وبعد هذه الكلمات بسطور قليلة يوضح ابن خلدون مفهومه على نحو أعمق، فيعيب على أكثر الؤرخين القدامى منهجهم في التاريخ، ويقول عنهم: (( إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقا، محافظين على نقلها دهما وصدقا، لا يتعرضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي وقع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلعا بعد إلى افتقار أحوال مبادئ الدول ومراتبها، مفتشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثا عن في تباينها أو تناسبها ))(3) وهذا- بإيجاز سيجد تفصيله مصطلح ( تفسير التاريخ )- وهو رأي سبق عصره، بقرون طويلة وكان خير ما قدم من تعريف لهذا المصطلح.                     

بين تفسير التاريخ وفلسفة التاريخ

ومن الجدير بالملاحظة أن هذا المصطلح ( تفسير التاريخ ) ينظرإليه عند الؤرخين ومفسري التاريخ على أنه مرادف تماما لمصطلح ( فلسفة التاريخ )، ولكن تراثنا الإسلامي، ولا سيما السلفي الحديث، يشعر بنوع من الحرج في ( استعماله لكلمة ( فلسفة )، بصفة عامة.

وقد يكون هناك بعض العذر في هذا الحرج؛ لأن كلمة (الفلسفة ) قد ابتعدت عن معناها الحقيقي وهو ( حب الحكمة ) أو البحث عن الحكمة، وأصبحت علامة على طريق جدلية عقيمة تقحم نفسها في مجالات أقوى من طاقات العقل، وتسير فيها- للأسف- متجردة من معالم الوحي الكريم وعن هدايته، فَضلَّ كثير من الفلاسفة وأضاعوا أعمارهم وأعمار كثير ممن حولهم في البحث في ذات الله وفي سمعيات وغيبيات لا يستطيع العقل الاحاطة بها، ومن هنا خرجت الفلسفة عن القضبان الصحيحة التي يجب أن تتحرك فوقها وانشغل كثير من الفلاسفة حتى من المنسوبين للاسلام بهذه القضايا ( الميتافيزيقية ) متجاهلين أن المجال الصحيح للفلسفة التي يستطيع العقل الافادة منها هو هذا العالم وما فيه ومن فيه، وهو في داخل الإنسان وفي الكون المحيط به ] سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ ولو أن الفلاسفة تفلسفوا في المجال    ( الإنساني والكوني ) وعرفوا القوانين التي وراء الوقائع والتقلبات والأشياء- لأفادوا البشرية كثيرا ولما أبغضهم كثيرمن الناس.

لكن ( الفلسفة ) في مجال ( التاريخ )- بل والطبيعة- هي فلسفة تعمل في مجالها الملائم، وتحاول اكتشاف قوانين الله في الاجتماع والكون والإنسان، ومن هنا فلا حرج في استعمال كلمة ( الفلسفة ) في هذه المجالات.

وما تقدمت أوربا وما تقدمت أية حضارة إلا إذا تجاوزت مرحلة الجزئيات، ووصلت إلى مرحلة فهم الكليات والقوانين، والاستيعاب لها، واستقلالها، والانسجام معها.

وقد ظهر في أوربا فلاسفة للاجتماع، والاقتصاد والتربية، والطبيعة والرياضيات،.. وبحهودهم حققت أوربا الكثير، واكتشفت عشرات القوانين، وكان ذلك بعد أن تجاوزت أوربا مرحلة ( اللاهوات ) بجدلياته العقيمة التي أضلت أوربا، وهو العلم الذي يشبه في حضارتنا مرحلة  (علم الكلام ) مع بعض الفروق، وإن كنا في أعماقنا ننكر جدوى هذا العلم، بل نعتبره من أسباب تعويق حضارتنا.

ولهذا فنحن لا نجد أي اعتراض على مصطلح ( فلسفة التاريخ ) لأنها فلسفة في حقل معرفي عملي مفيد، ونحن نعتبر هذا المصطلح مصطلحا مكافئا لمصطلح (تفسير التاريخ ) كما أننا نعتبر كل حديثنا في هذا البحث من باب  ( فلسفة التاريخ ) ولكنها فلسفة وفق المنهج الاسلامي الذي يضع الأمور في نصابها دون إفراط أو تفريط.

مصطلح تفسير التاريخ في العصر الحديث

وعبورا بهذا الملحظ الذي ذكرناه نستطيع أن نقول: إن ( تفسير التاريخ ) أو ( فلسفة التاريخ ) في العصر الحديث صارت مصطلحا يشير إلى جانبين مختلفين من جوانب دراسة التاريخ:

الجانب الأول: يتعلق بدراسة مناهج البحث في هذا العلم من وجهة النظر الفلسفية. وهذه الدراسة تتضمن في جملتها الفحص النقدي الدقيق لمنهج الؤرخ. وهذا الفحص النقدي يدخل مجال النشاط التحليلي للفلسفة، ذلك النشاط الذي صبغ التفكير الفلسفي في العصر الحديث بطابعه الخاص، حيث نجد المفكر يعني بتحليل ما يمكن تسميته بأدواتنا العقلية: فيدرس طبيعة الفكر، وقوانين المنطق والاتساق والعلاقات بين أفكارنا والواقع، وطبيعة الحقيقة، ومدى صلاحية المنهج الذي نستخدمه في توصلنا إلى (( الحقيقة )) أو (( المعرفة )) وفي هذا المجال نستطيع أن نقول إن فلسفة التاريخ تقوم بدور الناقد الأعلى. إذ أنها تقوم باختيار دقيق لما يدعيه أصحاب المنهج التاريخي من معرفة أو حقيقة.

أما الجانب الثاني: من جوانب دراسة التاريخ في الفلسفة الحديثة فهو دور الفلسفة بوجه عام وهو مهمتها الرئيسية الأخرى.(1)

الفروق بين المؤرخ ومفسر التاريخ

هناك فروق كثيرة بين المؤرخ ومفسر التاريخ، أو فيلسوف التاريخ، وهذه الفروق- في جزء كبير – منها تنطبق على الفروق بين الباحثين في أي علم، وبين منظري هذا العلم وفلاسفته. وقد نستطيع- بإيجاز- أن تقول كما قال ابن خلدون: إن عمل المؤرخ هو ( ظاهر ) التاريخ، وعمل مفسر التاريخ هو ( باطنه ).. لكننا نفضل بسط الأمر في هذا المقام لما فيه من فائدة.

ونحن نستطيع حصر الفروق في النقاط التالية:-

1- إن المؤرخ مجرد وثائقي هدفه أن يصل إلى الواقعة التاريخية بالطرق التي يقرها النهج التاريخي في البحث.

2- والمؤرخ غالبا ما يقصر جهده على النواحي السياسية والعسكرية وتقلب الدول سقوطا وقياما.

3- أما مفسر التاريخ فمنهجه يعتمد على ثلاثة مراحل.

أ- المرحلة التسجلية الوثائقية التي يشترك فيها مع المؤرخ العادي.

ب- المرحلة التأملية التي يحلل فيها الوقائع ويستنبط منها بعض القيم المعاصرة للواقعة وبعض الأنماط الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ولكن ذلك كله يكون خلال هذخ المرحلة في إطار جزئي.

ج- أما المرحلة التالية فهي مرحلة تفسيرية فلسفية يصل فيها المفسر إلى استخلاص بعض القوانين والسنن التي تحكم حركة التاريخ بمجتماته.. المختلفة والتي تجيب لنا على الأسئلة الكبرى: لماذا وكيف؟

4- المؤرخ جزئي محدود، والمفسر شامل النظرة يضع في اعتباره كل العوامل وكل الأنشطة وكل جوانب الحياة المساعدة على تفسير الواقعة.

5- إن المفسر التاريخ هو الذي يستطيع القيام بمقارنة بين الحضارات واستخلاص القيم الكلية الإنسانية.

6- وهو أيضا الذي يستطيع أن يفسر لنا شخصيتنا الحضارية المستقلة من خلال فعلنا في التاريخ.

7- وعمل مفسر التاريخ فكري أكثر منه حركي.. إنه ليس مجرد آلة تصوير بل هو صياغة إنسانية للتاريخ.

8- إن فيلسوف التاريخ هو الذي يكشف لنا معنى نشاط الانسان وفعله على الأرض وبإمكانه أن يسأل ماذا تعني الحياة الأنسانية، وما الأهداف التي يسعى إليها الوجود التاريخي للانسان، وما القيمة الحقيقية للتاريخ البشري، وهل يتحرك التاريخ بلا مغزى؟ وأهداف التاريخ أهداف تنبع من داخل الانسان أم خارجه؟ وهل يمشي التاريخ نحو الرقي دائما أم أن له دورات يتعاقب عليها؟ إلى أخر هذه الأسئلة الكبيرة.

9- كما أن بعض الفروق أيضا بين المؤرخ وفيلسوف التاريخ هو الاختلاف في المنهج، فالفيلسوف يعتمد على الفحص النقدي الدقيق لمنهج المؤرخ نفسه ولوثائقه التي يعتمدها وهو يدرس حتى طبيعة الفكر وقوانين البحث المنطق ويحقق مدى صلاحيتها كلها وقد يقبل منها ما يقبله ويرفض منها ما يرفضه ثم يقوم فيلسوف التاريخ بنشاط تركيبي للفلسفة بوجه عام مستخلصا أبرز القوانين وأشملها.

ويضاف إلى هذه الفروق أن المؤرخ ليست لديه مبادئ فلسفية أو أخلاقية أي ليست لديه أسس يقيس بها التغير أو الاستمرار، وعلى ذلك فليس في مقدوره أن يحكم على التطور أو الظهور أو السقوط أو النمو أو الركود أو الانحلال أو الخطب أو العقم.

وبدون مثل هذه الأحكام لا يمكن للكتابة التاريخية أن تكون ذلك السرد القصصي أو الوصف الجيد الذي هو جوهر التاريخ، فحيث لا يتوفر إحساس بالتطور، فقد نجد تبويبا لتفاصيل تاريخية مرتبة ترتيبا زمنيا أو حسب نظام منطقي من العناوين الصغيرة، غير أن هذا لا يمكن بحال أن يعرض قصة مستمرة للأصول أو النمو أو الاتزان أو الركود أو الانحطاط، ولكي يستطيع المرء أن يرى الأشياء تنمو أو تنهار أو أنها تظل على حالها فقط، أو أنه يتكرر حدوثها، دون نمو أو انحطاط لا بد أن تكون لديه فكرة ما عن ماهية النمو، أي أن تكون لديه فلسفة في الأهداف ومقياس للصالح والطالح(4)

ومن المفترض أن يكون هناك مجال كبير للاختلاف في الآراء فيما يتعلق بمفهوم هذه القواعد. أضف إلى ذلك أن هذا المجال لا يقل بالضرورة تبعا للزيادة في الاطلاع على المؤلفات التاريخية الكلاسيكية، فالعدالة، والصدق، والجمال، والتقوى والكرم، والتسامح، والتفاؤل، والتقدم، وحب البشرية، والحرية، والمساواة، والسلم والوطنية، والروح الرياضية، والكفاية، والصحة والقانون، والنظام، كل هذه يمكن أن تعتبر مبادئ فلسفية وأخلاقية، وكان قد تبناها بعض المؤرخين في وقت مضى. على أنها ليست شاملة على جميع الأسس الفكرية، كما أنها ليست بالضرورة متناسقة تناسقا منطقيا(5)

ونحن نعلم أن اتفاق المؤرخين حول مبادئهم الفلسفية والأخلاقية أضعف احتمالا من اتفاقهم حول حقيقة المواد التي عليهم أن يفسروها في ضوء المبادئ. وإلى أن يبلغ المؤرخون الحقبة النائية من الانسجام والتوافق الفلسفي فعليهم أن يقتصروا على الاشتراط بألا تكون مبادئهم ذات قيمة عابرة بشكل ملحوظ وألا تكون موقوته بشكل محمدود تستند بصراحة إلى دوافع خفية(6)

لكن مع ذلك يبقى أن عمل مفسر التاريخ أشمل وأوسع وأكثر فائدة للتقدم البشري من عمل المؤرخ نفسه.

أجل- كما ذكرنا – إنه أقل اتفاقا حول حقيقة مادته، وأنه أكثر عجزاً في لم شعث الحضارة المتناثرة.. لكنه- مع ذلك – المغامر العجيب الذي يحاول أن يكتشف لنا سنن الله.

إنه ( مكتشف ) على كل حال وليس مجرد مسجل ) أو ( موظف ارشيف ) في دائرة التاريخ.

تفسير التاريخ: نشأته وتطوره

إن مصطلح تفسير التاريخ مصطلح حديث النشأة، شأنه شأن كثير من المصطلحات التي تكون مضامينها موجودة، ومبعثرة في الفكر الانساني، ومختلطة بغيرها من المفاهيم دون أن تحمل اسما خاصا مستقلا.

ذلك لأن هذه المصطلحات، ومنها مصطلح تفسير التاريخ، أو حسب تسمية بعضهم ( فلسفة التاريخ ) تكون في مرحلة الاندماج مع غيرها ضمن مصطلح آخر أقوى وأكثرها نضجا واستقلالا. وفي هذه المرحلة يكون المصطلح مجرد جزء من أجزاء مصطلح آخر، وتكون خصائصه الذاتية أقل من أن تكون قادرة على الوقوف وحدها في عالم المفاهيم.

ولا يعني استقلال أي مصطلح أو مفهوم من هذه المصطلحات أو المفاهيم التي تتطور إلى علوم وشرائح مستقلة من المعرفة- أنها لم تكن موجودة في الوعي الإنساني. فكل ما هنالك أنها لم تكن قادرة على الوقوف مستقلة ذات شخصية مستقلة، وذات أهلية في مواجهة الحياة.. فإن أركانها- كعلم – لم تكن قد اكتملت بعد.

وإذا كنا نتصور أن اهتمامات الإنسان بما حوله ومحاولاته أن يفهمه ويفهم ما وراءه منذ نشأ على هذه الأرض بعد أن هبط من الجنة، إنما هي اهتمامات أصلية وقديمة. فإن لنا أن نتوقع أن يكون الإنسان قد وضع أسئلة كثيرة حول كثير من الظواهر الكونية والاجتماعية.

إن حركة الكون المكرورة أمامه من ليل ونهار وشمس وقمر ونجوم وعواصف وزلازل، لا شك ستدفعه إلى التساؤل:

1-      من يصنع هذا؟

2-      كيف يصنع؟

3-      ولماذا يصنع؟

وفي الواقع البشري الاجتماعي والفردي يجد الإنسان نفسه محاصراً بمجموعة من الظواهر التي تشبه الظواهر الكونية، في ضرورتها وتكرارها.

–      فحاجة الإنسان إلى الطعام حاجة أساسية ومتجددة ولا تنتهي.

–      وحاجة الإنسان إلى الشراب…

–      وحاجة الإنسان إلى النوم…

–      وحاجة الإنسان إلى اللباس والمسكن.

وكل هذه الحاجات فردية، تجعل الإنسان يتساءل: هل هو مجموع هذه الحياة؟ وهل حياته لاتخرج عن نطاق إشباع هذه الجوانب؟

–      وعندما يصل الإنسان إلى سن البلوغ، ويندمج اجتماعيا، تظهر في حياته حاجات أخرى:

–      حاجته إلى الزواج والأولاد.

–      حاجته إلى البيئة.

–      حاجته إلى المجتمع.

فربما تساءل الإنسان في مرحلة معينة: هل هو رهن هذه الحاجات؟ وهل هو كائن أسري أو بيئي أو اجتماعي؟ وهل يكفي إشباع هذه الجوانب- بعد الحاجات الفردية- لضمان مسيرة الإنسان في الحياة؟

– ولكن الإنسان عندما تكتمل له حاجاته الفردية وحاجاته الاجتماعية سيشعر بحاجة ملحة إلى نوع آخر من الحاًجات. 

فهذا الإنسان يتميز عن الكائنات الأرضية الأخرى بأنه يحمل ( روحا واعية ) ذات تطلع دائم إلى الأشواق العليا… وإنها لتحس بالسأم والملل- حتى بعد إشباع سائر الجوانب- إذا لم تحقق إشباعها في الجانب الروحي.

فهل الإنسان كائن روحي؟ على أساس أن هذه هي ميزته التي ينفرد بها عن سائر المخلوقات الأرضية الأخرى التي تشاركه بقية حاجاته الفردية والاجتماعية؟

لقد أدرك الإنسان هذا منذ ظهر، ومنذ غرست الأديان السماوية- في فطرته- هذه الحقيقة الأزلية، وأزالت عنها- بين الحين والحين- كل ما يطرأ عليها من تحريف وتشويه… ولئن كان الإنسان- قد أدرك هذا، فإن هذا الإدراك الفطري القائم على أن الله هو الصانع وهو الخالق، ليس كافيا للإجابة على الأسئلة الملحة التي تطرح نفسها على الوعي البشري الموصول.

فإن الإنسان يدرك حاجته اليومية المتجددة للطعام والشراب والهواء والماء والملبس والمسكن، ثم يدرك حاجاته الاجتماعية التي يقوم على أساسها كيانه الاجتماهي وبقاء نوعه… فإلى أي مدى يصل الدور الذي تقوم به هذه الحاجات في استمرار حركته ونموها، وفي ضمان تفاعله مع ما حوله؟

– وهل هذه الحاجات هدف في حد ذاتها تنتهي رسالته إذا حققها؟

– وأهم من ذلك كله أنه يريد أن يفهم نواميس الخالق سبحانه وتعالى التي أخضع لها- سبحانه – الكون والإنسان والمجتمع، لأن فهم الإنسان لهذه النواميس أمر ضروري بالنسبة له، سواء في مستوى حياته العلمية، الرعوية أو الزراعية. أو في مستوى تحقيق تقدمه الحضاري.

وإن ما أعطته رسالات السماء في تفسير حركتي الكون والمجتمع إنما هو إطار كلي، ترك للعقل البشري أن يقوم فيه بالفهم والتفسير، فهذا هو مجال الاختيار، وشأن ( تفسير المناهج ) هنا شأن بقية المجالات التي طرقها الوحي الكريم .. فهو قد عرض لكل القضايا الكونية والإنسانية التي تنتظم سائر العلوم والمعارف، من فيزياء إلى فلك إلى اجتماع إلى اقتصاد.. اللهم إلا القضايا التي يعجز العقل فيها، فإن الوحي يعطيها حقها كاملا، أما في هذه العلوم والمعارف المعاشية فقد أراد الله للعقل أن يقوم بدور بارز فيها حتى يتباين الناس، ويتفوق بعضهم فيثاب في الدنيا والآخرة، ويخمل بعضهم فيعاقب في الدنيا والآخرة…

من هنا نستطيع أن نقول إن تفسير التاريخ الذي هو محاولة فهم ما وراء الحركة الإنسانية من سببيه ونمائية تحرك في الوعي البشري دائما، وظل ينمو حتى انتهت مراحل ولادته، فظهر علما مستقلا يفرض نفسه على علم التاريخ، كما يفرض الابن نفسه على أبيه.

إن تفسير التاريخ هو ثمرة التاريخ في تفاعله مع حركة الكون والوعي الإنساني، وإن استمرار الإنسان في المعرفة لذاتها… أمر لم يكن ممكنا.. فإن الإنسان حريص على أن يعرف الأسباب والعلل والغايات، ليستفيد من حركة الماضي شيئا لحركة المستقبل!!

بداية تفسير التاريخ في العصور القديمة المراحل الأولى

لقد أحس الإنسان بدبيب الحاجة إلى الروح يمشي في عقله وفطرته تماما كإحساسه بدبيب الجوانب العضوية والاجتماعية.

ولا شك أنه في أوقات معينة يكون إحساسه بالحاجة إلى الرعاية الدينية أكبر وأعمق، وربما كانت الأمراض المعدية أو العواطف المدمرة، أو الأمواج المتلاطمة، أو الغابات الكثيفة المخيفة، أو الحيوانات غير الأليفة.. أو غيرها من الظواهر التي يحس الإنسان بضعفه أمامها- من أسباب تقوية شعوره بالحاجة إلى الدين ولرعاية خالق قدير.

والراجح عندنا أن ظهور اللغة كان مصاحبا لظهور الإنسان نفسه، والتطور إنما وقع في تطور الأشياء التي تحتاج اللغة إلى نحت تعبيرات عنها، وأيضا في تشعب اللغة إلى عدد من اللغات. أما اللغة نفسها، الكافية في توفير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في مراحل الإنسان الأولى، فقد كانت شيئا نشأ مع الإنسان نفسه.

والقران يقول:] وعلم أدم الأسماء كلها [ دلالة على أن اللغة من الأسلحة الأصلية التي زوّد الله الإنسان بها.

وعن طريق هذه اللغة زوّد الإنسان بطاقات عقلية أعمق وأكثر أبعادا، فالكلمات في ذاتها- كما تعرف – مصدر خطر وقوة، وربما كان زاد إنسان العصر الحجري القديم من الكلمات مجرد أسماء لا غير، وكان يقف عند حد استعمالها فيما تدل عليه، ولكن إنسان العصر الحجري الحديث كان يفكر في تلك الكلمات، كان يفكر في عدد من الأشياء تفكيرا يخالطه قدر كبير من الارتباك اللفظي، فيؤدي به ذلك إلى استنتاجات عجيبة، واستطاع بفضل اللغة أن ينسج شبكة تضم أبناء جنسه بعضهم إلى بعض، وإن كانت تلك الشبكة قيدا يغل قدميه. كان الإنسان يربط نفسه بجماعات جديدة كانت بلاً أدنى ريب أكثر اتساعا وأعظم كفاية(7)، ولكن ذلك كلفه الشئ الكثير.

وطبيعي أن الإنسان كان يحاول التعبير عن ( الجانب الروحي ) بمضامين معينة، وأساليب خاصة، وعندما يكون هناك دين صحيح، فإن الإنسان يجد في الدين التعبير الذي يشبع حاجته، والشعائر التي تحقق الصلة بخالقة، وعلاقته بالكون والناس وفق المنهج الأمثل.

أما عندما يغيب الدين الصحيح، وتجهز عليه الأفكار الأسطورية، والعادات المترسبة، فإن الإنسان كان يخترع لنفسه الأساليب والتعبيرات التي تشبع أشواقه العليا.

ومع نهاية العصر (( الرعوي )) وبداية (( الزراعي )) المتسم بالاستقرار على ضفاف الأنهار الكبرى في البلاد الدافئة كالنيل في مصر والدجلة والفرات في العراق والأندلس في الهند(8)، والمتسم كذلك بالاعتماد على النواميس الكونية، والارتباط الوثيق بها- بدأت تظهر عقائد وأفكار، ابتدعها الإنسان لنفسه في غيبة الدين الحق متأثرا بطبيعة عصره وظروف بيئه، – من هذه البداية تطورت الديانات ذات القرابين الموسمية التي لا تزال بين ظهرانينا.. من كل هذه العوامل، ومن تقاليد الرجل الشيخ، ومن العواطف التي تحيط بالنساء من أجل النساء، ومن الرغبة في الهرب من العدوى والنجس، والرغبة في القوة والنجاح بطريق السحر، ومن تقاليد التضحية في أوان البذار، ومن عدد آخر من العقائد والتجارب العقلية والأفكار الخاطئة، المماثلة لهذه التجارب والأفكار، أخذ شئ معقد ينمو ويترعرع في حياة الناس، وشرع في الوقت نفسه بضمهم بعضهم إلى بعض من الناحيتين العقلية والعاطفية في حياة وعمل مشتركين. هذا الشئ يسميه بعضهم الدين ( Religion  (  ولفظ الدين بالغة اللاتينية ( Religare  ( ومعناها ( الربط ) لم يكن ذلك الشئ بالبسيط ولا المنطقي، بل كان طائفة معقدة مختلطة من الأفكار التي ينظر بها الناس الى الكائنات والأرواح الآمرة والآلهة، ومن جميع ضروب ((ما يجب وما لا يجب )) قد نمت هذه الديانة ( الفاسدة ) كما تنمو كل مصلحة إنسانية(9).

على أن الأمر الذي ينبغي ألا يغرب عن بالنا، هو أن إنسان العصر الحجري الحديث لم يكن قد تطور تطورا عقليا كبيرا، وأنه كان من السهل أن يتبلبل فكره ويخرج عن المنطق إلى درجة لا يمكن أن ينحدر إليها رجل متعلم في الأيام، وكانت الأفكار المتضاربة تستطيع أن تستقر جميعا في ذهنه دون أن تتحدى إحداها الأخرى، أو أن يحس بتناقض بينها، فتارة يتحكم هذا الأمر في أفكاره تحكما حادا شديدا، وتارة يتسلط عليه ذاك، وكانت مخاوفه وأفعاله لا يزال غير مرتبطة بعضها ببعض شأنها في ذلك شأن أفكار في ذلك شأن أفكار الأطفال اليوم(10).

وهكذا نجد أن محاولات الإنسان فهم ما حوله، في حركة الكون، وفي واقعه الفردي والاجتماعي، وإنما هي محاولات نشأت مع الإنسان نفسه، على أساس أنه كائن له عقل يعمل، كما تعمل سائر أعضائه الأخرى.

– ومع تدرج الإنسان المعرفي بدأت رسالات الله التي حملها أنبياؤه ورسله. تجبيب للإنسان على ما يعتمل في فكره من تساؤلات، مراعية في ذلك ظروف عصره، وقدرته على الاستيعاب، واللغة التي يستطيع أن يفهمها، والأبعاد التي يستطيع الإحاطة بها.

وإذا كان الإنسان قد أدرك منذ البداية أن ( الله ) سبحانه وتعالى هو الخالق القادر المبدع العظيم، وإذا كانت رسالات السماء قد حافظت في فكره الداخلي وفي فطرته على الشعور الدائم بالله وبوحدانيته وقدراته فقد ظلمت على النقيض من ذلك محاولات طمس هذه الفطرة، بحيث بدا التاريخ مذبذبا بين فترات من التوحيد وفترات من العجز عن الوصول إلى التصور الصحيح لله خالق الكون.

أ.د. عبدالحليم عويس


الهوامش :

(1) د. حسن عثمان: منهج البحث التاريخي ص 11، 12 دار المعارف مصر ط 4.

(2) المقدمة ص 3، 4 طبع إحياء التراث العربي بيروت.

(3) المقدمة ص 5.

(4) د/ محمد عفت الشرقاوي: أدب التاريخ عند العرب 29 نشر دار العودة- بيروت.

(5) لويس جوتشلك- كيف نفهم التاريخ ص 22 وما بعدها.

(6) لويس جوتشلك- كيف نفهم التاريخ ص 22 وما بعدها.

(7) المكان المساجد.

(8) انظر ج. ل شيتي: تاريخ العالم الغربي 25 طبع مصر.

(9) ويلز: معالم تاريخ الإنسانية 1/ 123.

(10) ويلز: المعالم 1/ 124.