بدأ رسول الله حياته يتيما، رعى الغنم على قراريط لقريش وتاجر لامرأة في مالها، ولقي عراقيل كثيرة، لتُختم حياته بقيادة المنطقة، وهذه المسيرة الحافلة لا يكفيها السرد التاريخي فحسب، بل يلزمنا الوقوف على عوامل نجاحها، والاستفادة منها لكل من يريد النجاح.

نسبية النجاح وعلاقتها بوضع الإنسان وطموحه

يسمى تحقيق الغاية نجاحاً، وهو أمر نسبي وفضفاض. وقد يُعتبر نجاحُ قوم فشلَ آخرين. والنجاح مرتبط بالطموح، وهو جزء لا يتجزأ من وضع الإنسان وحاله الذي وجد نفسه عليه، وما يرمي إليه، بناءً على ذلك.

ولتحقيق النجاح لا بد من إرادة الشخص، واتخاذ الأسباب اللازمة، ثم مشيئة الله. والناس أمام وضع الأهداف والبحث عن النجاح أصناف:

  من يعش يومه بيومه: لعل كثيرا من الناس لا يعرفون ما يريدون، أو قد لا يدركون غاية ما يسعون إليه، وهؤلاء يشغلهم الوضع القائم عن البحث عما يريدون، فهم تقليديون وأتباع. ويصعب أن يكونوا قادة وأصحاب نجاح؛ لأنهم في قرار أنفسهم ليس لديهم أي حلم للنجاح والقيادة، فلا تتحدث عن مشيئة الله.

  فئة تريد النجاح وخالفها القدر: وهذه الفئة لديها طموح عبارة عن أحلام – وليست أهدافا – ولم تفهم سبيل تحقيقها في الواقع، أو حالت دونه أمور، يمكن أن نقيم هذه الفئنة بأنها تملك أحلام النجاح لكن لم توافق إرادتهم مشيئة المولى سبحانه، وهؤلاء القوم يُعتبرون أبطالا ومُثلا يقتدى بهم؛ لأنهم غلبوا المادة وأعجزهم القدر، وفشلُهم هنا نجاح، ينطبق هذا الوصف على كل مصلح شهيد أو قائد صالح معزول أو رئيس صاحب مشروع نافع لم يصل، وهذا الصنف أفضل من السابق وأقل من الصنف الأخير.

إن طريق النجاح ليس مفروشا بسجادة ووردة حمراء، بل قد يكون محفوفا بأشواك

أناس أهدافهم وافقت مشيئة الله: وهو الصنف الذي عرف حقا ما يريد ولم يبدل، ولم يخرج عن نطاق ما يريد، يقال له صاحب هدف وليس صاحب حلم مثل الصنف الثاني الذي يتطبع بأحلام غير مزودة بالأسباب المادية، فهذا الصنف الأخير أصحاب أهداف محددة، وإنجازات رائعة، وحالف حظهم القدر: “وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.”

 

عوامل النجاح في سيرة النبي

يجد المتأمل بين مرحلتي “اقرأ” وبين “اليوم أكملت لكم دينكم” نموذجا فريدا للنجاح، السؤال الذي يطرحهُ رجلُ المستقبل هو ما العوامل التي أدت إلى نجاح النبي عليه الصلاة والسلام؟ لعل جواب ذلك يكمن في هذه العناصر الآتية:

أولا – وضوح الهدف مستوفيا شروطه: كانت وظيفة النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة هي تبيلغ رسالة الله إلى قريش وعرب الجزيرة والدُول العظمى آنئذ. وهذا الهدف بالنسبة للرسول واضح واتخذ خطوات عملية للوصول إلى هذا الهدف السامي.

 

ثانيا – الإصرار على الهدف والسعي لنيله: والمقصود من هذا العنصر ترقب الهدف ومتابعته مع التطور الزمني، وإن اختفى هذا الهدف في بادئ الأمر ، أو حالت دونه بعض مغريات ومفاوضات . نجد ذلك في عرض قريش المال والجاه والنساء على النبي بشرط التخلي عن هدفه، فقال عبارته المشهورة: “أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك أن تشتعلوا لي منها بشعلة.” لو هلك النبي دونه كنّا سميناه حلما، لكن كونه تحقق المراد وانتشر دين الله القويم أصبح هدفا.

 

ثالثا – تجاوز الصعاب: يقال إن طريق النجاح ليس مفروشا بسجادة ووردة حمراء، بل قد يكون محفوفا بأشواك، “ولا بُدّ دون الشَّهد من إبر النحل.” فالاستسلام للصعاب أو التخلي عن الهدف من أجل التحديات القائمة يسمى حلما وليس هدفا. ومن الصعاب التي مر بالنبي عليه الصلاة والسلام إيذاء قريش له ولأصحابه، والهجرة أو الاغتراب مِن أحب البلاد إليه.

 

رابعا – توفر عنصر الحماية: إن حسن النية والرغبة في تغيير العالم إلى أفضل مكان ليس مبررا كافيا للنجاح، وذلك لتباين الرؤى والهوى والأديان، وحرص جميع الأطراف على مصالحهم. ومن هنا كثير من المصلحين يبدؤون مسيراتهم بسِلم مُطلَق ورفع رايته، ويستغربون من أن يُقتل رجل لأنه قال: “ربي الله”، لكن يدركون بعد ذاك أن الحديد بالحديد يفلح، وأنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولأكل الغني والقوي الفقيرَ والضعيفَ، فيُدخلون فلسفةَ “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” ويتطور الأمر إلى تبنّي “أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا.” ومن هنا يقرأ الإنسان من سيرة النبي أن حماية عمه وجده وزوجته له من أسباب نجاحه، ثم استقطابه للحلفاء من العرب، وكذا البيعة الأولى والثانية: ” أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.”

يدرك المدقق أن دراسة سيرته عليه السلام أفضل نموذج لاستقراء عوامل النجاح، حيث إن جميع الأسباب المادية التي اتخذها الرسول وافقتها عناية ربانية

 

خامسا – اتخاذ الأسباب المادية للنجاح : كل ما مضى يبين أهمية اتخاذ الأسباب للنجاح، ويقال: “من لم يخطط للنجاح فقد خطط للفشل” فتوفير العلم والصورة الكاملة لما يريد الإنسان تحقيقه مهمٌ للنجاح، وتوفير الجهات والأشخاص المناسبة والنفقات اللازمة للنجاح مهم كذلك، يتضح لنا في صداقته مع أبي بكر الصديق، وإسلام عبد الرحمن بن عوف، وعثمان وبلال وعمر وابن أبي وقاص، والخزرج وبني هاشم وغيرها.. كما أن عامل الوقت والصبر من أهم أسباب النجاح المادية.

 

سادسا – العناية الربانية : وهي من أهم دعائم نجاح النبي ، فإن العناية الربانية سبقت نجاح السببية، تامل قوله تعالى: “ما ودعك ربك وما قلى، وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فتضى.” وقوله: “والله يعصمك من الناس.” يدرك المدقق أن دراسة سيرته عليه السلام أفضل نموذج لاستقراء عوامل النجاح، حيث إن جميع الأسباب المادية التي اتخذها الرسول وافقتها عناية ربانية.

أخيرا، قد يقال إن محمدا كان نبيا وقد صنعه الله على عينه، فلا يُجعل نجاحه وحياته مقياسا للناس، لكن المتأمل يجد أن حقيقة النجاح هي وجود هدف، وعدم الخروج عنه بالمغريات، وتوفير خطط عملية وعلمية للهدف، وهذا ما يخرج به الملاحظ من سيرته ، فجدير أن يرسم ذلك قاعدة عامة للنجاح.