في الحياة الدنيا تكثر الأحزان، ويكون مرورنا بما يسبِّبها أمرًا طبيعيًّا؛ فالدنيا دار ابتلاء واختبار. ولهذا، علينا أن نعرف كيف نتعامل مع الحزن، ونحوله إلى طاقة إيجابية تدفعنا للعمل، بدل أن يكون طاقة سلبية تضغط علينا وتدمرنا داخليًّا؛ سواء أكان سبب ذلك الحزن مُتَّصلًا بشأن فردي، أو بشأن عام للأمة كما هو الحزن الآن مما يجري على غزة من عدوان.

1- الحزن شعور طبيعي

في البداية، علينا أن ندرك أن الحزن شعور طبيعي، من الوارد أن يصيب المرء؛ نظرًا لأن النفس الإنسانية محلّ للتقلبات والمرور بالتناقضات، فما أسرع ما تتغير النفس، وما أشد ما يتبدل بها الحال؛ من فرح إلى غم، ومن حزن إلى سرور، ومن أمل إلى يأس.. وهكذا. فالإنسان لا يعرف حالة واحدة، كما أن الدنيا لا تدوم على وتيرة واحدة.. وإنما الأيام دُوَل، والأوقات قُلَّب.

فمن الطبيعي أن يحدث هذا التغير، وأن يصاب المرء بما يعكر عليه نفسه ويصيبه بالهم والغم. وإدراكُ ذلك يخفف من وطأة الحزن حين يقع فيه الإنسان؛ فلا يجزع ولا يصيبه الهلع.

كما أن الحزن بسبب ما يقع في الأمة من عدوان، إنما هو دليل على يقظة القلب وحياته، وعلى الوعي المتصل بالأمة لا المنفصل عنها.. وهذا مما ينبغي أن يحمد المرءُ ربَّه عليه.. بقي أن يوجه هذا الحزنَ الوجهة الصحيحة كما سيأتي.

2- الإسلام لا يمنع المشاعر الطبيعية

نعم؛ الإسلام لا يمنع المشاعر الطبيعية، ولكنه يوجهها وينظمها؛ بحيث لا يصاب المرء بالبطر فيما يسعده، ولا بالجزع فيما يحزنه. فمشاعر مثل الرضا والغضب، أو الفرح والحزن؛ لا يمنعنا الإسلام من أن نظهرها، ولا يأمرنا بكبتها؛ وإنما يأمرنا بالتوسط والاعتدال في الانفعال بها. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد: 22، 23).

وعند وفاة قريب أو حبيب، لا يمنع الإسلام من البكاء والحزن على فراق الأحبة، وإنما يمنع من  السخط على قدر الله تعالى، ومن إتيان أفعال تدل على الجزع مثل اللطم وشق الجيوب.

عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِامْرَأَةٍ قَدْ أُصِيبَتْ بِوَلَدِهَا فَسَمِعَ مِنْهَا مَا يَكْرَهُ فَوَقَفَ عَلَيْهَا يَعِظُهَا فَقَالَتْ لَهُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ، فَلَيْسَ فِي صَدْرِكَ مَا فِي صَدْرِي، فَوَلَّى عَنْهَا، فَقِيلَ لَهَا: وَيْحَكِ مَا تَدْرِينَ مَنْ وَقَفَ عَلَيْكِ؟ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعْتُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَرَفْتُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبِي إِلَيْكِ، فَإِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» (مصنف عبد الرزاق). وعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَالْعِبَرَةُ لَا يَمْلِكُهَا ابْنُ آدَمَ، صُبَابَةُ الْمَرْءِ إِلَى أَخِيهِ» (مصنف عبد الرزاق).

3- عدم الاستغراق في الحزن

إذا كان الحزن أمرًا طبيعيًّا، يصاب به المرء في أي وقت وبسبب أحوال كثيرة، وإذا كان الإسلام لم يمنع المشاعر الطبيعية وإنما هذَّبها وقوَّمها؛ فمن المهم عدم الاستغراق في الحزن؛ وذلك لأن هذا الاستغراق:

  • قد يُعد انتحارًا نفسيًّا: لِما يتركه في النفس من ضيق وتبرم، تزداد قتامته كلما أوغل فيه المرء.
  • يشلّ قدرة المرء عن التفكير فيما يجب عمله، وما يمكن البدء به؛ فيضيع منه الحل والمخرج!!

4- البحث عن الوسائل العملية لتجنب الحزن وإزالة أسبابه

المسلم مطالَبٌ بأن يكون إيجابيًّا، لاسيما عند الشدائد والأزمات؛ ففيها تظهر معادن الرجال، ويشتد عودهم، ويكتسبون خبراتٍ لم يكونوا ليكتسبوها لو لم يمروا بتلك الشدائد والأزمات.

ولهذا، على المرء إذا وقع في مشكلة أو أصابه حزن، أن يفكر في الوسائل التي يمكن من خلالها حل المشكلة وإزالة أسباب الحزن.. لا أن يقع فريسة لوساوس الشيطان، ومخاوف النفس.

بدلاً من الاستغراق في الحزن وإثقال النَّفْس به، فكِّر في الوسائل العملية.. قلِّب الأمور على وجوهها كافة.. اطرح كل البدائل على طاولة التفكير.. لا تستبعد سببًا مهما كان بعيدًا.. ثم ابدأ في ترتيب الوسائل حسب الأهمية وحسب المتاح.

التفكير العملي، لا الاستغراق في مشاعر الحزن، هو ما يدفع عنك الأثقال، ويطرد عنك وساوس الشيطان والمخاوف.

وفي كل الأحداث التي وقعت للنبي ، وأحاطت بمن آمن معه؛ كان التفكير في البحث عن وسائل للحل، لا القعود للشكوى مما حدث! رأينا ذلك في الهجرة حيث البحث عن مكان بديل آمن لتبليغ الدعوة: الحبشة ثم الطائف ثم المدينة..

كما رأينا ذلك أيضًا في الغزوات، حتى تلك التي لم تكن في حسبان المسلمين واستعدادهم، كما في غزوة بدر؛ قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (الأنفال: 7). فكان تنظيم الصفوف، وإرسال الطلائع، ثم الثبات في الميدان، حتى تنزَّل النصر وجاء المدد.

5- البدء فورًا بما يمكن عمله ولو لم يكن كافيًا

لاشك أن إزالة أسباب الحزن قد تكون متعددة، وقد تتفاوت فيما بينها من حيث القدرة عليها؛ خاصة في الأزمات الكبرى التي تمر بالأمة، كما نرى الآن في العدوان على غزة.. فإن هذه أزمة تُدخل الحزن على نفس كلِّ حر يأبى أن يرى هذا العدوان على البشر والشجر والحجر، وعلى المساجد والمدارس والمستشفيات.

وإزالة هذا العدوان تحتاج أوقاتًا طويلة، وأسبابًا متعددة.. والأمةُ بمجموعها مخاطَبةٌ بالعمل على ذلك.. لكن ليس كل مطلوب يكون متيسَّرًا.

إذًا، فإزالة هذا الحزن الذي يقهر النفس ويضغط على القلب- بسبب رؤية العدوان الذي يتضرر منه كل شيء- تتطلب، بجانب عمل الحكومات، أن يبدأ كل فرد في الأمة ببذل ما يستطيع فورًا، دون تأجيل أو تباطؤ؛ حتى لو لم يكن كافيًا لإزالة العدوان، وما يترتب عليه من أذى للنفس.

وهذا العمل الفوري قد يكون تبرعًا، أو مقاطعة، أو دعاءً، أو مشاركة بالجهد في جمع التبرعات وإرسال المساعدات.. إلى غير ذلك من وجوه عملية للدعم.

ولاشك أن القيام بذلك، ينقل الفرد من دائرة المراقِب الذي يكاد يموت كمدًا وغيظًا، إلى دائرة الفاعل المشارك في رفع الكرب، وإزالة أسباب الحزن.

6- الاستعاذة بالله من الحزن، والاستعانة به في تخفيف الألم

عند الأزمات، بل وفي غير الأزمات، ليس للمسلم إلا الله تعالى؛ يلجأ إليه طالبًا العون والنصرة، يشكو إليه الضعف وقلة الحيلة وانقطاع الأسباب؛ فهو سبحانه أرحم بنا من أمهاتنا، ويريد بنا الخير.. فإلى من نلجأ وهو حصننا، وإلى من نشكو وهو أماننا، وممن نطلب العون وهو ربنا.. سبحانه وتعالى.

ولنا في رسولنا الأسوة والقدوة؛ فقد كان يلح على الله في الدعاء، لاسيما في الأزمات والشدائد، كما في غزوة بدر . فعن عمر بن الخطاب ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}. فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ (صحيح مسلم).

كما كان يستعيذ بالله من الهم والحزن، في “أذكار الصباح والمساء”؛ لِمَا لِلهم والحزن من ضرر بالغ على النفس. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ: «يَا أُمَامَةَ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟»، قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي، وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ، قَالَ: ” قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ “، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي” (سنن أبي داود).

إذن، بهذه الأمور الستة، نحوِّل الحزن إلى طاقة إيجابية، ونتعامل معه بما يفكك أسبابه ويحل مشكلته؛ لا بما يعقِّدها ويضاعف من آثارها السلبية..