تنطفئ الأضواء، ويسود الهدوء ، ويملأ الدفء أركان الحجرة، تدق الساعة الثامنة.. الأعين مترقبة.. الآذان صاغية.. الأجساد يدفئها غطاء السرير المطرز بوبر الجمال البدوية، تشعل الأم شمعة.. تشع في الأرجاء جوًّا رومانسيًّا.. هكذا تبدأ مراسم النوم في البيت، ولكنها لا تنتهي إلا بدعاء النوم.. وما بين إشعال الشمعة ودعاء النوم تقدم الأم لصغارها أجمل وأقيم ما عندها.. إنها تورثهم ما ادخرته لهم من سنين وأيام طوال.. “تورثهم تراث الأمس، مجد أمتهم، وعزها”.

الحاكم المهموم

كان يا ما كان .. كان هناك زمان زمان رجل طبيب صالح يعيش في بلدة صغيرة بجوار بغداد. كان حاكمًا لقلعة حصينة كبيرة اسمها قلعة “تكريت” كان اسمه “نجم الدين بن أيوب” وكان من قبائل الأكراد “سكان تكريت”.

في يوم من الأيام هاجم الأعداء القلعة، فكان لا بد لعائلة نجم الدين أن تغادر القلعة، وأن تهرب في جنح الليل. بينما هم في طريق الهرب صرخ طفل رضيع صغير من شدة الخوف والبرد، كان اسم الطفل الصغير “صلاح الدين. خاف والده نجم الدين من أن يسمع الأعداء صوت الطفل فيعرفون مكان القافلة الهاربة فيهجمون عليها، ففكر في قتل الطفل الرضيع، إلا أن أحد الموجودين بجوار الحاكم قال له: “يا مولاي، ما يدريك لعله يصبح حينما يكبر ذا صيت، وذا ملك عظيم، لا تقتله فلا ذنب له”.

رجع نجم الدين عن فكرة قتل ولده الصغير، واستكمل الرحلة حتى وصلت العائلة إلى بلاد الشام، هناك عاشت العائلة عند رجل صالح كان حاكمًا للبلاد فأكرمهم، وقدم لهم كل سبل الراحة، كبر صلاح يومًا بعد يوم، وقضى في بلاد الشام أحلى أيام عمره، حفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة، وتعلم اللغة العربية، وصار عارفًا لآدابها ونحوها، كما تعلم الكثير من أمور دينه، كما تعلم – مثلما يتعلم أولاد الأمراء في هذه الأيام – الفروسية والمبارزة وفنون الحرب.

أحبه كل من حوله بسبب حسن خلقه، وعلمه، وأدبه، ذكائه وشجاعته وثقته بالله تعالى.

سرعان ما عيّنه الحاكم قائدًا على جيوش مصر، ثم صار نجم الدين حاكمًا على مصر. حكم صلاح مصر بالحكمة والموعظة الحسنة ففتح المدارس، واهتم بالعلوم، وبنى المساجد، وعبَّد الطرق، وعمر المدن، وازدهرت التجارة.

إلا أن صلاح الدين برغم كل هذا النجاح الذي حققه فإنه كان دائم الحزن، ويظهر على وجهه علامات الهم، فهو لا يريد القصور، ولا يهتم بالمال أو الغنى، وعندما يجتمع الوزراء والأمراء حوله يجدونه دائم الفكر، والحزن، يا ترى فيم يفكر؟ ولماذا هو مهموم حزين؟

تعرفون ما الذي كان يهمه ويحزنه؟!

البيت! نعم البيت! بيت الله. أليست مساجد الله كلها بيوت الله، إنه بيت المقدس. المسجد الأقصى الذي احتله الصليبيون، فلسطين المحتلة، أرض المسلمين في فلسطين في أسر الصليبيين الذين احتلوها بأسلحتهم وجيوشهم القوية جاءوا من ممالك أوروبا.

اجتمعوا جميعًا ليحتلوا بلاد المسلمين، لما فيها من خيرات.

كان المسلمون متفرقين، كل أمير وكل ملك وكل حاكم مهتم بملكه فقط، لا يهتم بأحوال باقي المسلمين، كل أمير وكل ملك وكل حاكم ينافس ولا يحب أحدا، بل وفي كثير من الأحيان يحارب جاره المسلم، كانوا متفرقين، ممالك، وفاطميين وسلجوقيين، وأتراكا، كلها أسماء للمسلمين هنا وهناك، الكل يحارب بعضه بعضًا. فصاروا ضعفاء.. ضعفاء.

أخذ صلاح الدين يفكر، ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ كيف يمكن أن أوحد المسلمين؟ كيف؟ الله أنعم علينا بدين واحد، وكتاب واحد، ونبي واحد، وكعبة وقبلة واحدة.. ولكنا مع ذلك متفرقون.

دخل عليه قاضي البلاد، أراد أن يعرف سبب همه وحزنه فطلب منه صلاح الدين أن يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم، فظل صح الدين ينصت وينصت. وفجأة تهلل وجهه وفرح، فلما سأله القاضي عن السبب؟ قال له: وجدتها وجدت حلا لمشكلتي. الحل في الآية التي قرأتها عليَّ الآن: “وحرض المؤمنين على القتال”.

نعم سأوحدهم تحت راية الجهاد، عندما يشعر الجميع في كل البلاد: في العراق وفي مصر وفي الشام وفي السعودية أن الجهاد فرض عليهم، وأن خطر الصليبيين يمكن أن يصل إليهم كما وصل إلى بيت المقدس وسواحل فلسطين، وعندما أذكرهم بفضل الجهاد سيقفون معي صفًا واحدًا، وعندما نقف صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص نستعين بالله ونستمد القوة منه سبحانه وتعالى؛ فسوف ننتصر يقينًا، ولن يخذلنا الله تعالى: “ولينصرن الله من ينصره”.

ومنذ ذلك اليوم أخذ يدعو الناس إلى الجهاد، في المساجد، وفي الشوارع، وفي الدواوين، وفي كل مكان… أخذ الكل يتكلمون عن الجهاد، ويتمنون أن يجاهدوا في سبيل الله ويشتاقون إلى تحرير فلسطين وتحرير القدس وتحرير بيت المقدس.

أخذ جيش صلاح الدين يكبر ويكبر ويكبر، ويقوى ويقوى ويزحف ويزحف حتى وصل إلى حطين، وهناك انتصر المسلمون، ودخل بعدها صلاح الدين بعون الله فضله بيت المقدس وحررها، ورفع الأذان عاليًا على المسجد الأقصى، بعدما ظل 88 عامًا لا يرفع هناك أذان، وعندما وقف صلاح الدين على المنبر في المسجد يخطب في الناس ذكرهم بأن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص”.

فتعلم منذ ذلك اليوم المسلمون أبرز الدروس في تاريخهم وهو أن الاتحاد والوحدة قوة وأن التفرق هزيمة وضعف.

أحمد ودرس “النمل”

كان يا ما كان.. كان فيه زمان زمان، في بلاد ليست منا ببعيدة. كان هناك عدد من الأولاد يحبون لعب الكرة، كانوا يلعبون الكرة طوال النهار، في كل صباح ينادي الأصدقاء بعضهم بعضًا ليبدءوا لعب الكرة. وفي يوم من الأيام بينما يلعب الأولاد في الساحة الكبيرة التي تتوسط البلدة الصغيرة، ألقى أحمد الكرة في وجه صديقه حسن دونما أن يقصد إيذاء صديقه، إلا أن حسن صرخ وبكى بصوت عال، وبدأ التشاجر، انضم حسين، وعماد، وعمر، وعلي إلى صف حسن بينما وقف حسام ورامي وسمير وسعد إلى صف أحمد، فانقلب الوضع من فريقين يلعبان الكرة إلى فريقين يرمي بعضهم بعضًا بالحجارة، يتشاجرون ويتشاحنون يسب بعضهم بعضا، أصبح الكل يرى أن إيذاء الآخر هو الهدف الذي يبغيه.

رأى الأهالي هذا المنظر فانضم الآباء إلى صف أبنائهم، وعمت الفرقة والمشاحنات صفوف الكبار، فدب الخلاف والخصام بين أهالي البلدة الصغيرة.

ظلوا على وضعهم هذا أياما وليالي، لا يكلم بعضهم بعضًا، إذا مرض أحدهم لا يزوره جيرانه، إذا جاء العيد لا يهنئ بعضهم بعضًا.

وفجأة، وفي ليلة من الليالي، استيقظ أهل البلدة على أصوات عجيبة غريبة، الأصوات تقترب وتقترب. نظر الآباء، والأمهات ومن ورائهم الأطفال من وراء النوافذ، وإذا بهم يرون عصابة قوامها 20 شخصًا يقتحمون البلدة، يحطمون نوافذ المحلات ويسرقون ما بها، ويقتحمون الأسواق ويأخذون كل ما فيها من خيرات. وقبل أن يولوا خارجين من البلدة راجعين من حيث أتوا نادوا بأعلى صوتهم بحيث سمعهم كل الأهالي: “سوف نرجع لنسرق وننهب بعد شهر، موعدنا عندما يكتمل القمر بدرًا بعد شهر تمامًا”.

بات أهل البلدة في حزن شديد وفي ضيق بسبب ما أصابهم من الخسارة، سوف يحتاجون إلى جهد كبير لإعادة إصلاح ما انكسر ولإعادة الأمور كما كانت من قبل. في الصباح جلس أحمد على عتبه البيت يتذكر الليلة المشئومة، ويفكر ماذا يا ترى سيحدث بعد شهر عندما يرجعون ويعيدون هجومهم على البلدة.

وبينما هو جالس شارد الذهن حزين، ناظر إلى الأرض، رأى جمعًا من النمل يعاون بعضه بعضًا، يحمل كل منهم حبة في حجم الذرة، ويدخلها إلى الجحر تحت عتبة البيت، الكل متعاون، الكل نشيط، الكل مترابط. هذه نملة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، ولكنها بسبب هذا الترابط والتعاون تستطيع أن تصمد أمام كثير من المخاطر، يواجهون خطر قلة الزاد في الشتاء بتخزين المواد الغذائية التي تكفيهم في الصيف، إنه بالنسبة للنمل الصغير الحجم عمل كبير، ولكن بالتعاون والترابط يستطيعون مواجهة المخاطر.

لماذا لا نكون كالنمل المتعاون المترابط؟ سأل أحمد نفسه؟ لماذا؟ ما الذي ينقصنا؟ فلو تعاونّا ووقفنا جميعًا أمام تلك العصابة التي لا تزيد عن 20 شخصًا لاستطعنا القضاء عليهم وعلى خطرهم، ولكن كيف يمكن مصالحة البلدة المتخاصمة، فكر أحمد وفكر وفكر ثم قام من مكانه متهللا، نعم بالعفو والتسامح. فجرى أحمد إلى بيت حسن، وكلمه بكلمات رقيقة بسيطة فعادت روح المحبة لتدب مرة أخرى في قلب حسن فتصالحا وتصالح الفريقان وتصالح من بعدهم الكبار.

بدأ أحمد وحسن وأصدقاؤهما في بناء حائط كبير حول المدينة، ساعدهم في ذلك كل الأهالي كبارًا وصغارًا، الكل متعاون، الكل يشارك في العمل في الدفاع عن المدينة.

وعندما مر الشهر وعادت العصابة كان البناء قد اكتمل والتحصينات قد شُيّدت، من وراءها رجال متصافون كالبنيان المرصوص للدفاع عن البلدة، فرجعت العصابة عندما رأت هذا المنظر فلم يجرؤ أحد من أفراد العصابة على مواجهة البلدة الشجاعة الباسلة المتعاونة الموحدة.

وعندما كبر أحمد وصار له أولاد أراد أن يعلمهم معنى التعاون والاتحاد؛ فحكى لهم ما حدث حينما كان في سنهم، وعلمهم حديث الرسول – : “المسلم للمسلم كالبنيان” وقوله تعالى:( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا..).


منى يونس