ماذا يعني أن ينوي رجل في الـ 93 من العمر الزواج بسيدة يعرفها منذ طفولته تبلغ من العمر 92 سنة، كانت تدرس معه في الصف الثالث الابتدائ؟ هل يمكن تسميته زواج المؤانسة أو الارتباط فوق الستين؟ وماهي نظرة المجتمع والعائلة لمثل هذا الارتباط؟ وهل يقتصر إسعاد هذه الفئة من المسنين على الرعاية الصحية والاجتماعية والقانونية فقط، أم هناك طرق ووسائل أخرى لإسعادهم؟ طرق تطرد عنهم هموم الهجر والجحود والوحدة والطلاق.

الأمر ليس استهتارا أو مضيعة للوقت، الأمر مجرد أفكار يمكن أن تخطر على بال أحد، ففي إحدى الجمعيات لرعاية المسنين في دولة عربية تم تبني شعار “زواج المؤانسة.. فوق الستين” ودعت السيدات والرجال داخلها للتفكير بالأمر بشكل إنساني وعفوي، ولقد تمت بالفعل زيجات عدة ونقل برنامج تلفزيوني تجارب بعضهم..

حب ومؤانسة أم وحدة وطلاق؟

ومن خلال هذه التجارب نكتشف أننا نتحدث عن الحب والارتباط والمؤانسة وليس عن الهجر والوحدة والطلاق.. نكتشف هذا ونتعرف عليه ونحن نرى ذلك الألق الأخاذ في عيون إحدى السيدات لزوجها المسن، وهي تحكي في خجل أنها قد تكون وجدت معه هذا الشعور بالإعجاب والاحترام لفارس الأحلام الذي يشغل الفتيات الصغيرات، أما هو فقد قال إنه لم يتوقع أبدا وفي هذا السن أن يؤخذ بصوت زوجته الجميل وهي تغني له، بعد تجاوزهما لعمر الستين، قصيدة “ابق معي”.

ونفهم أكثر ونحن نقرأ رأي الكاتب فهمي هويدي حين قال: “الأمر يحتاج منا فقط أن نأخذه بجدية، وأضاف:هو حل مثالي وصعب في الوقت ذاته، لأن المجتمع العربي أصبح مستعدا في بعض دوائره لقبول فكرة “زواج المسيار” للمتزوجين فعلا الذين يبحثون في الأغلب عن مزيد من المؤانسة، ويحاولون تلبية احتياجاتهم البيولوجية في الوقت ذاته، في حين أن كبار السن هم أحوج إلى المؤانسة خصوصا في ظل انفراط عقد الأسرة الحديثة.

زواج المؤانسة لمخاطبة الإنسانية

ويضيف هويدي: “لم يحاول أحد أن يخاطب إنسانيتهم ويوفر لهم الصحبة التي تساعدهم على أن يقضوا ما تبقى لهم من سنوات العمر في دفء وسكينة، وفي ظل انتماء وتفاعل حقيقيين مع المجتمع المحيط بهم، وغاية ما استطاعته بعض المجتمعات أنها وفرت دورا للمسنين والعجزة، هي في حقيقة الأمر بمثابة قبور جماعية لأحياء يقفون جميعا على أبواب الآخرة، ونادرة هي البلدان التي اعترفت بإنسانيتهم وتعاملت معهم باعتبارهم جزءا من المجتمع يمكن الاستفادة منه، كما أن لهم الحق في الاستمتاع بمختلف مباهج الحياة وفي حدود علمي.

مؤانسة أم تمريض؟

ويشير آخرون إلى بعض أسباب الصعوبة الحقيقية ومنها “أن كبار السن في دول العالم الثالث يعانون من مظاهر كثيرة للضعف الجسماني بسبب تراجع الرعاية الصحية، وبالتالي فإنهم يحتاجون إلى تمريض أكثر مما يحتاجون إلى مؤانسة، وفي ذات الوقت فإن الإنسان حين تكبر سنه يصبح قد تشكل وغدا أكثر استعصاء على التوافق مع الآخرين، الأمر الذي يسحب الكثير من رصيد السكينة والمؤانسة المرجوتين.

نقول هذا الكلام وقد أصبح موضوع رعاية المسنين من قضايا الساعة التي تحظى بالاهتمام. وأصبحت الكثير من الدول في العصر الحديث تقدم برامج متنوعة من الرعاية الاجتماعية لمواطنيها وسكانها بهدف تحقيق عدل اجتماعي وتوفير خدمات لهذه الفئة من فئات المجتمع باعتبار أن ذلك من معايير رقي وتقدم ونهضة الدول.

الحاجة إلى الحب كالحاجة إلى الدواء

الكثير من الدول في إطار استراتيجياتها وبرامجها الوطنية المختلفة، أولت اهتماما كبيرا لفئة كبار السن وسعت عن طريق التدابير المختلفة إلى تمكينهم وتعزيز دورهم في المجتمع بما يتيح لهم العيش باستقلالية وإنسانية وكرامة، فكفلت القوانين الوطنية للمسنين الحق في الضمان الاجتماعي، والمسكن، والعمل، والحماية القانونية، وتم إنشاء مؤسسات متخصصة تعمل على توفير خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية والنفسية لكبار السن عبر مجموعة متنوعة من الخدمات والبرامج التي تتناسب مع احتياجات المستفيدين وتشمل الرعاية الإيوائية، والرعاية النهارية، والرعاية المنزلية المتنقلة، والرعاية اللاحقة.

ولم يأت هذا الاهتمام من فراغ وإنما يرجع الاهتمام بهذه الفئة إلى أنها أصبحت ذات تأثير واضح على التركيب السكاني للمجتمعات، لكن هذا الاهتمام لم يرقى إلى درجة لم شمل هذه الفئة، ومحاولة التقريب بينهم وإسعادهم في آخر أيامهم. فالتحدي الآخر لا يكمن في مواثيق حقوق الإنسان وآلياتها المعنية لتكريس حقوق المسنين، وإنما في إعادة النظر في التخطيط المستقبلي لنمط الحياة والعلاقات السائدة لهذه الفئة.

السعادة تأتي بعد الستين

وتنفي دراسة اجتماعية هذا الرأي حيث أشارت إلى أن أكثر الناس سعادة هم من تتراوح أعمارهم بين 60 و80 عامًا، أي من تخلصوا من هموم العمل ومتاعب الأبناء، ولا يلبث الإنسان أن يستقر إلا في سن الستين، حيث التخلص من متاعب العمل ومشكلات الأبناء والتخفف من أحمال ثقيلة عاشوا بها طويلا، وأن الأمر فقط يتعلق بوهم يسيطر على الإنسان أنه في الطور الأخير، ولكنه إن أحب الحياة فسيجد الحب متدفقا من حوله، خاصة لو تعلق الأمر بقلب في نفس مرحلته العمرية مر بكل التجارب السابقة وفي انتظار “جدول هادئ” أخير يرتكن له.

الحب في زمن كورونا

في مسرح زواج المؤانسة هناك مشاهد كثيرة حقيقية ولكن أيضا روائية يمكن أن تكون من نسج الواقع، ولعل أبرزها مشهد “فولنتبرو” بطل رواية “حب في زمن الكوليرا” للأديب اللاتيني غابرييل غارسيا ماركيز وهو واقف ببذلته الكاملة يضع قبعته أمام صدره وينظر لحبيبته التي ملكت قلبه واختفت قبل سبعين عاما ليلقاها مجددا في اليوم الأول لترملها، وقف أمامها مشدوها قائلا بعيونه: “أخيرا أنت هنا، كنت أوقن أننا بالنهاية سنلتقي”.

يومها نهرته وطردته من بيتها أو بالأحرى من بيت زوجها الذي ما لبث أن ذهب إلى قبره، ولكن بدأت الأيام المتشحة بالسواد في الانسحاب على حياتها مسكبة عليها مزيدا من الكآبة، وكشفت لنفسها الحقيقة تدريجيا في الحياة التي عاشتها مع زوج طيب أنجبت منه أطفالا، وتذكرت أنها يوما أحبت وقلبها ما زال قادرا على الحب، وهكذا عاد  الحبيب ولكن هذه المرة ليأخذها معه إلى حب ما بعد التسعين فوق مركب في رحلة طويلة وأخيرة وقد رفعا عليها لافتة أن بهذه المركب مصابين بالكوليرا حتى لا يزعجهما أحد.

وهناك أيضا قصة جميلة عاشها الأديب تشيكوف ولم يكتبها، قابل تشيكوف حبيبته الأولى أثناء دراسته للطب في لوكسمبرج وكان من أسرة فقيرة وهي شديدة الأرستقراطية وحينها أخبرها:لن أملك من اليوم إلا الكتابة عنك، وبعد ما يزيد عن أربعين عاما قابلها وقد جاءت الثورة وتغيرت الحياة، ولكن قدرهما وحبهما أيضا لم يتغير، قابلها صدفة ويومها أخبرها أنه سيهديها آخر هداياه وكانت قصة قصيرة جدا وجميلة جدا حكاها لها وحدها على مدار الطريق ولم يكتبها أبدا وكذلك هي.