ذكر مُعَاذُ بنُ جبلٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟» قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ. قَالَ:  «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟» قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، لَا آلُو. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ». (أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده 5/230 رقم 22007، و5/236 رقم 22061، و5/242 رقم 22101، وأبو داود 3952 و3953، والترمذي 1376 و1377، وغيرهم، وينظر في تخريجه الموسّع: مسند أحمد بن حنبل 36/333 بتخريج الشيخ شعيب الأرنؤوط وزملائه، وينظر في كون أن تلقي الأمة هذا الحديث بالقبول يجبر الضعف في إسناده: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، وإعلام الموقعين لابن القيم الجوزية 2/344-354 وكلام المعلق عليه مشهور بن حسن آل سلمان)

وهذا الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه تلقته الأمة بالقبول رغم الضعف في إسناده إلا أن تلقي الأمة له بالقبول يجبر هذا الضعف ويجعله حجة في العمل به، وهو حديث مركزي عند الأصوليين يستدلون به في مواضع كثيرة من أصول الفقه وخاصة مباحث الأدلة وترتيبها والترجيح بينها عند التعارض وتقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير، وكذلك هو من الأحاديث التي تكون في مفتتح باب القياس، لكونه حجة على الاجتهاد ومن أعلى مراتب الاجتهاد القياسُ؛ لكونه قائمًا على عدة مراحل: المرحلة الأولى معرفة العلة المناسبة التي بُني عليها الحكمُ في الأصل، ثم التأكد من وجود هذه العلة نفسها في الفرع ومن ثمّ الحكم عليه بمثل حكم الأصل؛ ولذا كان القياس من الوسائل المهمة لتوسيع نطاق الشريعة واستيعابها للنوازل والمستجدات وإبراز مرونة الشريعة وقدرتها على مسايرة ما يستجدّ في الحياة على مختلف أزمانها وأماكنها.

ورغم أنه ليس الهدف من هذه المقالة هو دراسة حديث معاذ بن جبل أصوليًّا، فإنه ما تم ذكره أعلاه أراه مدخلًا مطلوبًا للحديث عن هدف هذه المقالة وهو البناء الفكري للأفراد والمجتمعات في هذا الحديث الشريف، والمقصود بالبناء الفكري هو مجموعة المفاهيم والمعاني الضابطة والحاكمة التي ينشأ عليها الأفراد. ومن هذا التعريف يتضح أن البناء الفكري  يشكل النشاط المعرفي للأفراد تجاه ما يتعرضون له قبولًا أو رفضًا أو نقدًا أو العمل على زيادة هذا البناء الفكري متانةً وترسيخه وتدعيمه؛ فيشكل هذا البناء الفكري للمجتمعات والأوطان التي يمثل فيها الأفراد اللبنة الأولى والرئيسة. وقد برز البناء الفكري في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه على النحو التالي:

  • البناء الفكري يأخذ بعضه ببعضٍ ويشدُّ بعضُه بعضًا  ويمسك بعضُه ببعض حتى يصير جزءًا واحدًا متماسكًا كالصفّ المتلاحم والبيت الواحد، يعتمد سقفه على جدرانه التي تعتمد على الأساس الذي يجب أن يكون قويًّا متينًا ، فرغم أنها وحدة واحدة إلا أنها لا يتمّ تكوينها مرة واحدة، بل يُبدأ بالأصول أو أصل الأصول الذي يُقدّم على غيره، ويأخذ من الوقت ما يكفي لأن يكون راسخًا قويًّا يتحمل ما قد يتعرض له من  تشويه أو إضعاف أو هدم  أو محو أو إزالة، ويكون صامدًا أمام الأزمات الطارئة والأزمات التي قد تطول، وهذا ينشأ عن التدافع الحادث بين الأفكار والاتجاهات والثوابت والمتغيرات، ثم يبنى على هذا الأصل الأصيل غيرُها من  الأصول التي تعتمد عليه وتتكامل وتتآزر فيما بينها لتكوين البناء الفكري للأفراد والمجتمعات، والتي تميزه عن غيره وتجعل له من الخصوصية والتدافعية التي تحمى أفراده وتوضح لهم الطريق الرشيد في التعامل مع الاختلافات البسيطة والعميقة والبسيطة التي حتمًا سوف تواجههم، وما يضمن هذا التعامل الإيجابي مع تلك الاختلافات هو الوضوح في ترتيب الأصول والأسس التي تشكل بمجموعها البناء الفكري، فما كان أصل الأصول يكون له التقديم والأولوية والضوابطية على غيره من الأسس والأصول دون أن يلغيها أو يهملها، بل يفتح المجال واسعًا لأن تتكامل معه ليصبح البناء الفكري متكاملًا متناسقًا متآلفًا، وهذا ما يوضحه حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي قدم ما حقه التقديم عند الحكم على الحوادث والنوازل وهو القرآن الكريم ثم ثنّى بالسنة التي هي مبينة وموضحة ومؤكدة لما في القرآن الكريم، ثم يأتي بعدها الاجتهاد ممن هو أهله عند عدم وجود النص، فلا يقدم الاجتهاد على النص ولا يمنع الاجتهاد عند عدم وجوده، تحت حجة حماية النص ومنع كل ما يبطله أو يمسّ مكانته في النفوس.  

  • مساهمة الأفراد في تشييد وترتيب منظومة البناء الفكري التي يرجع إليها الأفراد والمجتمعات وينطلقون منها، ولو كانت هذه المساهمة ببيانها واستنباطها وتصحيح ما كان صحيحًا أو تصويب ما كان مجانبًا للصواب لديهم، وذلك أن النبي سأل معاذًا عن كيفية القضاء والحكم إذا عرض له عارض أو نزل مستجد أو حدث حادث احتيج إلى بيان حكمه، فأجاب معاذ بن جبل رضي الله عنه بأنه يرجع أولا إلى الكتاب: القرآن الكريم لمعرفة الحكم واستنباطه، فطرح عليه النبي متسائلا: فإذا لم تجده في الكتاب؟ فأخبره معاذ أنه يرجع إلى السنة المشرفة، فتساءل النبي : فإذا لم تجده في السنة أيضا؟ فأجابه معاذ: بأن يجتهد ويبذل الوسع والطاقة في معرفة حكم ما يبحث عن حكمه. وما سلكه النبي مع معاذ هو إتاحة الفرصة للأفراد المؤهلين أن يبيّنوا أسس البناء الفكري الذي يقوم عليه الأفراد والمجتمعات،  فيجعلهم هذا يشعرون بأن لهم دورًا ومساهمة في هذا البناء الفكري الذي يحدد وجهة أفراد المجتمع تجاه ما يتعاطون من أحداث حياتية وفكرية وسلوكية ومشاعرية وتربوية بالإيجاب أو السلب، مما يشكل في النهاية رؤية المجتمع وثقافته وأمنياته وتطلعاته، والبناء الفكري الذي يسمح للأفراد للمساهمة ولو مساهمة بسيطة، يجعل هؤلاء الأفراد حريصين على قيم هذا البناء والاعتزاز به والتسمك به والعمل على ترسيخه وتعميقه لدى الأفراد والمجتمعات وتعزيزه لديهم والوقوف صفًا واحدًا تجاه ما يخالف هذا البناء الفكري أو يعارضه أو يهدمه، وهذا ما يعرف بغرس الانتماء الفكري لديهم عن طريق مشاركتهم وتفاعلهم الإيجابي الناضج، فكان يمكن للنبي أن يبين للصحابي هذا التسلسل الذي يتبعه في معرفة أحكام ما يعرض له من حوادث ونوازل تنزل به في المكان الذي هو ذاهب إليه، وكان هذا سهلا واختصارًا للوقت والجهد، وسوف يستقبل الصحابي الجليل هذا البيان بكل أريحية وبكل عزم على الالتزام به بلفظه ومقاصده، إلا أن النبي المعلم الكريم آثر أن يجعل معاذًا يساهم في استكشاف هذا البناء الفكري بنفسه، مما يقي الأفراد والمجتمعات شرورًا كبيرة ومفاسد عظيمة قد تنتج عن عدم شعور أفراد المجتمع بالانتماء لهذا البناء الفكري لكونهم غير مساهمين أو مشاركين فيه، وإنما فرض عليهم فرضًا وأجبروا عليه إجبارًا، ولو كان نافعا أو مفيدا لهم؛ مما يقل حماسهم له أو التعاطي الإيجابي معه مع أنه يمثل المرجعية التي يرجع إليها الأفراد والمجتمعات.

  • العمل على إشاعة هذا البناء الفكري بالأساليب المتنوعة والطرق المختلفة التي تتآزر وتتكاتف في نشر هذا البناء الفكري في المجتمع ولدى الأفراد، ولا تجعلهم نهبًا أو فريسة لغيره من البناءات المدمرة أو المنحرفة أو المضادة أو المغايرة، فلا شك أن معاذ بن جبل وغيره من الصحابة الكرام، رضي الله عنهم أجمعين، قد تلقوا أسس هذا البناء الفكري من النبي في مناسبات عدة ومواقف مختلفة وبأساليب متنوعة من البيان والتمثيل والتوضيح وبالترغيب والترهيب، حتى أصبح مستقرًّا عندهم واضحًا جليًّا راسخًا بحدوده وفصوله وأسسه ومنطلقاته، حتى إذا جدت الأمور واحتاج النبي إلى أن يرسل أحد صحابته الكرام حتى يكون نائبًا عنه في المكان الذي سيرسله إليه، مع بعد المسافات وما يسبب ذلك من بطء المراسلات وطول مدة المراجعات، وسوف يتعرض حتمًا لنوازل وأحداث يحتاج إلى بيان أحكامها والفصل فيها في الحال ولا تحتمل الانتظار، أراد النبي أن يتأكد من استقرار هذا البناء الفكري عنده ومن استقامة بنائه لديه، حتى يطمئن إلى أنه يسير وفق المنهج الصحيح الذي يبتغي الوصول إلى الحق والصواب والابتعاد عن الخطأ والانحراف والضلال قدر الإمكان. فكان هذا الجواب الواضح من معاذ بن جبل رضي الله عنه، قد بين أنه قد استوعب أصول هذا البناء الفكري أحسن استيعاب وقد استقر لديه استقرارًا لا يتزحزح مهما قابل من أفكار تخالف ثوابته وأصوله، ومهما تعرض للأفكار البراقة والمفاهيم الخادعة أو وقع تحت ضغط الجماهير والأفكار التي تنتشر وتسود في المكان الذاهب إليه وتخالف ما استقر عنده ورسخ.

  • البناء الفكري بناء مرن حيويٌّ يستوعب المتغيرات والمستجدات والنوازل التي لا تتعارض مع أصول هذا البناء الفكري وثوابته ولا تناقضها ولا تأتي عليها من أساسها، فيتعامل معها بحيوية ويعمل على اندارجها تحته بعد أن يهذّب ما يحتاج إلى تهذيب، وتنقية ما يحتاج إلى تنقية ولا يقبل ما لا يكون صالحا للقبلول؛ وذلك لأن هذه الحياة متغيرة والحوادث متجددة والأفكار والأحوال والبيئات من طبيعتها عدم السكون والثبات، بل الغالب عليها التغير والاختلاف والتجدد، فهذا من لوازم العقل البشري والمجتمعات الإنسانية، فكان من المناسب أن يستوعبها البناء الفكري ولا يصادمها ويقرّ بها ولا ينكرها ويعترف بها لا أن يجحدها، وكان هذا من علامة قوة البناء الفكري لا على ضعفه، وعلى ثباته لا على هشاشته وعلى حيويته لا على جموده وعلى تميّزه لا على عدم تميزه، وكلما كان توافق هذه المستجدات والنوازل مع أصول البناء الفكري ميسورا وسهلا، كان هذا دليلا على حيوية هذا البناء الفكري وصلاحيته للأفراد والمجتمعات، ويتضح ذلك جليًّا في إخبار معاذ رضي الله عنه النبي بأنه سيجتهد في معرفة الحكم ما وسعته طاقته وجهده عند عدم وجود الحكم في الكتاب أو السنة، فهذا يدل على أن الشريعة لم تنص على جميع حكم ما يقع في الحياة أوسوف يقع من حوادث ونوازل: حادثة حادثة ونازلة نازلة، وإنما نصت على الطرق التي تُعين على معرفتها إذا وقعت وهو ما يندرج تحت الاجتهاد وطرقه، ومعنى ذلك أن الشريعة تستوعب المستجدات وتقبلها وتقرّ بها ما دامت لا تخالف نصوص الشريعة وقواعدها ومقاصدها، وهذا ينطبق على البناء الفكري الذي يعتمد على أصول وأسس تمكنه من استيعاب المستجدات وتقبل المتغيرات ما دامت لا تناقص هذه الأصول وتلك الأسس.

  • هذا البناء الفكري يقبل الخطأ والتجريب من الأفراد ولا يشنّع على وقوعه ما دام الفرد الذي ينتمي إلى هذا البناء الفكري قد بذل وسعه وطاقته في التوافق بين ما يقابله من حوادث ونوازل ومجريات وبين بنائه الفكري وقواعده، فإنه يُثنى عليه من أجل محاولته الصادقة تلك، فلم يتعمد الخطأ أو الانحراف عن جادة بنائه الفكري، بل إنه يكون مشكورًا على فعله فلا يُلام ولا يعاتب ولا يؤنب ولا يهاجم ولا يُتنمر عليه، بل يُقدر جهده واجتهاده في تطبيق أسس بنائه الفكري لديه على ما يموج به المجتمع والعالم من أفكار واختلافات واتجاهات ومستجدات، ما دام مخلصا وجادا في الوصول إلى الصواب وإصابة الحق، وإلى ذلك التوافق المنشود بين بنائه الفكري وأحداث حياته واندراجها تحت ذلك البناء، فإن أخطأ في ذلك فلا يُمنع من المحاولة مرة ثانية وثالثة ولا تُسلب إرادته في ذلك ولا تُصادر، فإن مريد الصواب ومنشده سوف يصيبه. وهذا ما يوضحه حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، عندما أعلنها صريحة أنه سوف يجتهد في معرفة الحكم عند عدم النص الذي يمكنه من ذلك، وهناك احتمال لأن يصيب وأن يخطأ، فلم يمنعه النبي صلى عليه وسلم من ذلك، بل أثنى على فعله وأظهر سعادته بذلك.
  • هذا البناء الفكري يفرح بمن يستوعب أسسه وأصوله ويعمل بمقتضاها ويطبقها في كل حياته و أموره وأفكاره، فيجعله حيًّا نابضا أمام عينيه يستلهم أسسه ويسترشد بها في رحلة حياته، فهو يتفاعل تفاعلا إيجابيا مع بنائه الفكري معرفة وتطبيقا: إدراكا وتفعيلا: استيعابا واستلهاما: منطلقا ونهاية، ويلزم عن استيعابهم أن يُشجعوا ويُشد على أيديهم؛ طلبًا للمزيد من الاستيعاب والتنقيح والترسيخ والإنتاجية الإيجابية، فإن  البناء الفكري عليه أن يحرص على أن يكون له جنود مبدعون يدافعون عنه ويبرزون محاسنه وينفون عنه تحريف المنحرفين وتأويل المبطلين حتى يكون نقيًّا صافيًا، وعلى البناء الفكري أن يعمل  على أن يكون هؤلاء الجنود المبدعون في مكانتهم التي يستحقونها والمنزلة التي تدل على أنهم مقدرون من الناس أفرادا وهيئات. وهذا ما يوضحه ما فعله النبي مع معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما اتضح لديه استيعابه المنهج الصحيح لاستنباط الأحكام والتطبيق السديد لهذا المنهج، فقد سعد بذلك وفرح ودل على ذلك الفعل والقول، فأما فعله فقد ضرب على صدر معاذ ثناءً ومدحًا له، وأما قوله فكان مصاحبا لفعله أو بعده، وهو قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ»، ليتكامل الفعل والقول في إظهار الثناء على المتمسك بالبناء الصحيح العامل على تفعيله الإيجابي في أرض الواقع.

والخلاصة أن هذا الحديث الشريف يبيّن أهمية البناء الفكري السليم للأفراد، والعمل على التأكد من صحته لديهم وسلامته من التشويه والانحراف عند التطبيق، وإتاحة الفرصة أمامهم للمساهمة الفعالة في هذا البناء الفكري بحسب اجتهادهم وقدراتهم.