إن معرفتنا بالعالم تتضمن مجموعة من الأباطيل والأساطير تجعل تعاملنا معه مضطرباً، وإدراكنا له مشوشاً، وتمهد للتخلف القاسي الذي نعيشه عما يريده الله منا ولنا، وعما كان عليه آباؤنا وأجدادنا الذين ضربوا في الأرض عن علم وفهم ووعي، فكانت لهم قيادة الحضارة، وسادوا الدنيا عن جدارة واستحقاق. فكرتنا مثلاً عن الانحلال الذي يملأ الغرب، والتفكك الأسري، وقلة العناية بالدين والأخلاق … إلخ، وكيف يمكن لزواج الثقافات أن ينجح ويغير الأفكار المختلفة والخاطئة بين المجتمعات؟

هذه الفكرة أكذوبة شريرة شاعت في الأذهان والأفهام، وكانت مقدمة لانبهار نفَرٍ من شبابنا بالغرب، فقد تبين لهم مع أول احتكام لهم أنهم ليسوا كما نظنهم “بلا أخلاق أو قيم”.

وباختصار: فإن بروز الانحلال كمناخ عام تسهم فيه وسائل الإعلام، ومؤسسات أخرى كثيرة، لا يعني أن الأفراد قد صاروا مجرد عبيد للشهوات، ووحوش ضارية لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، بحيث تكون مفاجأة عندما نري أوربيًّا محترماً!! ما هي مصادر هذا الوهم والخلل في تصورنا عنهم؟! هذا بحث هام لا نعتزم القيام به الآن، ولكن يكفي التنبيه إليه.

من اللافت أن التفكير بطريقة “نحن وهم” بمعنى أننا مصدر الفضيلة والأصالة والأخلاق والدين، وهم منبع المفاسد والتفكك الأسري … إلخ – هذا الأسلوب في التفكير والتصنيف مختل وضار، ويخفي عورات هائلة لدينا في التصورات والممارسات، والمحصلة أنهم بسبب المكاشفة والشفافية، وتسليط الأضواء على العيوب – “الأمر الذي يزيد عن المعقول أحياناً” – نراهم يعدلون من مسارهم، ويصححون بعض أخطائهم، بينما نحن – للأسف – يختلط عندنا الأمر؛ فنمارس التستر بدلاً من الستر، ونهرب من مواجهة عيوبنا مختبئين وراء عبارات تمجيد الذات، والاستعلاء دون عمل أو إنجاز يذكر، فهل هذا هو استعلاء الإيمان أم استعلاء الجهل والحماقة؟!

من نحن؟ ومن هم؟

في مسألة زواج الثقافات، التعميم قد يكون مضللا فالناس معادن ولا يمكن إطلاق حكم عام على غرب أو شرق، أو أمة أو فرقة أو جماعة، أو حتى عائلة أو أسرة بأنها كذا أو كذا، والسياق الاجتماعي والثقافي المتحلل بسبب تحرره وتفلته من كل قيد مرفوضٍ أو معقولٍ، لا يعني فساد الناس، بل تبقى الفطرة السليمة هي الأصل في جميع الخلق، وبعد ذلك نرى التصرفات، ونحكم على أصحابها، ولكن ليس بلون بشرة، ولا بجنسية، ولا حتى بالانتماء اسميًّا إلى دين أو قطر أو فئة من الناس.

مازلنا نتأمل ونتعجب حين نسمع عمن يتحدث عن “الغربة” في هذا العصر… فهل هناك من يستطيع أن يشرحها لنا ممن يتحدثون عنها:

أية غربة، وقد أصبح المسلمون – ولله الحمد – في كل مكان على وجه الأرض، وأصبحت المراكز الإسلامية، والمحال التجارية العربية هي القاسم المشترك في كل العواصم الأوربية.

هل نتحدث بلغة الأرقام والإحصاءات عن بلد أوروبي ما، وهم يقولون إن اليوم الذي سيكون للبلاد فيه رئيس من أصول غير أوروبية “خالصة” قد صار وشيكاً للغاية، وإنه حين يحدث هذا فسيكون معبراً عن أغلبية السكان هناك؟!!

عن أية غربة نتحدث في عصر الاتصالات التي يمكننا معها الآن أن نرى، ونتحدث، ونتبادل الرسائل الفورية، والمحادثات الممتدة عبر المسافات والحدود، في الهاتف، وعبر شبكة الإنترنت؟!

عن أية غربة نتحدث في عصر سيكون – عما قريب – نشاطه الاقتصادي الأكبر هو “السفر” حيث ستنخفض أسعاره، وتسهل سبله؟ – وقد بدأ هذا بالفعل.

عن أية غربة نتحدث في ظل نظام عالمي سيصبح الموظف فيه متنقلاً بين فروع المؤسسة التي يعمل فيها، سنة في “لندن”، وسنة تالية في “تونس”، وثالثة في “كراتشي”، وذلك حين تسقط القيود عن التجارة، والتوظيف عبر القارات.

تغير مفهوم الزمن

إن مفهوم الزمان والمكان اختلف تماماً عن ذي قبل، وينبغي أن نفكر بناء على هذا الاختلاف، وفي إطاره مستفيدين من أدواته وآثاره.

هل نحن ما نزال مصرين على أننا “هنا”، وهم “هناك”، أم في الحقيقة أننا “هنا وهناك”، وهم أيضاً كذلك – في عصر اختلاط الثقافات، وحوار الحضارات أو صدامها، وموجات الهجرة المتتالية. وليس معنى ركود الوجود العربي أو الإسلامي في العالم أنه منعدم، فهناك فارق بين الغيبوبة والغياب.

نحو الانصهار الثقافي

في إطار ما سبق سيسهل قول ما يلي:

إن تأثيرات الثقافة الأصلية لكل إنسان ستتقلص وقد تضمر، وربما تندثر إن لم يتفاعل بها مع العالم من موقعه الذي هو فيه، أيا كان هذا الموقع من أرض الله، وخير لنا أن نتحدث عن سبل تعريب أوربا أو أسلمتها “ثقافياً”، من أن نكرر الحديث العاجز الممجوج عن “الغزو الفكري” و”الاختراق الثقافي” الأمر يحتاج إلى تفكير وإرادة، وتخطيط وإدارة… وهو ممكن.

العبرة بالمعدن الأصلي للشخص، والتأثيرات التربوية والاجتماعية التي تعرَّض لها، فهذه الأشياء أكثر أهمية من جنسيته الأصلية. صفة مصري أو فرنسي أو أمريكي – في حد ذاتها – لا تعني الكثير، وربما في وقت قريب لن تعني شيئاً على الإطلاق في الدلالة على أفكار وأخلاق صاحبها!!

الإسلام أضحي في تطبيقات البشر وممارساتهم، وعاءً واسعاً، وعباءة فضفاضة، والمسلمون – مثل كل البشر – فيهم البار والفاجر، والذكي والغبي… إلخ، وطرق تناول الإسلام، والتعبير عن الالتزام به تتنوع من بيئة إلى بيئة، ومن شخص إلى شخص، وهي تتلون بالأذواق والطباع الشخصية.

التنوع والاختلاف في الثقافة أو الطبع يمكن أن يكون مقدمة لتحاور وتكامل، كما يمكن أن يكون مقدمة للتنافر والتشاجر، والعبرة تكون بنضج الطرفين، وأصالة معدنهما، ومدى استعدادهما للمرونة، وتقبل الاختلاف فيما لا حرام فيه ولا حلال، وهي مساحة واسعة جداً بالمناسبة.

أسئلة الزواج من الضفة الأخرى

وعليه، فإن مسألة زواج الثقافات والارتباط بشخص أوروبي أو أمريكي أو  غربي عموما، مسألة تحكمها العديد من الخيوط، لعل أهمها الدين، لكن خيوطا أخرى أيضا تؤثر على هذه العلاقة متى كانت مطروحة على فتاة ما من مجتمعاتنا المسلمة بجوانبها الحقيقية لا المتوهمة من هواجس وأوهام؛ فمثلا:

  • هل درست هذه الفتاة مدى قبول أهل هذا الزوج (الغربي) لها، وانسجامها معهم؟!
  • هل استعدت – في حالة الزواج – بتعلم لغة المجتمع الذي ستعيش فيه، أم ستذهب لتعيش معزولة عنه؟!
  • هل تفهم طبيعة التحديات والمشكلات التي ستقابلها وطبيعة الإيجابيات والتسهيلات هناك، وكيف تستفيد منها؟!
  • هل هي مستعدة للقبول ببعض التنازلات عن طباع تعودت عليها، واكتساب أخرى جديدة في التعامل مع الناس، والحركة في الحياة؟!
  • هل هي مستعدة للحياة في مجتمع وسياق ثقافي وديني مختلف تماما، مع ما يتطلبه هذا من تجاوب وتفاعل مرن؟! حتى وإن قبل هذا الزوج المفترض الاستغناء عن دينه وثقافته لصالح دين وثقافة من اختارته زوجا لها.
  • هل هي مستعدة لغض الطرف عن تعليقات وأقاويل الناس من الأقارب والأصدقاء والجيران الذين سيعتبرون الموضوع فرصة للقيل والقال؟! وهي ظاهرة موجودة.

إذا كانت مستعدة لزواج الثقافات هذا، فعلى بركة الله، ولا يوجد طبعاً أي حرج شرعي في الارتباط بشاب أسلم، وحسن إسلامه وخلقه، بل ستكون هي خير عون له على استكمال جوانب التزامه بدينه، وستكون سبيلاً لاقترابه أكثر من الإسلام كثقافة، والعربية كلغة للقرآن، وسيكون زواجاً موفقاً بإذن الله.