الإمام أبو حنيفة هو فقيه الملة عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي، ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، وروى عن عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له ، وعن الشعبي وغيرهم كثير من أهل العلم والدراية والرواية .

عني رحمه الله بطلب الآثار وارتحل في ذلك ، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه؛ فإليه المنتهى ورئاسة دون منازع, والناس عليه عيال في ذلك؛ كما يقول الإمام الذهبي حتى قال عنه : ” وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين رضي الله عنه ورحمه.

كان الإمام فصيح اللسان عذب المنطق ، حتى وصفه تلميذه أبو يوسف بقوله :” كان أحسن الناس منطقا وأحلاهم نغمة، وأنبههم على ما يريد” ، وكان ورعا تقيا؛ شديد الذب عن محارم الله أن تؤتى. عرضت عليه الدنيا والأموال العظيمة فنبذها وراء ظهره، حتى ضُرب بالسياط ليقبل تولي القضاء أو بيت المال فأبى .

حدّث عنه خلق كثير، وتوفي شهيداً مسقيا في سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة.(1)

أما المذهب الحنفي فهو أحد المذاهب الأربعة المشهورة المتبوعة، وهو أول المذاهب الفقهية، حتى قيل: ” الناس عالة في الفقه على أبي حنيفة “، وأصل المذهب الحنفي كان قائماً على الاجتهاد في فهم الادلة القائمة على نصوص القرآن الكريم؛  والسنة النبوية الشريفة ، وإفتاء الناس بحسب نص الدليل  الشرعي أو ما يستنبط منه من إحكام شرعية قائمة على النص دون الخروج عن مقاصده أو الاصطدام به أو الحيدة عنه .

أخذ أتباع وتلاميذ الامام تلك الفتاوى؛ ونشروها وقاسوا عليها، وقعدوا لها القواعد ، ووضعوا لها الضوابط والأصول، حتى تكوَّن المذهب الفقهي الحنفي  المنتشر في أصقاع الأرض ويتبناه ويعمل به جمهور غفير من المسلمين السنة .

إنشاء  الإمام أبي حنيفة مدرسة جماعية في مسألة الاستنباط

وهذه المدرسة التي  أسسها الإمام رحمه الله تؤكد على تجرده من الاجتهاد الفردي، واعتماده على اختيار مجموعة من العلماء أصحاب تخصصات علمية مختلفة ومتنوعة؛  فيتم طرح المسألة للنظر والمناظرة الساعة والساعات؛ فلربما اتفقوا مع أبي حنيفة، وربما استقلوا(2) .

وكانت هذه المدرسة تستوعب ثلة من علماء عصره من البارزين في كافة العلوم الشرعية واللغوية ممن شُهد لهم بعلو الكعب والمقدرة الفائقة في استيعاب تخصصاتهم العلمية ومقدرتهم العلمية المتفردة على استيعاب العلوم المكملة وربط بعضها ببعض لاستخراج الأحكام الشرعية الجديدة التي لم يرد فيها نص شرعي من كتاب أو سنة قطعي الدلالة أو قطعي الثبوت مع الإجماع على قطعية ثبوت القرآن وظنية وقطعية دلالاته، بخلاف السنة التي ورد فيها قطعي الدلالة وقطعي الثبوت وظني الدلالة وظني الثبوت.

وأعضاء هذه المدرسة هم ثلة من علماء عصره نذكر بعضهم كتدليل على علمهم وتنوع مشاربهم واختصاصاتهم التي تقوم على تنوع الإثراء والتكامل لا تنوع الاختلاف والتناقض.

– قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (ت 182 هجري) وكان علمه في الحديث أظهر من أبي حنيفة؛ فيروي لهم من الحديث ما يعصم المسألة من أن يعتريها الرأي المحض .

– محمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هجري) كان لغويا بارعا، وهو من صغار تلاميذ ابي حنيفة، وهو ما ساهم في استفادة الجيل الثاني من أتباع أبي حنيفة الذي تميز بتصحيح استنباطاتهم الشرعية وفق ما تقتضيه ضوابط فصيح اللغة.

– زفر بن الهذيل البصري (ت 158 هجري) الذي تميز بعقل ثاقب وقريحة صافية ورأي مسدد يستخرج المعاني و دلالاتها  من بطون النصوص .

– يحي بن زكريا ابن أبي زائدة (ت 182 هجري) الذي امتاز بينهم بجودة الحديث فهو من رواة الصحيحين، ويراه البعض أبرع من أبي يوسف في الحديث مع قلة له في ملازمة أبي حنيفة .

هؤلاء كلهم عايشوا أبا حنيفة وشاركوه البحث والنظر والاستدلال والاستنباط  في مدرسة جامعة شاملة أدت دورها الريادي في مجال البحوث في أبواب الشريعة الإسلامية التي امتد تأثيرها في أصقاع كبيرة من ديار الإسلام؛ ومازالت مستمرة منذ نشأتها إلى يومنا الحاضر مدرسة الإمام أبي حنيفة النعمان وهي تعتبر نواة لانطلاق المدراس العلمية الإسلامية سواء في الفقه أو في باقي المدارس الكلامية والفلسفية التي انتشرت في بقاع العالم الإسلامي من الهند شرقا إلى بلاد الأندلس غربا .

وكأن الإمام أبا حنيفة رحمه الله  يقول لمن بعده من علماء الأمة الإسلامية في كافة حقول المعارف العلمية  :

إذا عنّ لنا ما لم يشتمل عليه الكتاب تعيناً، ولا كشف عنه الأثر تبيينا ولا سبق به الإجماع يقينا أن يُعمل اجتهاده طويلا، ويقيض له ارتياده بكرة واصيلا, ويستشهد مودع النص وفحواه، ويستنجد موجب النص ومقتضاه، ويقيس بالأشباه  والنظائر, ويستنبط الأمارات والدلائل فذلك الحد الذي كان السلف يسلكونه. ( 3)

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وفيه دليل ودعوة صريحة إلى إمعان النظر وإعمال الفكر من الأفراد أو الجماعة في ظل الأحكام العامة والقواعد الضابطة لاستخراج كنوز العلم ولولوج بحار أنوار المعارف للفهم الدقيق، واستنباط الجواهر والدرر التي تعيد للأمة مجدها وحضارتها الزاهرة التي قامت على الاستنباط وفق قواعد الشرع، وبعقول نيرة مسترشدة بما توصل اليها ممن سبقها من معارف.

وكان للعقل الجماعي دور كبير في إثراء هذه المعارف والتوافق بل الإجماع في بعض الأحيان إدراكا منهم بأن النظر والتفكير الجماعي أكثر عصمة من أخطاء التفكير الفردي التي هي عرضة للأخطاء والزلل.


1-سير أعلام النبلاء 6 390 – 403 ، أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة ص 63 ]

2-اصول الافتاء والاجتهاد التطبيقي, محمد احمد الراشد, ج1, دار المحراب للنشر والتوزيع, كندا, سويسرا, 2002م, ص 29

3-فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، القاضي عبدالجبار ، الدار التونسية، ص 124