في مقاله بعنوان “مواقع الأمثال في القرآن الكريم” رسم (د. غانم، 2018)[1] المعالم العامة لمواقع الأمثال في القرآن بمختلف صيغ ورودها. الموقع الأول: التشبيه بضرب المثال، والموقع الثاني: التشبيه بكاف التشبيه، والموقع الثالث: التمثيل والتشبيه بهمزة الاستفهام، ويقول في ذلك: “..أن أسلوب الاستفهام وحده يمثل ما يقرب من خُمس الآيات الكريمة. وهذه الكثرة في استعمال الاستفهام قد تدل على قوته في البيان بشكل عام”.  أما الموقع الرابع من معالم مواقع الأمثال: التمثيل والتشبيه من خلال القصص القرآني بدون أداة تشبيه.ويضيف د. غانم أن شيخ الإسلام ابن تيمية (661هـ – 728هـ) نظر إلى المقاصدية للأمثال القرآنية نظرة أعمق وأشمل من غيره من قدماء العلماء ومحدثيهم، وقد أدرج القصص الواردة في القرآن الكريم ضمن الأمثال القرآنية. وجعل المقاصدية للأمثال في مركز واحد هو مركز التشريع للعقل للقياس. وهي أعمق وأكثر رصانة من النظرة البلاغية الإعجازية ذات المركز الواحد المتمثل في الاعتبار وتقويم الأخلاق وتهذيب السلوك، كما أنها أكثر شمولية، وهي من أدلة مشروعية القياس. فالقصص كلها أمثال، وهي أصول قياس واعتبار. وفي ضوء ذلك توجد سلوكيات إدارية في سورة يوسف؛ مثل التمكين التنظيمي. من مقاصد القصص القرآنية تأكيد عناية الله تعالى بالمؤمنين ورحمته بهم، وقد أوضحت سورة يوسف أن الشدائد التي يتعرض لها المؤمن هي ابتلاء والعاقبة خير للذين اتقوا، وهو وعد الله تبارك وتعالى الصادق؛ الذي لا يخلف وعده. يقول الله تعالى في افتتاحية السورة: “الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ” [يوسف: 1-3]. وفي نفس السورة يقول الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: “ِإنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” [يوسف: 90].

أحسن القصص

يقول الله تعالى: ” نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ْ” [يوسف: 3]، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل قصة يوسف عليه السلام أحسن القصص؟ وهل هي أحسن من قصص موسى وهود.. وغيرهم عليهم السلام؟

يجيب ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله إن كلمة القصص جاءت بالفتح لم يقل سبحانه وتعالى أحسن القصص بالكسر. ولكن بعض الناس ظنوا أن المراد أحسن القصص بالكسر، وتساءل البعض لماذا هي أحسن القصص؟ إلا أنه ليس المراد بقوله أحسن القصص قصة يوسف وحدها بل هي مما قصه الله تبارك وتعالى؛ ومما يدخل في أحسن القصص.

إن قصة يوسف عليه السلام من أحسن القصص التي لم تُقص في القرآن. فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك، ولكن ليس ممن لم يُذكر في القرآن من اتقى الله وصبر مثل يوسف ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف عليه السلام (الشنقيطي، 2007)[2]. والمراد بقوله تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص؛ أي كل ما قصه الله تبارك وتعالى؛ ولم يخص به سورة يوسف؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى بما أوحينا إليك هذا القرآن ولم يقل بما أوحينا إليك هذه السورة.

التمكين التنظيمي

يقول الله على لسان يعقوب عليه السلام: “قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِين، وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” [يوسف: 5-6]. تضمنت الآيتان الكريمتان عدة عناصر في التخطيط؛ كالآتي:

– الأخذ في الاعتبار التهديدات الخارجية التي تمثلت في السورة في كيد أخوة يوسف، لأن الشيطان العدو الأول لبني آدم سوف يوسوس لهم ويزين لهم هذا الكيد.

–  الخطة تكون سرية؛ وذلك في عدم قص الرؤية على أحد، حتى يمكن الوصول للهدف.

– وتحديد الهدف؛ وهو أن يجتبي الله تعالى يوسف عليه السلام ويختاره ويعلمه تعبير الرؤى ويتم نعمته عليه بالنبوة.

وكما أن الخطة كانت سرية والهدف كان واضحاً، فإن مراحل تمكين الله تعالى ليوسف عليه السلام وردت في السورة بشكل مرحلي، تتناسب مع الهدف. والمقصود بالتمكين: إعطاء الفرصة لأعضاء المنظمة كي يتمكنوا من السيطرة على ظروف العمل؛ مثل المشاركة في اتخاذ القرارات، والتعامل بإيجابية مع المتغيرات على مسئوليتهم، مع أهمية توفير الوسائل العصرية التي تؤدي إلى وجود بيئة ملائمة لإمكان تنفيذ أفكارهم ومبادراتهم.

وأهم شروط تمكين الله لعباده في الأرض؛ الآتي:

الإيمان بالله تعالى، وترجمة هذا الإيمان بالعمل الصّالح؛ الذي يتجلّى في سلوك العباد في الحياة وتعاملهم مع غيرهم. فالإيمان والعمل الصّالح هما شرطان أساسيان من شروط التّمكين.

– الصّبر والثّبات على أمر الله تعالى؛ وتحمّل المشاق والصّعاب في سبيل الدّعوة إلى الله تعالى، وقد ضرب لنا الأنبياء والسّلف الصّالح المثل في ذلك.

– الحرص على تطبيق شريعة الله تعالى في الأرض؛ من مُتطلّبات تحقيق الاستحلاف الشّرعي في الأرض.

والآيات التي أوضحت مراحل التمكين، الآتي: يقول الله تعالى:

–  “وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [يوسف: 21]، أي ليتعلم يوسف عليه السلام تعبير الرؤى.

– “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” [يوسف: 22]، فالحكمة والعلم هما من وسائل التمكين.

– “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ” [يوسف: 54].

– “وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” [يوسف: 56].

وتضمنت مقاصد قصة يوسف عليه السلام البيان، والاتعاظ، والاعتبار، والكشف عن سنن الله تعالى في كونه. ولم تقتصر على الوعظ فقط. وفي ختام السورة؛ يقول الله تعالى: ” لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” [يوسف: 111]. فالاعتبار كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى هو القياس بعينه. وكل إنسان له في حالة منها نصيب. وأنها من أحسن القصص عموماً وليست أحسن قصة في القرآن. وأن ابن تيمية أدخل القصص القرآني في الأمثال، وتحتوي على أمثال هي نماذج من الحكمة.


[1] إبراهيم البيومي غانم، مواقع الأمثال في القرآن الكريم (جريدة الحياة، 27 يناير 2018م، العدد20021)

[2] https://vb.tafsir.net/tafsir9320/#.XdWB5FczbIU