هل سبق وأن حدث نفاق بين المسلمين بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل الهجرة أيضا، أي في مكة؟ وهل ظهر نفاق بين المسلمين في في أول الإسلام أم بعد ذلك؟

إن الله -تعالى- قد جعل لكل نبي أتباعًا وأصحابًا يؤمنون به، ويؤازرونه، وينشرون دعوته، قلّ هؤلاء الأتباع أم كثروا. وفي بعض الحالات ينعدم هؤلاء الأتباع فلا يؤمن بالنبي أحد.

وكان لبعض أتباع الرسل أسماء مخصوصة؛ فأتباع عيسى ابن مريم -عليه السلام- اسمهم الحواريون، وعموم أتباع النبي محمد –صلى الله عليه وسلم– اسمهم الصحابة، وهم -في غالبهم- على فئتين: مهاجرين وأنصار.

وأتباع الرسل ليسوا على درجة واحدة من الإيمان؛ فبعضهم متفردون بالسبق، وبعضهم مقتصد.

وقد يندس بين الأتباع من لا يؤمن بهذا النبي، لكنه يُظهر الإيمان ويضمر الكفر، ولا يألو جهدًا في تخذيل الأتباع وبث الفُرقة بينهم، وممالأة الأعداء، وتذليل السبيل لهم للنيل من النبي ودعوته وأتباعه الصادقين.

ولم يكن الإسلام بدعًا في ذلك؛ إذ ظهرت فئة المنافقين بين صفوف المؤمنين الذين قال عنهم عبد الله بن مسعود: “إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه”([1]).

وهذا النفاق لم يظهر في أول الإسلام، بل ظهر بعد فترة من الزمن بلغت حوالي خمس عشرة سنة من بعد البعثة النبوية الشريفة، أي أن أرض مكة لم يظهر فيها نفاق حتى هذا الوقت، وظهر في المدينة المنورة.

أبين المهاجرين منافقون؟

الراجح أنه لم يظهر نفاق بين المهاجرين، وهذا أمر قطع به العلماء الأثبات؛ فالحافظ ابن كثير يقول: “النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلِّد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب.

وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يُظهر الكفر مستكرهًا، وهو في الباطن مؤمن.

فلما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام -رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق -أيضًا؛ لأنه لم يكن للمسلمين -بعدُ- شوكة تخاف، بل قد كان -عليه الصلاة والسلام- وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة.

فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعلى الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول -وكان رأسًا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد توجه، فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب.

فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب.

فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد؛ لأنه لم يكن أحد يهاجر مُكرهًا، بل يهاجر ويترك ماله، وولده، وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة”([2]).

نفاقٌ في مكة المكرمة

من المشهور بين المسلمين أن النفاق ظهر في المدينة المنورة إثر قيام الدولة وظهور الشوكة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، لكن هل ظهر نفاق بمكة المكرمة؟

نعم، لقد ظهر النفاق متأخرًا في مكة المكرمة، فقد ذكر بعض العلماء ذلك في أسباب نزول قوله -تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 88-89].

قال الضحاك: “هم ناس تخلّفوا عن نبي الله -صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من وَلايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين، وبرّأ المؤمنين من وَلايتهم، وأمرهم أن لا يتولَّوهم حتى يهاجروا”([3]).

وهناك أقوال أخرى في تفسير معنى “المنافقين” الواردة في الآية، لكن الإمام الطبري رجّح هذا الرأي فقال: “وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوم كانوا ارتدُّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأنّ اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين: أحدهما: أنهم قوم كانوا من أهل مكة، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم.

والآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة.

وفي قول الله -تعالى ذكره: ﴿فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ أوضح الدّليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة؛ لأنّ الهجرة كانت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر.

فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيمًا من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرضُ هجرة؛ لأنه في دار الهجرة كان وطنُه ومُقامه”([4]).

هل أُثر أن ارتد بعض من هاجر؟

هاجر المسلمون هجرتين: الأولى للحبشة، والثانية للمدينة، وقد ارتد عبيد الله بن جحش الذي هاجر للحبشة، وكان زوجًا لأم حبيبة بنت سفيان، ومات على النصرانية.

وقد ارتد عبد الله بن أبي السرح الذي هاجر إلى المدينة، وكان من كتبة الوحي، لكنه تاب من بعد ذلك وحسن إسلامه.

وهذه منقبة للمهاجرين؛ إذ إنهم أقبلوا على الله بكليتهم، وخرجوا من ديارهم وأموالهم وأبنائهم، فعلم الله صدق طويتهم، فطهّر بواطنهم وقدّسها من النفاق، وقدمهم على سائر المسلمين في كل زمان ومكان.


([1]) أخرجه أحمد في “المسند”، ح(3600)، وقد حسّن إسناده شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”.

([2]) تفسير ابن كثير، (1/176-177) باختصار.

([3]) تفسير الطبري، (8/11-12).

([4]) السابق، (8/13-14).