سألني صاحبي ذات صفاء: ما سرّ صدى التكبير الذي يعمّ الأرجاء مع بدايات عشر ذيالحجة؟

لماذا تتردّد “الله أكبر” على ألسنة الناس، في الطرقات والمنازل، في المساجد والأسواق، في الليل والسحر، في الفجر والغروب، وكأن الدنيا كلها تسبّح بنغمة واحدة؟

فابتسمتُ، وقلت له: ألم تشعر يومًا وأنت تردد “الله أكبر” كأنّ قلبك يتّسع؟ كأنّ الروح تهتز من تحت أعبائها وتنهض نحو السماء؟

ليست “الله أكبر” كلمة تُقال، بل نبضة من نور، هدير من جلال، صرخة الأرواح المستيقظة وهي تتجرّد من أوهام الدنيا، لتلتصق بعظمة الله وحده.

ليس معناها أن “الله أكبر من كل شيء” كما نظنّ ببساطة، بل هو أكبر من أن يُقارن، من أن يُحدّ، من أن يُشَبَّه.

هو الكبير بلا حدود، العظيم بلا قياس، الجليل الذي لا يُدرك وصفه، ولا يُحيط به عقل.

حين تقول “الله أكبر” حقًا، كأنك تُسكت ضجيج الحياة، وتنسحب إلى داخل روحك، فترى اتساع السماء في عينيك، وامتداد الصمت بين جوانحك، وتدرك –لحظتها– أنك لست صغيرًا، لأنك متصل بالكبير.

التكبير يرتفع في أيام ذي الحجة لا لأن الزمان يفرضه، بل لأن الأرواح تكون آنذاك أقرب ما تكون إلى التجلّي..

في تلك الأيام، يحجّ الناس، لكن تكبيرهم يصلنا، فيسري في قلوبنا، نحن البعيدين، كما لو كنّا واقفين بجوارهم على عرفات، أو طائفين في البيت، أو ملبّين بين الجموع.

وفي التكبير، تشعر بأنك لست وحدك.

فصوتك يمتزج بأصوات المحبين، المكبّرين، المشتاقين، فتتحد الأرواح في أنشودة سماوية، يُرفع بها الستار بين الأرض والسماء، وينبعث في القلب يقين عميق: أننا جميعًا نمضي إليه.. وأنه وحده الكبير الذي نرجع إليه.

هذا التكبير لا يعرفه قلبٌ خائف، ولا يُولد في روحٍ راكدة.

هو نبض الشجاعة في وجه الخوف، صوت النور في ليل المحن، رجع اليقين في زمنٍ يتشظّى فيه كل شيء.

إذا كبّرت من أعماقك، هربت من خوفك، وتطهرت من صغار الدنيا.

تصبح كبيرًا لا بقوتك، بل بالله.

تعلو على أوجاعك، ترتفع فوق سجونك، تتحرر حتى وأنت في قيودك، لأنك تعلّقت بالكبير، واستندت إلى الجبّار.

ومن عظمة هذا الذكر أنه صار نشيد العيد، وترانيم الفرح، وصوت الذاكرين في زمن السرور والوصال.

كم هو عجيب أن يجتمع الفرح مع الجلال! أن تكون نغمة العيد “الله أكبر”!

كأنّنا نقول: كلّ الفرح لك، وكلّ الحمد لك، وكلّ الرجاء إليك.

فيا من ضاقت بك الأرض، ويا من أرهقتك الخطوب، ويا من اشتدت عليك الليالي:

قف لحظة…

وارفع رأسك نحو السماء…

واذكرها بصدقٍ من أعماقك:

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر… لا إله إلا الله.

الله أكبر، الله أكبر… ولله الحمد.

فهذا الهتاف، ليس صوتًا من فمك فقط، بل ارتقاءٌ من روحك نحو عرش الرحمن.

التكبير في عشر ذي الحجة

ليس مجرد كلماتٍ تُردَّد على الألسن، بل هو نداء ولاءٍ خالص لله، وتجديدٌ للعهد بالتوحيد، وترسيخٌ لمعاني العبودية في أعماق القلوب، لمن له المُلك والملكوت، والعظمة والجبروت.

في هذه الأيام المباركة، تعانق أصوات المكلّلين بالتكبير أرجاء السماء، فتخشع القلوب، وتستنير الأرواح، ويتجدد الإيمان في النفوس، وتفيض القلوب تعظيمًا لله، وإجلالًا لمقامه العظيم.

“الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد” — ليست مجرد صيغة محفوظة، بل هي نفَسُ الروح إذا صدق، وصيحة القلب إذا أقبل، تملأ الأماكن والأسواق والمساجد، لكنها قبل ذلك تملأ الأرواح وتهزّ الغفلة من أعماقها، وتوقظ القلب ليفرّ إلى الله، ويخلع عنه أثقال التعلق بالدنيا.

فيا من تُكبّر، لا تجعل التكبير صدى صوتٍ فقط، بل اجعل قلبك يتحدث مع كل “الله أكبر”، وتذكر أن هذه الكلمة تعني أن الله فوق كل شيء في حياتك:

فوق الهوى،

وفوق الشهوة،

وفوق الطموح،

وفوق الخوف،

وفوق الهمّ،

وفوق كل ما سواه.

اجعل من التكبير زادًا لقلبك، وموطنًا لتوحيدك، وموعدًا بينك وبين ربك. اغرس “الله أكبر” في أرض قلبك، واسقها باليقين، واعتنِ بها بالتفكر والتدبر، تجنِ منها ثمار الطمأنينة والنور والرضا.

فأكثروا من التكبير في هذه الأيام، وأكثروا من استحضار عظمة من تكبّرون له، واطلبوا به وجه الله خالصًا، تجدوا فيه حياةً تُبعث في القلوب، وفتحًا من التوبة، وقربًا لا يُقارن.

تنزيل PDF