مفارقة غريبة ومُزعجة، أن تكون ساكنة الشعوب العربية الإسلامية من الكثافة بحيث وصل تعداد السكان في المنطقة العربية لوحدها لـ 355 مليون نسمة بمعدل نمو سكاني هو الأكبر في العالم (2.4%)، ثم تعاني عجزا مريعا في الإنتاج والإنتاجية، فقوة العمل هي أحد أهم مدخلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

إن معاناة الأمة من البطالة والعطالة هو بحق أحد المشكلات الكبرى التي هي بدورها نتاج مشكلات بنيوية، بدليل تمكن بلدان أخرى كالصين والهند من تحويل قوى العمل لديها إلى قوى منتجة وعمالة ماهرة شكلت قنطرتَها لتحقيق الإقلاع الاقتصادي وولوج عصر نهضتها.

والعمل هو أي جهد بدني أو فكري يسعى للحصول على منتجات أو خدمات مرغوبة، العمل يهب الإنسان تحقيق ذاته ويثري حياته، ويهبه الإحساس بالاندماج الاجتماعي.

علاقة العمل بالنمو الاقتصادي بينة، فهو أحد عناصر الإنتاج ومن ثم يحفز العمل المنتج النمو، وعلاقته بالتنمية الشاملة تتضح من كونه إحدى قاطرات الحراك الاجتماعي ومن ثم هو إحدى وسائل مواجهة الأوضاع الاجتماعية السكونية والرتيبة، والتي غالبا ما تحمل معها تمييزًا اجتماعيا..

ويورد تقرير التنمية البشرية الأخير(يصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) تحليلا لأبعاد العمل الثرية في نهضة المجتمعات وإغناء حياتها: “التنمية البشرية هي توسيع الخيارات، هي في غنى الحياة لا في غنى الاقتصاد. وللعمل بشتى أشكاله دور حاسم فيها، وفي العمل قوة المجتمعات، فعندما يعمل البشر معا لا يزيدون رفاههم المادي فحسب بل يُكوِّنون مخزونا معرفيا متراكما تبني عليه الثقافات والحضارات. وعندما يكون العمل صديقا للبيئة، تتراكم فوائده من جيل إلى جيل. والعمل يحرر طاقات البشر، ويصقل حس الإبداع فيهم والروح الإنسانية).

وتنص أهداف التنمية المستدامة “العالمية” في هدفها الثامن على: تعزيز النمو الاقتصادي المطرد والشامل  والمستدام للجميع ، والعمالة الكاملة والمنتجة، وتوفير العمل اللائق للجميع.

واقع الحال

يُظهر تقرير منظمة العمل الدولية للعام 2014 أدنى نسبة للبطالة في العالم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ ويقدم الكتاب الدوري الذي تصدره منظمة العمل العربي ما يلي: “الصورة الكلية بالنسبة لسوق العمل العربية تبدو أكثر ضبابية مما كانت عليه قبل التغييرات التي شهدتها العديد من دول المنطقة، فقد قفزت نسبة البطالة في المنطقة العربية إلى حوالي 16%، وتجاوز عدد المعطلين حاجز الـ20 مليون عاطل، 95% منهم من الشباب، ولا يبدو أن النسبة مرشحة للتناقص في المدى القريب أو المتوسط” .

 هل ثمة معوقات ثقافية أو حضارية؟

ولأنه من الصحيح أن العمل المنتج لا يعني الاقتصار على العمل الوظيفي أو التشغيل، وأن ثقافة العمل أو الكسل باتت تصم مجتمعات ومجتمعات أخرى، ولذلك تحاول الدراسات الاجتماعية الغربية أن تفسر النهضة الصناعية الغربية بحمولات الثقافة البروتستانتية، في الوقت الذي تحاول أن تصم مجتمعات من بينها مجتمعاتنا المسلمة بالتخلف عن النهضة لغياب تلك الحمولات الثقافية، ومن ثم كان لزاما علينا أن نقف مع هذا التأويل.. !

تاريخ الأمة الاجتماعي يدلنا على أن المحمول الحضاري الإسلامي لا يمكن أن يكون مسئولا عن الكسل الذهني والبدني لشعوبه المعاصرة، فقيمة العمل لم تكن محل منقصة، بل إن العمل لم يحل يوما في المنظومة الثقافية الاجتماعية دون المكانة الاجتماعية والعلمية، ولدينا عشرات العلماء المعروفين بألقابهم العملية ومهنهم الوظيفية، كالبزاز والزجاج والجصاص والساعاتي، وغيرهم..

القرآن الكريم هو كتاب بلاغ إيماني، لكنه في ذات الوقت كتاب رسالة، حمل إلى أمة الهداية (المسلمين) مهمة الاستخلاف وعمارة الأرض والمشي في مناكبها، وفي توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم ثروة ثرة من الوصايا والحض على العمل وإعلاء مكانته، وحفز المسلمين إليه، ففي دعاء النبي المأثور: “اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل” توجيه ضمني إلى الإنتاج وتحذير واضح من الاستكانة والدعة والكسل والاتكال. وحديث “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً خَيْراً مِن أَنَ يَأْكُلَ مِن عمَلِ يَدِهِ، وإن نبي الله داوود كَانَ يَأْكُل مِن عَملِ يَدِهِ” وحديث “كَانَ زَكَرِيَّا عليه السَّلامُ نجَّاراً”.

ولعل حديث الفسيلة ذو دلالة عميقة على موقع العمل كقيمة في الإسلام، فقد روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل.

وكان عمر رضي الله يعجبه الفتى فيسأل عنه، هل له حرفة، فإن قيل له: لا، سقط من عينه، وكان ابن مسعود يقول: “إني لأكره الرجل أن أراه لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته”.

وقد حضت الشريعة على الإتقان في العمل، وجعلته إحدى معاني الإحسان العظيمة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام، كما في الطبراني وصححه الألباني: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، ونجده صلى الله عليه وسلم ينبه لقيمة الاحتراف في العمل والامتهان: “إن الله يحب المؤمن المحترف”.

إرباك حضاري وفشل تنموي

إن دافعية العقيدة والثقافة الإسلامية للإنجاز والعمل واضحة، ولكن التجربة الحضارية الإسلامية الثرية كثيرا ما حجبتها سحب الواقع القاتمة التي لا تتحمل الثقافة الإسلامية وزر الريح التي لقحتها، فالأمة في الحقيقة تعاني من حالة إرباك حضاري بين قيمها الأصيلة وبين ركام عصور الانحطاط والتربية العلمانية التي تريد بعض النخب شحن عقلها الجمعي بها.

والمكمَلة التفسيرية لواقع الحال، لهذا التناقض بين الثروة الشبابية والبشرية وبين الاتكالية على منتجات الأمم الأخرى وغياب أي إنجاز حضاري، هو الفشل الذريع في ترشيد وتأهيل وتوظيف هذه الثروة من طرف النظم السياسية، حيث لم تقدر على تحقيق الإشراك الاجتماعي بسبب الفساد وبسبب غياب سياسات ثقافية واجتماعية وسياسية قادرة على الإقلاع والتحريك، وهكذا ضاعت نهضة الأمة المعاصرة ودافعية شعوبها للإنجاز بين تهجين ثقافي ضاعت معه الدافعية الذاتية للعمل، وبين فساد سياسي واقتصادي ومنهجي أنتج فشلا تنمويا مريعا.