دخل بنو إسرائيل أعزاء كرماء سادة في جوار أخيهم عزيز مصر يوسف الصديق -عليه السلام، ثم ما لبثت أن تبدلت بهم الأحوال وساءت بهم الظروف حتى اتخذهم فراعنة مصر عبيدًا وساموهم سوء العذاب.

ومن الواضح أن بني إسرائيل حافظوا على نقاء عرقهم، ولم يختلطوا بالمصريين بالزواج حيث النسب والمصاهرة، وذلك رغم مئات السنين بين دخولهم مصر تستقبلهم التشريفات وخروجهم منها مستخفين في جنح الليل البهيم.

وقد وصف الله حالهم بأنهم مستضعفون في الأرض فقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4].

وهذه الحالة من الاستضعاف كانت متفشية ، بل على كل المستويات الشعبية؛ فقال -تعالى- في معرض الامتنان على بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 49].

يقول الطبري: “وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه”([1]).

القهر من الاستعباد

لم يكن أحد من بني إسرائيل بمنأى عن حالة القهر والاستضعاف الحاقة بهم؛ فقد زالت عنهم منعتهم وتمكنهم وعزهم، يقول الماوردي: “وفي التعبيد وجهان:

أحدهما: أنه الحبس والإِذلال.

الثاني: أنه الاسترقاق”([2]).

وقد وصف الرازي حال بني إسرائيل بقوله: “واعلم أن كون الإنسان تحت يد الغير بحيث يتصرف فيه كما يشاء، لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة الصعبة القذرة، فإن ذلك يكون من أشد أنواع العذاب، حتى إن مَن هذه حالته ربما تمنى الموت، فبين الله -تعالى- عظيم نعمه عليهم بأن نجاهم من ذلك.

ثم إنه -تعالى- أتبع ذلك بنعمة أخرى أعظم منها، فقال: ﴿يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ﴾ ومعناه: يقتلون الذكور من الأولاد دون الإناث”([3]).

فالقهر نوع من أنواع الاستعباد، قهر على الأعمال الشاقة، وقهر بقتل الأولاد الذكور؛ فهم لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا، وأصبحت أموالهم وأرواحهم كلأً مباحًا لفرعون وقومه يعبثون بها كما يحبون، ويتصرفون فيها كما يشاءون.

مجزرتا فرعون

لم يتورع فرعون عن القيام بمجازر في بني إسرائيل وسفك دمائهم دون جريرة منهم.

الأولى: عندما رأى رؤيا ذهاب ملكه على يد غلام من بني إسرائيل، فأمر بذبح الذكور وترك الإناث.

وتلك المجزرة نجا منها من جاء هلاك فرعون على يديه، وهو سيدنا موسى -عليه السلام، الذي تربى في بيت فرعون نفسه، وتحت عينه.

الثانية: عندما انتشرت دعوة موسى -عليه السلام- بعد الجهر بها ومواجهة فرعون وقومه.

فلم يُعجب عِلية القوم ذلك فحرضوا فرعون على موسى وقومه.

فما كان منه إلا أن أعاد سيرته الأولى في الأمر بالقتل.

وفي ذلك يقول -تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف: 127].

ولذلك لما حلّت عليهم المجزرة الثانية تذكروا الأولى في الزمن الغابر فقالوا لموسى -عليه السلام: ﴿أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ [الأعراف: 129].

الرسالة لتحرير بني إسرائيل

اختار الله -تعالى- عبده موسى لينجي قومه من تلك المذلة التي يعيشونها، وتلك المحنة التي امتد أمدها، فواجه سيدنا موسى وأخوه هارون -عليهما السلام- بهذا القول الفصل: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 16-17].

ولم يكن الكلام لفرعون وحده، بل لقومه أجمعين، قال -تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ [الدخان: 17-18].

قال قتادة في تفسير قوله -تعالى: ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ﴾: “يعني به: بني إسرائيل، قال لفرعون: علام تحبس هؤلاء القوم، قومًا أحرارًا اتخذتهم عبيدًا، خلّ سبيلهم”([4]).

سقوط النعمة مقابل الاستعباد

وقع الجدال بين سيدنا موسى -عليه السلام- وفرعون؛ فأخذ فرعون يعدد نعمه على نبي الله موسى فقال له: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [الشعراء: 18-19].

فكان الرد القاطع لفرعون حينما قال له موسى الكليم: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 22]، قال البغوي: “كيف تمنَّ عليَّ بالتربية وقد استعبدت قومي، ومن أهين قومه ذُلّ؛ فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليَّ.

وقوله: ﴿أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، أي: باستعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم، دُفعت إليك حتى ربيتني وكفلتني، ولو لم تستعبدهم وتقتلهم كان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم، فأي نعمة لك علي؟”([5]).

والكلام قد “خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون، باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي! فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به”([6]).

فأنت “وما أحسنت إلي وربَّيْتني مقابل ما أسأتَ إلى بني إسرائيل، فجعلتهم عبيدًا وخدمًا، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفَيَفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأتَ إلى مجموعهم؟ فليس ما ذكرتَه شيئًا بالنسبة إلى ما فعلتَ بهم”([7]).

انتزاع الحرية

لم يسمح فرعون لنبي الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر إلى الأرض المباركة، وحرية الإنسان في الانتقال حقّ له، وليست هبة من أحد، فكان لا بد من انتزاع هذا الحق رغمًا عن فرعون وقومه، فكان الوحي من الله -تعالى- لموسى -عليه السلام: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ [الدخان: 23].

فالتخطيط للخروج، مع سرية الحركة إلى جانب ضخامة العدد، مع امتلاك الخوف لقلوبهم من فرعون وجنده، كلها أمور معيقة ومحبطة، لكن الخروج من ربقة الأسر من أعظم الدوافع، فكان الإسراء بسرية تامة.

الجميع خرج، الرجال والنساء والأطفال، الكل يسعى لحياة جديدة يملؤها الأمن والإيمان، مع رغبة جامحة في استنشاق نسائم الحرية.

فالحرية تنتزع من بين يدي الظلمة؛ إذ لا تسمح بها أنفسهم، ولا تطيب بها خواطرهم.

وكانت نعمة الإنجاء لبني إسرائيل والفوز بالحرية، ونقمة الإهلاك لفرعون وجنده، فجاء الإسلام ليخلد هذه الذكرى حتى قيام الساعة.


([1]) تفسير الطبري، (2/37).

([2]) النكت والعيون، (4/168) باختصار.

([3]) مفاتيح الغيب للرازي، (3/64).

([4]) تفسير الطبري، (22/25).

([5]) معالم التنزيل، (6/110) باختصار.

([6]) تفسير القرطبي، (13/96).

([7]) تفسير ابن كثير، (6/138).