يعتبر عبد الرحمن منيف أحد أهم الكتاب والروائيين العرب خلال القرن العشرين، وأشهر رواة سيرة الجزيرة العربية المعاصرة، وأحد أعمدة السرد العربي البارزة في العصر الحديث. وهو خبير اقتصادي وأديب وناقد حداثي يجسد أدبيا وحياتيا اللحمة العربية، كونه من أب سعودي وأم عراقية وولد بالأردن وتوفي بدمشق. استطاع برواياته الشهيرة أن يعكس الواقع العربي، ويصور النقلات الثقافية العنيفة التي شهدتها المجتمعات العربية خاصة النفطية في دول الخليج.

يقال إن الذي جعل عبد الرحمن منيف يصل إلى هذه الشهرة برواياته الأدبية التي “تفكفك” الواقع الاجتماعي في الخليج العربي كونه خبير بترول عمل في العديد من شركات النفط مما جعله مدركاً لاقتصاديات النفط، لكن الجانب الأهم دون شك كان معايشته وإحساسه العميق بحجم التغيرات التي أحدثتها الثورة النفطية في صميم وبنية المجتمعات الخليجية العربية.

فكانت روايته “مدن الملح” من أشهر الروايات، وهي التي تحكي قصة اكتشاف النفط في منطقة الخليج وحاز التقييم عن سرديته التاريخية، التي جعلت الناقد الأميركي دانيال س. بيرت يضعها ضمن قائمته “الروايات المئة الأعظم على مر العصور” ويعتبر منيف كواحد من أعظم المؤلفين الروائييّن في كل العصور.

بين محفوظ ومنيف

ويذهب كثير من النقاد والباحثون في الآداب العربية إلى أن اختزال مسار السرد الروائي خلال القرن العشرين لا بد أن يمر عبر نجيب محفوظ كعميد للرواية العربية، ثم عبد الرحمن منيف مباشرة، فمن ناحية محفوظ استطاعت رواياته منذ “عبث الأقدار” الصادرة عام 1939م أن تحفر عميقا في بنية المجتمع المصري والعربي بكل تحولاته خلال النصف الأول من القرن المنصرم. ومن ناحية ثانية، احتفت روايات عبد الرحمن منيف منذ باكورة أعماله “الأشجار” عام 1973م بالتقاط كل ما يمكن أن يسهم في رصد التحولات الحضارية العربية خلال النصف الأخير من القرن العشرين، حيث استطاع في رواياته أن يعكس الواقع الاجتماعي العربي، والنقلات الثقافية العنيفة التي شهدتها المجتمعات العربية عامة والخليجية على وجه الخصوص.

من هو عبد الرحمن منيف؟

هو عبد الرحمن بن إبراهيم المنيف ولد في العاصمة الأردنية عمّان صفر 1352ھ مايو 1933م، وتوفي بالعاصمة السورية دمشق ذو الحجة 1424ھ يناير 2004م، عن أب سعودي وأم عراقية. ينتمي إلى بلدة قصيبا الواقعة على طريق عيون الجوى شمال إمارة منطقة القصيم في وسط الجزيرة العربية، السعودية. كان والده إبراهيم العلي المنيف، من كبار تجار نجد (العقيلات) الذين اشتهروا برحلات التجارة بين القصيم والعراق، والشام.

عُرِف عبد الرحمن مُنيف، وهذا اسم شهرته، مفكرا وناشطا حزبيا ثم خبيرا اقتصاديا حاصلا على درجة الدكتوراه، وكاتبا صحفيا محبا للفن التشكيلي، ثم مؤلّفا روائيا منصرفا عن أعمال الصحافة، وقاصا، وكاتب سيرِ.

عاش فترةً من طفولته في الأردن ثم في السعودية. أتم مراحل دراسته الأولى في الأردن وحصل منها على الشهادة الثانوية سنة 1952م، ثم انتقل إلى العراق والتحق بكلية الحقوق في بغداد حتى عام 1955م إذ جرى إبعاده بقرار مع مجموعة من الطلاب العرب. لينتقل إلى مصر لإكمال دراسته هناك. وقد ارتحل منذ عام 1958 إلى يوغوسلافيا لإكمال دراسته العليا في جامعة بلغراد فحصل منها عام 61م على الدكتوراه في الاقتصاد (مجال اقتصاديات النفط، الأسعار والأسواق).

عمل في الشركة السورية للنفط ثم غادر إلى بيروت عام 1973م حيث عمل في مجلة “البلاغ” اللبنانية وكان قد نشر أعماله الروائية “الأشجار”، وقد تزوج خلال تلك الفترة من سيدة سورية تدعى سعاد قوادري وأنجب منها ثلاث أبناء وابنة واحدة. في عام 1975م عاد ليقيم في بغداد، وتولى تحرير مجلة “النفط والتنمية” العراقية حتى عام 1981م حيث غادر إلى فرنسا متفرغاً للكتابة. وقد عاد إلى دمشق خلال عام 1986م، حيث صارت مقر إقامته الدائمة، إلى حين توفي، وبها دُفن، بناء على وصيته.

تكوينه الأدبي

كرّس عبد الرحمن منيف نضجه الفكري والثقافي العام لممارسة الكتابة الروائية التي بدأها بعد أن بلغ الأربعين من عمره، ما جعله يصنع لنفسه خصوصية أدبية مبكرة خلال تلك المرحلة المتأخرة نسبياً من حياته، وعالما روائيا سرديا معقدا، وضع فيه خلاصة رؤيته للحياة، وقد ركز اهتماماته على حرية الإنسان، وما يجب أن تكون عليه هذه الحرية.

والمتتبع لأعمال عبد الرحمن منيف يجد أنه قد أضاء فضاءًا فسيحا في جوانب هامة من الرواية العربية وتناول فيها أشكال وأنماط جديدة لم تعهدها من قبل. طوّر في رواياته مقومات التعبير النفسي الباطني العميق، فالتقط الانفعالات الإنسانية لحظة وصولها إلى سطح الوعي في صورتها الأولى، كذلك استيعابه الألفاظ والتعابير التي أحدثتها الثقافة المعاصرة، سيما وأنه كان على اتصال مستمر مع ما تنتجه من دراسات ومصطلحات علمية حديثة، مفيدا منها ما ينسجم مع الثقافة العربية، إلى جانب إعطائه مسافة كافية لخصوصية هذه الثقافة ونتاجها في الأدب والنقد.

رواياته

أدرج عبد الرحمن منيف في المكتبة العربية ما يزيد على ثلاثين كتابا بما في ذلك أعماله الروائية ومؤلفاته الفكرية والنقدية في فنون الرواية، والفنون التشكيلية، والسيرة الذاتية، وسائر الآداب الإنسانية. وأُدرجت أعماله ضمن برامج التعليم في جامعات أوربية وأميركية، ووافقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) على ترجمة أعماله إلى ما يقارب عشرين لغة حية في العالم.

وللكاتب السعودي عبد الرحمن المنيف أعمال روائية وكتابات متعددة، هذه بعضها:

  • مدن الملح
  • أسماء مستعارة
  • حين تركنا الجسر
  • سباق المسافات الطويلة
  • النهايات
  • في أدب الصداقة
  • الباب المفتوح
  • أم النذور
  • رحلة ضوء
  • عروة الزمان الباهي
  • لوعة الغياب
  • العراق..هوامش من التاريخ والمقاومة
  • شرق المتوسط
  • فغان شرق
  • الكاتب والمنفى
  • عالم بلا خرائط
  • الآن..هنا (أو شرق المتوسط مرة أخرى)
  • ذاكرة للمستقبل
  • أرض السواد

الغوص في مدن الملح

لعل العمل الأبرز لعبد الرحمن منيف هو روايته الشهيرة “مدن الملح” التي تقع في خمسة أجزاء (2500 صفحة)، يصف خلالها التغيرات العميقة في بنية المجتمع البدوي الصحراوي بعد ظهور النفط منذ مطلع القرن العشرين، ووصول رجال الأعمال الذين وفدوا على المنطقة الخليجية والتحولات والتفاعلات في المنطقة، وهي الرواية التي صنفته سريعا كمعارض ومنعت رواياته من دخول كثير من الدول العربية والخليجية.

وتعتبر سرديته التاريخية “مدن الملح” واحدة من أهم الروايات التي كُتبت بالعربية إن لم تكن أهمها على الإطلاق.

بالإضافة إلى رواية “شرق المتوسط” التي أحدثت ضجة في العالم العربي حيث لامست حين صدورها وبشكل مبكر موضوع القمع والتعذيب. وجمعت روايات منيف بين العمق الفني، والابتعاد عن الغموض، ووضوح الدلالة ببعدها الفلسفي كونه خاطب القارئ العادي الذي ران على سائر أعماله.

“عالم بلا خرائط” بين منيف وجبرا

ارتبط منيف بصداقة عميقة مع روائي عربي آخر هو جبرا إبراهيم جبرا، توجت هذه الصداقة مؤخرا برواية ثنائية، قد تكون من الأعمال الأدبية النادرة التي تكتب من قبل شخصين ربما على مستوى العالم، والنتيجة كانت “عالم بلا خرائط”، التشابك والتناسق الفني لهذه الرواية كان على درجة عالية يستحيل معها التصديق بأن هذا العمل مؤلف من قبل شخصين اثنين.

و”عالم بلا خرائط” عمل روائي جمع رمزين من رموز الكتابة الروائية العربية الحديثة حيث تظافرت تجربتهما ومواهبهما لترسم عالما روائيا متخيلا بالكامل ولكنه كان عالما ثريا وفريدا مشحونا بإسقاطات فنية تجعله في قلب العصر.

الحضارة وقصة “حب مجوسية”

وفي قصة “حب مجوسية” يطرح منيف العلاقة بين حضارة الشرق، وحضارة الغرب طرحاً ضمنياً مقتصراً على الأبعاد الوجودية، وكأنه يشيد بالإمكانات المتوافرة في فضاء الغرب الملائم لاكتشاف الذات الإنسانية، وإن بطل الرواية المجرد من الاسم واللقب، يكتشف من خلال علاقته بـ “ليليان” اغترابه عن العالم، ليس بسبب التباين الثقافي والحضاري والروحي، وإنما كان ناتجاً عن التأثر بالفكر الوجودي كما يتجلى في روايته.

وعندما يكتب عبد الرحمن منيف قصة حب فإن للحب فيها مدائنه وللقصة خيالاتها، قصة حب وعشق ووله فاق الحسابات، واجتاز المعشوق بوجه حبيبته المدى والآفاق والأمكنة، واجتاز حتى نفسه. أهو الحب العاثر القافز فوق النصوص يحكيه عبد الرحمن منيف، أم هو لغز، حلم الإنسان، عاثر هو ومتأمل، متناثر المشاعر، ولكنه يبقى رغم كل الأشياء جادا في البحث عنه، موقنا بلقائه لا محالة.

النهاية في “أرض السواد”

من أواخر أعمال عبد الرحمن منيف روايته “أرض السواد” التي أراد ان يتحدث فيها عن تاريخ ومجتمعات العراق. وهي ثلاثية روائية صدرت في عام 1999، تطرقت لتاريخ العراق خلال القرن التاسع عشر. ركزت بالأساس على تفاعلات الشخصية العراقية مع الأحداث العالمية الكبرى.

وأبرز ما يميز هذه الرواية أنها آخر ما كتب عبد الرحمن منيف (1997-1999) واعتبرها البعض محاولة للرجوع إلى منابع الطفولة خاصة أنه أهدى هذا العمل إلى أمه نورة العراقية التي أرضعته حب العراق كما قال وقد استعمل في الحوار اللهجة البغدادية بكل تفاصيلها اليومية وبث في أرجاء الرواية النظرة العراقية للأشياء سواء على مستوى الحاكم أو على مستوى العامة.

وقد حاول منيف أن يقول أن تاريخ العراق تنطبق عليه قاعدة التاريخ يعيد نفسه. وقال أحد النقاد أن الحدث في رواية أرض السواد هو العراق وحده.

أموت ولا أبيع أدبي”

عندما أصيب منيف بالفشل الكلوي وتدهورت حالته الصحية والمالية، حاول عدد البعض أن يخففوا عنه، ويمدوا له يد العون بطريقة غير مباشرة، وفي أحد الأيام عُرض على عبد الرحمن منيف بالمستشفى الأمريكي في بيروت، شراء عدد كبير من قصصه ورواياته، فقبل منيف ذلك العرض بحلجته الماسة للمال، لكنه في اليوم الثاني، عندما كان يهم بتسلم المبلغ المتفق عليه، تراجع عبد الرحمن منيف ورفض المبلغ، معتبرا أن هذا المبلغ ما هو إلا محاولة لشرائه، وهو يأبى أن يبيع نفسه، مع أن محاولة الطرف الآخر كانت تهدف الى مساعدته للتغلب على مشاكله المالية أثناء مرضه.

ولما نُقل عبد الرحمن منيف من بيروت إلى أحد المستشفيات في دمشق بسبب ارتفاع اسعار تكلفة علاجه في المستشفى الأمريكي بالعاصمة اللبنانية، عاد موضوع علاجه إلى الواجهة مرة أخرى، حيث جرت محاولات لإقناعه بإجراء عملية زرع كلية في أي مستشفى في العالم، لكنه مرة أخرى وافق ثم رفض في آخر لحظة.

تكريم عبد الرحمن منيف ووفاته

عن عمر ناهز السبعين عاما، وعلى إثر أزمة قلبية، غيَّب الموت الأديب السعودي عبد الرحمن منيففي مدينة دمشق يوم السبت غرة شهر ذو الحجة لعام 1424 هجرية الرابع والعشرين من كانون الثاني (يناير) لعام 2004م بعد ترحال ومنفى لسنوات طويلة.

وقد تكريمه في فبراير 2005 أثناء عقد الدورة الثالثة لملتقى القاهرة للإبداع الأدبي بعنوان “الرواية والتاريخ” وأهديت الدورة إلى اسم الراحل مُنيف تكريما لاسمه باعتباره الفائز الأول بالجائزة في دورتها الأولى، وتخليدا لأعماله.

وكان منيف قد حاز على جائزة العويس الثقافية في دورتها الثانية عام 1989، وحصل على جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي في دورته الأولى عام 1998م.


مصادر ومراجع

محمد رحمت حسين – عبد الرحمن منيف روائياً عربياً

أفضل روايات عبد الرحمن المنيف – المرسال

عبد الرحمن إبراهيم المنيف – الموسوعة

السيرة الذاتية والأدبية لعبد الرحمن منيف – المجلة يناير 2018

جريدة الرياض – يناير 2004

كتاب “ترحال الطائر النبيل”- 2003

عبد الرحمن منيف – الكاتب والمنفى، مقالات وحوارات ومقابلات، 1993م