كتاب “حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة: مرجع لأقدم الكتابات السريانية عن الإسلام” تأليف “مايكل فيليب بن”، والصادر مترجما، عن دار جليس للنشر والتوزيع، عام 2022، في 277 صفحة، من الكتب الفريدة التي ترصد اللقاء الأول بين المسلمين والمسيحيين، وكيف رأى هؤلاء المسيحيون السريانيون، الإسلام لحظة الفتوح، فقد كان هؤلاء يشكلون عامة الشعب في تلك المناطق في بلاد الشام وأجزاء من آسيا الصغرى والعراق وإيران.
السريان، هم سكان أصليون في بلاد الشام وأجزاء من آسيا الصغرى والعراق وإيران، دان أغلبهم بالمسيحية، وتحدثوا اللغة الآرامية السريانية، وهم أول من التقى من المسيحيين بالإسلام والمسلمين، مع انطلاق الفتوحات الإسلامية بعد الاستقرار السياسي في شبه الجزيرة العربية عقب إنتهاء حروب الردة.
كان الانقسام الديني المسيحي، حول طبيعة المسيح عليه السلام، مدخلا لانقسامات متتالية في الكنيسة، فظهرت الصراعات المذهبية، وسعت المجامع الدينية لحسم تلك الخلافات، من خلال قرارات المجامع، وأبرزها: “نيقية” عام 325م، والقسطنطينية عام 381م، ، و”أفسس” عام 431 م، و”خلقيدونية” عام 451 م، ومع هذا ضربت التصدعات الكنيسة بقوة، مع تبني الدولة البيزنطية لبعض الآراء الدينية الصادرة عن تلك المجامع، فكان القمع عنيفا ضد المخالفين، وتعرض أتباع الكنيسة السريانية الأثوذكسية لاضطهاد البيزنطيين، خاصة إبان حكم الإمبراطور البيزنطي “يوسطينوس الأول” الذي تولى الحكم عام 518م.
صعود هرقل وظهور الإسلام
تزامن صعود هرقل، كإمبراطور لبيزنطة، مع ظهور الإسلام وبعثة النبي محمد –ﷺ-، ومع هزيمة هرقل المنكرة أمام الفرس، اقترب الجيش الفارسي من مضيق البوسفور، أي من عاصمة الدولة القسطنطينة، وسيطر الفرس على القدس أو “أورشيلم” عام 614 ميلادية وفي تلك الأثناء جاءت بشارة القرآن الكريم في سورة “الروم” بانتصار الروم في بضع سنين، وسرعان ما انتقل هرقل من الهزيمة إلى انتصارات متتالية على الفرس الساسانيين، وتوج انتصاراته بدخول القدس في مارس 630 ميلادية، والذي جاء متزامنا في نفس العام مع دخول النبي ﷺ مكة المكرمة فاتحا.
في تلك الفترة لم يكن البيزنطيون ينتبهون للعرب الواقعين على حدود دولتهم، فقد كان العرب خارج دائرة الصراع العالمي، لكن لم تمض سوى أربع سنوات على دخول هرقل للقدس، حتى بدأت انتصارات المسلمين على الروم في الشام في سلسلة معارك أهمها “اليرموك” 636 ميلادية، والتي أنهت سيطرة البيزنطيين على سوريا نهائيا، تشير الكتابات السريانية في ذلك الوقت، إلى مقدار الألم البيزنطي لفقد سوريا، فقد غادرها “هرقل” وهو حزين قائلا: “ودعا سوريا”، وداع يوحي بفقدان الأمل في استردادها، غير أن هزائم “هرقل” أمام المسلمين بـ”رهاب الماء” فلم يستطع أن يعبر مضيق البوسفور ليحتمي بأسوار عاصمته القسطنطينية.
أهمية الكتاب
كتاب “حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة: مرجع لأقدم الكتابات السريانية عن الإسلام” تأليف “مايكل فيليب بن”، والصادر مترجما، عن دار جليس للنشر والتوزيع، عام 2022، في 277 صفحة، من الكتب الفريدة التي ترصد اللقاء الأول بين المسلمين والمسيحيين، وكيف رأى هؤلاء المسيحيون السريانيون، الإسلام لحظة الفتوح، فقد كان هؤلاء يشكلون عامة الشعب في تلك المناطق في بلاد الشام وأجزاء من آسيا الصغرى والعراق وإيران.
الكتاب يؤكد أن المسيحيين الأوائل الذين التقوا بالمسلمين، لم يكونوا هم المسيحيين الناطقين باللاتينية من غرب البحر الأبيض المتوسط أو المسيحيين الناطقين باليونانية من القسطنطينية،؛ بل كانوا المسيحيين الذين تحدثوا باللهجة السريانية الآرامية، والذين عاشوا تحت الحكم الإسلامي منذ القرن السابع الميلادي، وهؤلاء أول من كتب عن الإسلام، وهي كتابات لا يمكن اختزالها في العداء فقط.
يؤكد المؤلف “مايكل فيليب” وجود تهميش للكتابات التاريخية المبكرة التي دونها السريانيون، رغم أن هؤلاء شكلوا نصف المسيحيين في العالم حينها، وأرجع “فيليب” السبب إلى أن مسيحيي الشرق لم يستخدموا اللاتينية أو اليونانية، وهما اللغتان اللتان درسهما مؤرخو الكنيسة أكثر من غيرهما، إضافة إلى العامل الديني الذي اعتبر أن جزءا من هؤلاء هراطقة فلم يهتموا بتأريخهم، كذلك فإن السريانيين، لم يكتبوا بالعربية أو الفارسية، ولذا انصرف عنهم اهتمام المؤرخين في الدراسات الاسلامية.
ومع ضعف التأثير الطائفي على الدراسات التاريخية، ظهر الاهتمام بما دونه مسيحيو الشرق الأوسط، عن الفترة التي ظهر فيها الإسلام، فحظيت الفترة من القرن السابع الميلادي حتى القرن التاسع الميلادي باهتمام المؤرخين، وهي الفترة التي شهدت التقاء الإسلام بالمسيحية، هذا الاهتمام ساهم في فهم جديد لمرحلة مهمة في تاريخ العالم، وهي لحظة ظهور قوة المسلمين على المسرح العالمي وصدامها مع الفرس والروم .
الملاحظ أن النصوص الأكبر والأكثر تنوعا عن تلك اللحظة في اللقاء بين الإسلام والمسيحية كتبت باللهجة الآرامية للسريانية، فقد كانت السريانية لغة مشتركة لأغلب شعوب الشرق الأسط في أواخر العصور القديمة، والكتاب يؤسس مادته على ما توفر من دراسات حديثة عما كُتب باللغة السريانية في تلك الفترة المبكرة.
المسيحيون السريان هم أول من التقى بالمسلمين، وتظل سجلات ذلك اللقاء الأهم، رغم ابتعاد أغلبها عن الموضوعية، لتأثرها بطبيعة الصراع والحروب، ومع هذا فإنها تعطي لمحات عن الانطباعات والتصورات الأولى عن الإسلام والمسلمين، وهي رؤية تختلف-نسبيا- عن الرؤية البيزنطية، التي كانت خاضعة لرؤية الدولة، أضف إلى ذلك أن السريان-باعتبارهم المكون البشري الأساسي في تلك المناطق- كانوا أكثر احتكاكا بالمسلمين، وأقل عدائية من البيزنطيين، لذا احتوت كتاباتهم على بيانات ومعلومات عن القرن الأول للهجرة، ومما يزيد أهميتها أن تلك النصوص المبكرة من النادر أن تجد ما يماثلها في التأريخ لتلك الفترة، ومع ذلك يؤكد الكتاب أن المؤرخين السريان يجب أن تؤخذ كتاباتهم بحذر، إذ كانت لهم أجندتهم الخاصة، والتي اتسموا فيها بالتحيز الواضح.
معلومات مهمة
وردت أول إشارة في الكتابات السريانية عن الإسلام، فيما تم تدوينه عام 637م عن معارك المسلمين في الشام، لكن النصوص تكلمت عن العرب، وليس المسلمين، وبعد مضي عشر سنوات ظهرت كلمة المسلمين على استحياء في بعض تلك التدوينات، مثل تدوين رئيس الكنيسة السورية الشرقية البطريرك “إيشوعياب الثالث” الذي ذكر أن المسلمين يبجلون الكنيسة ويساعدونها، وتحدث عن محاولات بعض السريان التقرب من المسلمين في ظل صراعات السريانين الدينية، واللافت للنظر أن النصوص لا تشير إلى شيء إسلامي صريح.
قدمت الكتابات بيانات عن المعارك، وصورت بعض حروب المسلمين بأبشع الأوصاف والمصطلحات، ونظرت إلي ما جرى أنه نهاية الزمان، لكنها لم تنظر إلى الإسلام كدين وعقيدة شاملة ذات استقلال، لكن مع العام 683م أخذت هذه النظر تتغير في ظل الحروب والصراعات التي شهدتها الدولة الأموية، ونجد أن أحد المؤرخين هو الراهب السوري “يوحنا بن الفنكي” وثق رؤيته لتلك الأحداث، معلنا رأيه بأن الكنيسة تظن أن البشرية فقدت فرصتها الأخيرة للإصلاح، وأنه لا شيء يحفز البشرية على التوبة، مع اقتراب نهاية العالم.
في عهد عبد الملك بن مروان بدأ الجدل الديني بين المسلمين والمسيحيين، وتزايد مع بناء مسجد قبة الصخرة، وتحول الإدارة في الشام نحو اللغة العربية، وتحول السريانية من لغة مشتركة إلى لغة شعائرية، ومع هذا التحول ظهرت مجموعة من الأسفار، رأت في المسلمين بلاءا قصيرا لن يلبث أن يزول، بلاءٌ سببته خطايا المسيحيين.
السريانية والتعايش مع الإسلام
لكن لم تلبث أن ظهرت كتابات سريانية تلمست التعرف على العقيدة الإسلامية، مثل كتابات الأسقف “يعقوب الرهاوي” أسقف الرها، الذي تحدث عن التداخل بين المسلمين والمسيحيين، فقد كان الأقرب والأكثر وضوحا في الحديث عن العقيدة الإسلامية، جاءت هذه الكتابات عقب نجاح المسلمين في توطيد حكمهم في بلاد الشام بصورة حاسمة، وتلاشي الآمال المسيحية في استعادة الشام مرة أخرى، وأمام هذا التحدي، أخذت الكتابات السريانية تبحث عن أطر تفسيرية أخرى للتعامل مع تلك المستجدات، أبرزها كيفية التعايش مع الإسلام الحاكم والمهيمن على الحياة السياسية في الشام، وفي تلك الفترة لعبت الجزية دورا في تزايد أعداد المسلمين، خاصة مع تقديم الإسلام نفسه بعيدا عن التعصب للعرق أو للنسب.
تعكس المصادر السريانية في العصر الأموي تغيرات جذرية في طريقة تفكير المسيحيين وكتاباتهم، ورؤيتهم للإسلام والمسلمين، فتكشف عن فهم أكثر للإسلام كدين مستقل، ومع القرن الثامن الميلادي اقتربت الكتابات السريانية أكثر من الإسلام.
كتاب “حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة” قدم قدرا معتبرا من النصوص والكتابات السريانية، حتى العام 750 ميلادية، في إطار منهجي، يمهد بمقدمة موجزة لكل نص قبل تحليله، ويقدم السياق الذي ظهر فيه ذلك النص.