تطوي المسيرة التاريخية للتطور الإنساني مخلفات ذهنية يبقى المجتمع أسيرها دون محاولة تفسيرها، فكثيرا من مسلماتنا لها سطوة على تفكيرنا رغم فقدانها لبنية منطقية، ولكي أوضح فكرتي سأقدم أمثلة تبسيطية:

عندما يصادف الواحد منا قطعة خبز ملقاة على الطريق، فإنه ينحني لرفعها، أو يتخطاها خوفا من أن تطأ قدمه قطعة الخبز، ولكنه لو مر على حبة تفاح، أو قطعة شوكولاته، أو قالب زبدة، أوبقايا أرز ،أو حبة فستق.. فإنه لا يشعر بذلك “التقديس” الذي راوده عند مواجهة قطعة الخبز. فلماذا يدوس حبة التفاح دون أي إحساس “بوخز” ما، بينما تراوده الهواجس لو داس قطعة الخبز؟

القمح وعيون المرأة

للقمح في التراث الثقافي الإنساني مكانة مميزة، ولكن الأمر ليس هكذا عند كل الشعوب، ثم إن هذا الوهم”بالخبز” يدلل على مدى استسلام العقل لكثير من العادة على حساب التفكير. لو فكرنا في كثير من مسلماتنا اليومية لعرفنا طريق التطور. فمن قال أن القمح أعلى مرتبة من التفاح أو الزبدة أو المانجا أو الأرز؟

المثال الثاني هو عيون المرأة وشعرها، فكل الغناء وكل الشعر وكل الإيحاء يشير إلى أن العين هي مقدمة العلاقة العاطفية تليها خطوات أخرى (نظرة فابتسامة فسلام فكلام…الخ)، والمسيح يقول إن العين لتزني، والدعوة الدينية هي لغض البصر باعتبار البصر هو “جلاب الهوى”..والغمزات حركت فؤاد الحجاج وروبسبير وكل جلادي التاريخ.

ولعل أكثر أنواع الغزل سذاجة هو ذلك المتشبب بشعور المرأة وجدائلها، ومع ذلك في كل الحضارات الدينية بالمناسبة وليس في الحضارة الإسلامية فقط الدعوة لإخفاء الشعر أكثر كثيرا من إخفاء العيون.

طاعة المعطيات

حتى العلماء يحاولون إجبار بعض المعطيات على الطاعة رغم أنفها، فماركس بالغ كثيرا في إجبار التاريخ على قبول “ماديته” حتى التي تستعصي على ذلك، وداروين تجنب بعض صعوبات البحث بالحديث عن “الحلقة المفقودة”، وفرويد لم يفسر لنا بشكل كاف آليات الربط بين اللاوعي والذاكرة التاريخية، وعلماء الفلك والفيزياء والكيمياء ما زالوا تائهين في لغز “الما-قبل”، وهناك العديد منهم من انتحر مثل -فيكتور ماير، عالم الكيمياء الألماني الذي انتحر وهو في- الـ 49 من العمر، ديفيد كيلي خبير الأسلحة البيولوجية، وكان من المفتشين في العراق، ليدويج بولتزمان (عالم فيزياء)، فاليري ليجازوف (عالم كيمياء سوفييتي)، هانز بيرغر (عالم أعصاب)، إدوين آرميسترونغ (مهندس كهربائي)، نيكولاس ليبلانك (عالم كيمياء)، جورج إيستمان (وضع أسس الصور المتحركة لتكون مقدمة للسينما وهو صاحب العبارة التي كتبها قبل الانتحار “لقد قمت بمهمتي فلماذا انتظر؟)، والاس كاروذورس (كيميائي)، ألان تيرنغ (عالم رياضيات).

ذلك يعني أن الفلسفة (أم العلوم) وعلم الاجتماع (الأعلى عند أوجست كومت) والفيزياء(عند آينشتاين) تسعى للعقلنة، لكن الإرث التاريخي القابع في أعماق البشرية يشوش كثيرا على هذه العقلانية، فتستمر رحلة المعاناة.

أما المطمئنون فلا يقلقون أنفسهم بانغماس في كل أشكال المعرفة لأنهم خائفون، وهنا نقطة التلاقي والانفصال في عقلنة اللامعقول.