رصد الدكتور خالد فهمي، أستاذ اللغويات بآداب المنوفية، والخبير بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، حدوثَ تحولٍ عظيم في مفهومي الإصلاح والتجديد بمجيء الإسلام، ونزول الكتاب العزيز، وحركة النبوة الكريمة، وذلك في بحثه (الإصلاح والتجديد.. دراسة مفاهيمية في ضوء النموذج المعرفي الإسلامي)، الذي شارك به ضمن أعمال المؤتمر الدولي لكلية أصول الدين بطنطا.
وأوضح “فهمي” أن الإصلاح والتجديد مفهومان لهما حضور عريق في اللسان العربي، بوصفهما دالين حاملين لمعنى مركزي يشير إلى مقاومة الفساد والعودة إلى المنابع الصافية.. منبِّهًا إلى حدوث تشوهات معرفية لحقت بالمفهومين، وصنعت تناقضات عند التطبيق؛ بسبب الانفتاح على الغرب، وعدم الوعي بما يفرضه النموذج المعرفي الإسلامي.
وبيَّن أستاذ اللغويات استمرارَ حضورِ المفهوم الإسلامي للإصلاح والتجديد في المشروعات الفكرية المعاصرة، التي فحصت منجز المجددين والإصلاحيين المعاصرين في الميادين الفلسفية والفكرية والسياسية والمقاصدية.. إضافة إلى حصول تراكم معرفي داعم، يتمثل في وفرة الأدبيات العلمية التي توقفت أمام فحص مفهومي الإصلاح والتجديد.
وأضاف: هذا التراكم يتمتع بتنوع حقول المعرفة المشتبكة مع هذين المفهومين، وتوزعها على الفلسفة والفكر، والاجتماع، والسياسة، والمقاصد.. وبتنوع المواقع العملية لأصحاب هذه الأدبيات العلمية، وتوزعهم على الاشتغال بالتعليم والتربية والقضاء، والسياسة.. وهو ما يمنحنا نقطة قوة إيجابية على طريق الدعوة إلى تأسيس مشروع مستقبلي يرعى الإصلاح والتجديد.
وأشار “فهمي”، في المدخل إلى بحثه، إلى أن الحياة الطويلة الممتدة التي تطيف بالأجيال المتعاقبة، وما جُبل عليه الإنسان من غرائز، وما يحكمه من سمات وخصائص؛ أمورٌ تحمل على معاودة النظر فيما كان من أحوال، وما آل إليه الأمر مع تباعد الأزمان، وما استجد من مسائل وقضايا وظواهر.
وأوضح أن معاودة فحص مفهوم “الإصلاح والتجديد” في ضوء النموذج المعرفي الإسلامي، الذي تأسس على ما جاء به هذا الوحي في نسخته الخاتمة، يصبح أمرًا مشروعًا بامتياز؛ خاصة أن ثمة أوامر وردت في النصوص الصحيحة تأمر من طرف الإخبار بمعاودة العمل من أجل مطلب التجديد، وما يستتبعه من عمليات الإصلاح، كما في حديث أبي داود: “إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، مَنْ يجدِّد لها دينها”.
وأضاف: هذا الحديث الصحيح في التحليل النحوي تركيب اسمي معقد مؤكد مكون من: (مبتدأ مؤكد بإن + خبر جملة فعلية)، وفحص جملة الخبر الفعلية يكشف عن العلامات التالية: صلاحية الجملة الخبرية للأمر.. دلالة الجملة الفعلية على التجدد من جانبين: جانب الفعل المضارع الذي يدل على هذه الدلالة؛ وجانب شبه الجملة الذي يدل هنا بعناصره المعجمية على دلالة التكرار.. إضافة إلى دلالة الجملة على اقتران الأمر بالتجديد بحضور عوامل الشدَّة والجذب الأخلاقي والحضاري، وهو ما يمكن استشفافه من استعمال الحديث لكلمة: (سَنَة) بما يسكن بنيتها المعجمية من معاني الجدب والقحط!.. ودلالة توسيع المدعوين للنهوض بأمر التجديد، وانفتاح المقصود بهم دون التقيد بعدد أو جنس، وهو ما يظهر من استعمال الحديث لكلمة : (مَنْ) بوصفه اسمًا موصولاً مبهمًا يصلح للمفرد بنوعيه، وللجمع بنوعيه!
نقطة الميلاد الأولى:
وذكر الأكاديمي المصري أن فحص دلالات (التجديد) في خطاب المعجمية العربية العامة يكشف عن حضور دلالة أصلية هى: القطع؛ فقولهم: ثوب جديد، كأن ناسجه قطعه الآن. هذا هو الأصل، ثم سُمِّي كل شيء، لم تأت الأيام عليه جديدًا.. ما يعني أن التجديد في المفهوم اللغوي المعجمي نوع من الابتعاد الصلب عن كل الهوامش والعلامات التي رانت على الأشياء والأفكار مع مرور الأيام والأزمان؛ والعودة بهذه الأشياء والأفكار إلى نقطة الميلاد الأولى، أو ما يمكن تسميته باستعادة الحالة الأولى؛ أو “استعادة الضبط الأول”.
وتابع: بالنظر إلى البنية التصريفية المتعدية بالهمزة لـ(الإصلاح)، فإننا بإزاء معنى مركزي أو محوري يتعلق بحصار الفساد، ومطاردته، وتغييره، وتحويله إلى نقيضه. ويكشف فحص معاني هذه الكلمة في المجمعات العربية عن: إقامة الشيء بعد فساده.. وعن الإحسان؛ ما يعني أن النهوض بالإصلاح لما فسد من المفاهيم والممارسات هو نوع من الإحسان إلى المجتمع.. وعن المسالمة؛ حيث تذكرها المعجمات باعتبارها من معاني الصلح، وهو ملمح مناسب يمكن توظيفه في عمليات الإصلاح والميل بها نحو استعادة السلم مع الذات.
في الخطاب القرآني:
أما عن (التجديد) في الخطاب القرآني، فكشف البحث أن فحص ما ورد في كتب الوجوه والنظائر وكتب غريب القرآن يكشف عن استمرار معنى “القطع” والعودة بالأمر والشيء إلى أوليته، قال تعالى {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}. وهذا يعني أن الآيات التي وردت في الكتاب العزيز آمرة أو مخبرة الأمور الجديدة تهدف إلى نمط من إرادة النشأة الثانية، وقطع الأمور عن محيطها والعودة بها إلى العهد القريب والعودة بها إلى منشئها الأول سبحانه.
وأوضح أن التحليل الدلالي للدوال المنحدرة من (ص ل ح)، في المعجمية الإسلامية، يكشف عن استمرار المعاني التي ظهرت في المعجمية العربية العامة التي تختص بما يضاد الفساد ويناقضه.. وعن سمات دلالية حديثة تتعلق بما يقابل “السيئة”.
وأضاف: يشير التحليل كذلك إلى معنى التمام، وإلى معنى ” التوحيد” وبه فسروا قوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}. وعند هذه النقطة يظهر نمط من التحول العظيم في دلالات (الإصلاح) في الاصطلاح القرآني وربطها العضوي العميق بالأصول الفكرية الكبري للإسلام في مقدمتها: التوحيد وأفعال التعبد والطاعة والتوكل.. مما يجب التنبه إليه في تقويم مشروعات الإصلاح ومراجعاتها، من جانب، وفي تأسيس مشروعات الإصلاح المستقبلية وتحكيمها، من جانب آخر.
في خطاب الثقافة العربية:
وأوضح د. خالد فهمي أنه لا يمكن الوصول إلى التجليات الفكرية والفلسفية المعاصرة في خطاب الثقافة العربية لدلالات هذين المصطلحين (الإصلاح والتجديد)، وتحليل ما طرأ عليهما من تحولات و”تشوهات” معرفية أحيانًا، من دون فحص الحضور التراثي لمفاهيمهما في الخطاب العلمي المختص الصادر عن هيمنة الوحي ومركزيته في حضارة العلم في حياة المسلمين زمان تمدد محددات مركزية الوحي وقبل انحسارها، وحلول عناصر تمدد العلمنة مكانها في القرون المتأخرة.
وتابع: يقود التحليل المفهومي لهذين المصطلحين المركزيين عن حضور مجموعة من المعايير الفكرية التي تحكم حركتهما في ميادين الثقافة العربية في ظل هيمنة الوحي ومركزيته، وهي التي يمكن إجمالها فيما يلي:
– حضور المعيار الاعتقادي (التوحيدي)
– حضور المعيار الأخلاقي (التزكية)
– حضور المعيار العمراني (العمران)
– حضور المعيار المعرفي (الاحتكام لنصوص المرجعية العليا: الكتاب العزيز ، والسنة المشرفة)
– حضور المعيار النفسي (مفهوم الأمة الواحدة)
– حضور المعيار الحضاري (تراكم التجارب/ وحضور تجربة نبوية حاكمة).
كما تطرق البحث إلى فحص (الإصلاح والتجديد) في خطاب الثقافة العربية المعاصرة، من خلال عدد من النصوص التأسيسية المعاصرة، بهدف الكشف عن التحولات المفهومية والدلالية التي أصابت مفهومات هذين المصطلحين، وبيان أسبابها.. وذلك في منجزات: عثمان أمين، أمين الخولي، أحمد أمين، طارق البشري، أحمد الريسوني.
خطاب المتفق عليه:
وخلص البحث إلى أن تحليل التناول المفهومي والدلالي لمصطلحي (لإصلاح والتجديد)، بدءًا من نصوص المرجعية المركزية المتمثلة في نصوص الوحي: كتابًا وسنة، ثم في تجليات المعرفة الإسلامية في جانبها الشرعي، ثم في تجليات التناول المعاصر في حقول: الفلسفة، والفكر، والسياسة، والمقاصد.. يكشف عن حزمة من العلامات يمكن تسميتها بـ”خطاب المتفق عليه”؛ وهو مسألة لها خطرها في هذا السياق الراهن استجابة لتجاوز الاستقطابات المجتمعية، ولصناعة حالة وفاق هي من شروط الإصلاح والتجديد بعيدًا عن الجدل والشغب.
وأوضح أنه يمكن إجمال “خطاب المتفق عليه” بشأن مفهوم (الإصلاح والتجديد) في عدة نقاط، أهمها:
أولاً: الاعتراف بأن ثمة حالة من الضعف والتراجع الحضاري ضربت الأمة ومجتمعاتها منذ فترة طويلة؛ بسبب عوامل داخلية وخارجية معًا.
ثانيًا: حضور الوعي بأهمية استصحاب المحددات التالية في النهوض بعمليات الإصلاح والتجديد:
– استصحاب العلم والتعليم والتربية، بوصف ذلك ركيزة لازمة وأساسية.
– استصحاب التحرر الإنساني من القهر المادي والمعنوى، والتخلص من الاستبداد بكل صوره.
– استصحاب الرؤية الكلية للإصلاح في التأسيس المفهومي، مع إقرار مبدأ التدرج والتبضع عمليًّا أو إجرائيًّا أو مركبًا أو واقعيًّا.
ثالثًا: التركيز على المحددات الداخلية المعرفية للإصلاح، بوصف الإصلاح والتجديد عملية خاضعة للنموذج المعرفي، وترتبط بالهوية الفردية والجماعية معًا.
رابعًا: التركيز على قضية “العصرية”، واستلهام الماضي وخبراته وتجاربه، وليس استدعاءه وإعادة إنتاجه.
خامسًا: الركون نحو الوسائل “الإصلاحية” بدرجة أساسية، بمعنى منح اعتبار “الإصلاح الآمن” أولوية أساسية؛ وهو ما يمكن التقاطه من التحليل الكمي المتكاثف لأصوات أصحاب المشروعات المعاصرة الذين دعوا إلى الإصلاح من بوابات التعليم، والتربية، والعلم، والتصحيح الإداري.. في مواجهة الناتج الكمي المنخفض للذين دعوا إلى الإصلاح من بوابات “الثورة”.
سادسًا: الاتفاق على المنزع العلمي الملازم لمفهومي الإصلاح والتجديد؛ وهو أمر يبدو منطقيًّا لارتباطه بحركة الأفراد والمجتمعات، وتنوع المشكلات العملية التي يواجهونها.