حرص القرآن الكريم على أن يستخدم أكثر من أسلوب تربوي وتعليمي لإيصال معانيه وتوجيهاته للناس؛ مثل أسلوب القصة، والحوار، والمحاججة، والتقرير، والتحذير، والتشويق؛ إلى غير ذلك من أساليب تتنوع وتتكامل في تفهيم المدعو، وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وتحفيز المتردد، وتحذير المعاند، وقصص القرآن الكريم وهداياته مليء بالعِبَر؛ لا يأتي للتسلية، ولا لمجرد الإخبار عمن مضى أو عما مضى؛ وإنما يأتي ليدلنا برفقٍ على العبرة المقصودة، وعلى السلوك المطلوب..

قال تعالى في ختام سورة يوسف، والتي دارت كلها حول قصة نبي الله يوسف في مختلف مراحله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف” 111).

فإذا أردتَ أن تغرس معنى معينًا عند من تدعوه وتخاطبه.. فاذكر له قصة..

وإذا أردت أن ترفع همة شاب، سواء في فعل الطاعة أو الإقلاع عن المعصية.. فاذكر له قصة..

وإذا أردت أن تعدِّل سلوك إنسان، وبطريقة غير مباشرة تَقبلها نفسُه.. فاذكر له قصة..

لماذا؟

  • لأن القصة أمر محبَّب للنفس، بما فيها من أحداث وحبكة ونتيجة وتشويق.. فالنفس تريد أن تتعرف الأحداث، وتستطلع النهايات..
  • ولأن القصة التي تُبرز البطولات أو تمجِّد الأخلاق النبيلة، تحبها النفس.. فالنفس تتعلق بكل ما فيه معنى للفخار وللبطولة..
  • ولأن الحكمة من القصة تتقبلها النفس بسهولة، حتى لو كانت تعديلاً للسلوك.. لأن الإنسان يحس أنه يُخاطَب برفق ولين، وأنه ليس وحده مَن وقع بالخطأ..

المراد بالقصص القرآني

قصص القرآن الكريم، كما يوضح الشيخ مناع القطان هو ما أخبر به القرآن عن أحوال الأمم الماضية (قوم عاد- قوم ثمود..)، والنبوات السابقة (نوح- إبراهيم..)، والحوادث الواقعة (السيرة النبوية).. إضافة إلى قصة الخلق والنشأة الأولى والصراع مع إبليس وخروج أبينا آدم عليه السلام من الجنة.

والقرآن الكريم يستخدم أسلوب القصة؛ فالنفس تحب القصة وتتشوق لمعرفة نتائجها.. كما أن القصة أسلوب سهل لتوصيل الحكمة والمعنى المراد.

وقصص القرآن الكريم كله حق، وليس فيه خيال.. قال تعالى عن قصة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 3). وقال عن قصة أهل الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف: 31)، وقال عن قصة موسى مع فرعون: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (القصص: 3).

أنواع القصص القرآني

القصص القرآني ثلاثة أنواع:

1) قصص الأنبياء: وقد تضمن دعوتهم لأقوامهم، والمعجزات التي أيدهم الله بها، والحال التي انتهى إليها هؤلاء الأقوام؛ مثل قصص نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم.. عليهم السلام.

2) قصص تتعلق بحوادث غابرة وأشخاص لم تثبت نبوتهم: مثل الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. وأصحاب السبت.. وأصحاب الأخدود.. وأهل الكهف.

3) قصص تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن الرسول : الإسراء، والهجرة، وغزوة بدر، وأحد، والأحزاب.. إلخ.

فوائد القصص القرآني

للقصص القرآني فوائد كثيرة، أهمها كما يبين الشيخ القطان:

  1. إيضاح أسس الدعوة إلى الله وبيان أصول الشرائع التي بُعث بها كل نبي: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25).
  2. تثبيت قلب النبي : {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120).
  3. تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم وتخليد آثارهم.
  4. إظهار صدق النبي في دعوته بما أخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال.
  5. مقارعته أهل الكتاب بالحجة فيما كتموه من البيات والهدى، وتحديهم لهم بما كان في كتبهم قبل التحريف والتبديل، كقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93).

فالقصص القرآني، كما يقول د. الصلابي، غني بالمواعظ والحكم والأصول العقيدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية، والاعتبار بالأمم والشعوب.. وهذا القصص القرآني ليس أمورًا تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وإنما هو أعلى، وأشرف وأفضل من ذلك؛ فهو مليء بالتوحيد، والعلم ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاورات العجيبة.

تكرار القصص في القرآن

يشتمل القرآن الكريم على كثير من القصص الذي تكرر في غير موضع؛ فالقصة الواحدة يتعدد ذكرها في القرآن، وتُعرض في صور مختلفة في التقدير والتأخير، والإيجاز والإطناب، وما شابه ذلك. ومن حكمة هذا:

1) بيان بلاغة القرآن: فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة. والقصة المتكررة تَرِد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل الإنسان من تكرارها. مثل قصة خلق آدم عليه السلام.. أو صراعه مع إبليس الذي استكبر عن السجود له.

2) ترسيخ العبرة من القصة: فإن تكرار القصة يؤكد ويثبت معناها في النفس.. وهذا كما في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه.. أو موسى عليه السلام مع فرعون ومع بني إسرائيل.

وإذا كانت القصة الواحدة قد تتكرر في عدة سور، فإن كل قصة، كما يقول الشيخ محمد الغزالي، تختلف عن الأخرى إما في العناصر الجوهرية التي تتألف منها، أو في طريقة العرض الذي يناسب مقتضيات الأحوال.

فقصة موسى وبني إسرائيل في “سورة غافر” انفردت بالحوار الطويل للرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه، بل هو العنصر البارز فيها.

والقصة نفسها في “سورة القصص” انفردت بتفصيل السبب في خروج موسى إلى أرض مدين وزواجه هناك.

والقصة في “سورة الكهف” انفردت بلقاء موسى مع الخضر، هذا اللقاء المثير المستغرب.

والقصة في “سورة طه” انفردت بالحديث عن العصا التي كان موسى يهش بها على غنمه ثم تحولت إلى قوة هائلة في يده.. كما انفردت بأدعية موسى وإجابة الله له.. إلخ.

وقد استطال الحديث في سورتي “البقرة” و”الأعراف” عن قصة بني إسرائيل؛ ومع ذلك فإن المنهج غير المنهج، والنتائج غير النتائج. وما اتفقت فيه السورتان جاءت صياغته على نحو يلائم البيئة المتغايرة؛ فالسورة الأولى مدنية، والأخرى مكية.

قوانين اجتماعية وعمرانية

لقد تضمن القرآن الكريم عدة قوانين اجتماعية وعمرانية حاسمة، ساقها في تضاعيف القصص التي ذكرها أو في خواتيمها.

مثل قوله سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83)، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90)، وقوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17).

إن القصص القرآني، كما يوضح الغزالي، سردٌ واعٍ موجِّه للتاريخ الإنساني؛ ليس الغرض منه الإلهاء والتشويق، بل الغرض منه التربية والتوعية، وتجديد المعاني بعد انتهاء أهلها؛ لتكون عظة دائمة.

الداعية والقصة

لقد التفت الأدب الحديث لأهمية القصة في توضيح المعاني، وتصوير أحوال النفس، وتربية النشء.. فرأينا هذا الرواج الكبير للقصة والرواية؛ لأن النفس، كما يشير فؤاد قنديل، تحب اسكتشاف المجهول، وتتبُّع الحدث، وتسأل عن المصير والمآل، وتتعلق بالعبرة التي تدور حولها القصة لاسيما إن جاءت في أسلوب مشوِّق يأسر النفس ويجعلها تعيش الحدث.. ويبدو أن طبيعة النفس البشرية لم تتغير في هذا الأمر- حب القصة- وإن اتخذ ذلك أشكالاً متنوعة في كل عصر.

والداعية عليه أن يستفيد من القصة في إيصال المعاني والدروس والعبر.. خاصة أن القرآن الكريم فيه مساحة واسعة لأسلوب القصة، يبلغ تقريبًا ثلث القرآن الكريم.

وما أكثر القصص التي يمكن الاستفادة منها.. قصص الأنبياء.. قصص الصالحين.. قصص صُناع التاريخ والحضارة.. قصص المخترعين والمكتشفين والناجحين..

غير أن المهم أن يلتزم الداعية فيما يورده من قصص:

  • بالثابت غير الواهن أو المختلَق.. إلا أن يشير إلى أنها قصة رمزية، كما في الأدب.
  • وبالمعقول غير المُغرِب عن الطبيعة الإنسانية.. مما فيه خيالات لا يقبلها العقل، ولا تستقيم مع الشائع.
  • وبالتأكيد على الحكمة في القصة، وإبراز القدوة والجانب العملي فيها.. لا لمجرد الحكي وإشباع الفضول الإنساني؛ فهذا مجاله الأدب لا الدعوة.

إذن، علينا أن نتعرف على قصص القرآن ونتدبره، للعبرة وليس لمجرد التسلية ومعرفة الأحداث..

وعلينا أن نستفيد من القصة في تعليم أطفالنا.. وفي بيان الدروس والعبر لشبابنا..

فالشباب المتطلع لنماذج النجاح.. ولنماذج تحدي الإرادة.. ولنماذج الطاعة والتعبد.. ولنماذج البطولة.. سيجد في القصة ما يلهمه ويدفعه للاقتداء بأبطالها..