إن الإسلام بقواعده الكبرى ومبادئه العظيمة يدعو المسلم إلى ربط أيام العمر بالأعمال الصالحة سواء في الوقت الصعب والسهل، في الجد والهزل، أو في الصحة والسقم، وعدم التفريط في لحظات العمر مهما طالت بما لا يجدي نفعا، وقد ثبت الحث على اغتنام الوقت آيات وأحاديث نبوية، من هذه الأحاديث الصحيحة وصية النبي لأحد الصحابة، ففي حديث ابن عباس رضي الله عمهما قال: قال رسول الله لرجل وهو يعظه: “اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك[1].

وهذا الحديث الشريف يحث المسلم على الاهتمام بالوقت والاستفادة من أيام العمر التي يقدر على العمل الصالح وأدائه على أتم الوجه، والتمكن من هذا الأداء مع الإحسان فيه، قبل فوات أيام القوة والشباب، حين يقبل الضعف على الإنسان ويصاب بالوهن ثم يأتي الموت بغتة فينقطع به العمل ويتوقف.

وهذا ما أوصى الله سبحانه به نبيه الكريم حين قال: ﴿‌وَٱعۡبُدۡ ‌رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ﴾ [الحجر: 99] واليقين هنا هو الموت حين يعاين المرء مصيره في الدنيا وانقطع العمل والأمل. قال ابن كثير: في الآية دليل على أن علاج ضيق الصدر هو التسبيح والتقديس والتحميد والإكثار من الصلاة، وأن العبادة كالصلاة واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله   

وأشار الحديث إلى بعض موانع التمكن من أداء العمل الصالح منها: الهرم، السقم وهو المرض، والفقر، والفراغ، وفي النهاية الموت.

شرح ألفاظ الحديث

  • قوله (اغتنم خمسا قبل خمس): افعل خمسة أشياء قبل حصول خمسة أشياء
  • (حياتك قبل موتك) يعني اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك فإن من مات انقطع عمله وفاته أمله وحق ندمه وتوالى همه فاقترض منك لك
  • (وصحتك قبل سقمك) أي اغتنم العمل حال الصحة فقد يمنع مانع كمرض فتقدم المعاد بغير زاد
  • (وفراغك قبل شغلك) أي اغتنم فراغك في هذه الدار قبل شغلك بأهوال القيامة التي أول منازلها القبر فاغتنم فرصة الإمكان لعلك تسلم من العذاب والهوان
  • (وشبابك قبل هرمك) أي اغتنم الطاعة حال قدرتك قبل هجوم عجز الكبر عليك فتندم على ما فرطت في جنب الله
  • (وغناك قبل فقرك) أي اغتنم التصدق بفضول مالك قبل عروض جائحة تفقرك فتصير فقيرا في الدنيا والآخرة.

فإن هذه الأمور التي تعد موانع تحول دون الأداء الصحيح للعبادات واغتنام أيام العمر تكون سببا للعجز الطبيعي، وإذا وقع شيء منها فلا قدرة للعبد من نفسه إزالته إلا بإرادة الله تعالى، لذلك يجب الاستعداد لهذه الأحوال الحتمية، وأنه إذا أفلت الإنسان عن واحد منها فإن الآخر يظفر به، فالهرم والموت نهاية الإنسان في حال الدنيا، والإنسان لا يستطيع التحكم عليه، ومن هنا جاءت هذه الوصية تذكره بالاهتمام.

ومن الصوارف المشغلة التي تضاف إلى المذكور، ما جاء في (صحيح مسلم): أن رسول الله قال: بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة.  

قال القرطبي في (كتاب الإفهام): ” سابقوا بالأعمال الصالحة، واغتنموا التمكن منها قبل أن يحال بينكم وبينها بداهية من هذه الدواهي المذكورة، فيفوت العمل للمانع، أو تعدم منفعته لعدم القبول..

الموانع التي تخصه مما يمنعه العمل، كالمرض والكبر والفقر المنسي، والغنى المطغي، والعيال والأولاد، والهموم، والأنكاد، والفتن، والمحن إلى غير ذلك مما لا يتمكن الإنسان مع شيء منه من عمل صالح، ولا يسلم له، وهذا المعنى هو الذي فصّله في حديث آخر حيث قال: اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك”.

يقول ابن رجب الحنبلي: المراد من هذه الأشياء كلها  – أي هذه الموانع – نعوق عن الأعمال فبعضها يشغل عنه،رإما في خاصة الإنسان، كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته، وبعضها عام كقيام الساعة وخروج الدجال، وكذلك الفتن المزعجة كما في حديث آخر: ” «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم».

وبعضُ هذه الأمور العامّة لا ينفع بعدها عملٌ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}.

وفي ” الصحيحين ” عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ ، قال: «لا تقومُ السَّاعةُ حتّى تطلع الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس، آمنوا أجمعون، فذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً».

وفي ” صحيح مسلم ” عنه، عن النَّبيِّ قال: «ثلاثٌ إذا خرجنَ، لم ينفع نفساً إيمانُها لم تَكُن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوعُ الشمس من مغربها، والدجالُ، ودابةُ الأرض».

وفيه أيضاً عنه، عن النَّبيِّ قال: «مَنْ تابَ قبل أنْ تَطلُعَ الشمسُ من مغربها تابَ الله عليه».

فكان الواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أنْ لا يقدِرَ عليها ويُحال بينه وبينها، إمَّا بمرضٍ أو موت، أو بأنْ يُدركه بعضُ هذه الآيات التي لا يُقبل معها عمل. قال أبو حازم: إنَّ بضاعةَ الآخرة كاسدة ويوشِكُ أنْ تَنفَقَ، فلا يُوصل منها إلى قليلٍ ولا كثيرٍ.

ومتى حِيلَ بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرةُ والأسفُ عليه، ويتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعُهُ الأمنية[2].

ومما قال السلف الكرام عن هذا الحديث البليغ ما يأتي:

قال غنيم بن قيس: كنا نتواعظُ في أوَّل الإسلام: ابنَ آدم، اعمل في فراغك قبل شُغلك، وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك. وفي حياتك لموتك.

قال الغزالي: الدنيا منزل من منازل السائرين إلى الله تعالى والبدن مركب، ومن ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتم سفره، وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتم أمر التبتل والانقطاع إلى الله الذي هو السلوك[3].

وقال بكر المزني: ما من يوم أخرجه الله إلى الدُّنيا إلا يقول: يا ابنَ آدم اغتنمني لعلَّه لا يومَ لك بعدي، ولا ليلةَ إلا تنادي: ابنَ آدم، اغتنمني لعلَّه لا ليلة لك بعدي.