تهدف هذه الورقة إلى قراءة كتاب المعنون: ” الإتصاف بالتفلسف التربية الفكرية ومسالك المنهج ” للكاتب والمفكر في المشكلات الأخلاقية المعاصرة عبد الرزاق بلعقروز وهو أستاذ فلسفة القيم والمعرفة في جامعة سطيف2 الجزائر ورئيس مجموعة بحثية بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وقد صدر له حتى الآن 14كتابا منها: تحولات الفكر الفلسفي المعاصر، السؤال الفلسفي ومسارات الإنفتاح، المعرفة والإرتياب، أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي، قوة القداسة، مدخل إلى الفلسفة العامة، روح القيم وحرية المفاهيم.

أما عن كتاب ” الاتصاف بالتفلسف .. التربية الفكرية ومسالك المنهج ” الذي بين أيدينا  تأتي أهميته في دراسة مباحث التربية الفكرية ورسم  مسالك المنهج الضرورية لمعالجة أمراض النفس و الفكر و كذا تشخيص عمق الأزمة الأخلاقية لأن رغم تكوثر التنظيرات في الفلسفة اللأخلاقية وتنوع نماذجها (الإعتراف والتواصل والتسامح) إلا أنها أخفقت في معالجة الأمراض الإجتماعية للإنسان الحديث، لذا كان من مرام الكتاب هو البحث عن نموذج أخلاقي متكامل بديل  يجمع بين الإيمان والعمل، وبين القلب والعقل والروح لبناء إنسان متكامل قادر على إصلاح ذاته وتقويم رؤيته للعالم، وقبل أن نتفحص ونتأمل في مضامين كتاب ” الاتصاف بالتفلسف .. التربية الفكرية ومسالك المنهج ” لابد أولا أن نفهم ونتمعن في معاني المفاهيم “الإتصاف بالتفلسف”و “التربية الفكرية” ابتدأ الكاتب المقدمة بمقولة ” كمال التفلسف في حصول الإتصاف به” وهذا المفهوم يتنزّل في مسار مايعرف العلاج بالتفلسف والحياة بالتفلسف أي يتقصد برنامجا وخطاطة منهجية حول نهج التفلسف من الإستعمال إلى  الدربة،” وفي هذا الخط الفلسفي يستدعي في برنامجه العلاجي مفاهيم روحية مثل: الإيمان والتحويل والتغيير والفعل والاقتلاع والجهاد النفسي واقتحام العقبة والرياضة الروحية وعلاج النفس وتبديل الصفات وفن القراءة والهيئة في العالم والحوار مع الذات وعمارة الظاهر والباطن”[1] .

 أما مفهوم التربية الفكرية يقول الكاتب “المقصود بالتربية الفكرية هو أنها تنمية قوى الإنسان الروحية والعقلية والفكرية والبحثية والتواصلية، وفق منهجية تعليمية يكون غرضها دوما هو التجديد والحوار واكتساب معارف جديدة لأن الفكر يخمد عندما يكرر بشكل أبدي قول الحقيقة المكتسبة نفسها، ولذا أصبحت التربية الفكرية هي الشرط اللاّزم والفعل المرافق لاستمرارية الفكر في إبداعه واكتشافه، وفي إيجاد حلول لمشكلات الإنسان بدءا من الجزئي إلى الكلي”[2]، قسّم الكاتب عبد الرزاق بلعقروز كتاب ” الاتصاف بالتفلسف .. التربية الفكرية ومسالك المنهج ” إلى ثلاثة أبواب وكل باب ضم مجموعة فصول.

فنجد الباب الأول: التربية الفكرية ومنهج التفلسف: من الإستعمال إلى المران والدّربة وفي هذا الباب قدم فيه فصلين ليكون الفصل الأول بعنوان معوّقات التربية الفكرية : كيف السبيل إلى التغلب عليها؟ حيث شخّص فيه عوائق التربية الفكرية منها أمراض النفس  والتطبع الثقافي وأمراض التفكير، فمعوقات التربية الفكرية”هي جملة الصوارف (المعرفية والعقلية والنفسية والاجتماعية والخلقية) التي تصرف المتعلم عن تحقيق أقصى مطالب التربية الفكرية، وتتميز بتركيبتها وتبادل تأثير الجوانب فيما بينها، فهناك طبيعة التصور المعرفي الكلي أو رؤية العالم، وهناك الأثر النفسي والاجتماعي على التفكير، وهناك إرادة السلطة في تمثّلها لمعيار العلم والحقيقة، وهذه المحددات تتبادل فيما بينها، فالنفسي(أي الأمراض النفسية) يمنع العقلي من الانطلاق والتفكير، والإجتماعي( مانسميه لاحقا التطبّع الثقافي) يرسم صورة للعالم معيارها هو مطالب الجماعة وحدود الجماعة، ولذا نجد دوما  تلك التوجيهات في الثقافة الإسلامية  بأهمية إعمال الفكر، ووضع الأنساق الإدراكية  السائدة ومطالب الجماعة بين قوسين،لأجل المكابدة في فلك التفكير وإصابة  الحق والعمل بما يوافق الحق”[3]

وهنا يكون التكامل في الفكر بين التعقل والتخلق،أو بين التعقل والتعمّل “فالفكر متى اتصف بالشأن الخلقي اتسعت مداركه وقوي على الرؤية والإبصار”[4]،  فإن المرض النفسي يعيق التربية الفكرية، ويشير الكاتب إلى أن معرفة الإتصاف بالمرض الذي يحجب الإنسان عن التفكير الإبداعي يكون” تغلّب الطاقة الحيوية على الإنسان أو تحكّم قوى الطبع الإنساني وصعود أبخرة هذا التحكم إلى العقل والتفكير، وإذا تحكّمت قوى الطبع أو الدوافع الحيوية( الدافع الجنسي، الدافع الغذائي، الدافع التملكي، الدافع الغضبي، التمركز حول الأنا) في العقل تقلّص التفكير وانحصر في المفاتشة عن حيل لتبية هذه الدوافع الحيوية التي تحجب العقل والفكر،وتختزل اتساعه  في دائرة ضيقة تمنع حركة المعرفة من الانطلاق والإنجاز”[5] .

من الأمراض الجديدة للنفس خاصة مع ثورة الإعلام والإتصال، إذ نلحظ أن النفس تكون مريضة حين تكون أكثر ميلا للمتعية والنرجسية وحب الظهور والنزوع الفردي نحو حب الإمتلاك والسيطرة..الخ، وبالتالي تغرق النفس في غياهب هذه المتع واللذات وتفقد البوصلة الأخلاقية وتحجب عن المقاصد العلمية والسلوكية فدور التربية الفكرية هنا ليس فقط في تنمية قوى التعقٌّل مثل الذكاء وسرعة الفهم والتعلم، بل لابد حمل النفس على الفعل الأخلاقي”فالذكاء يتبع دائما حال النفس، فإذا فقدت النفس صفاءها فقد الذكاء عمقه”، فالتربية الفكرية تكشف لنا هذه الأمراض النفسية من أجل تنقية النفس من كل الأسقام.

من المعوقات التربية الفكرية نجد التطبع الثقافي والصناعي: والمقصود بالتطبع الثقافي  أو الإقتداء بالأثار هو نظام من الأوامر والنواهي سمته توجيه العقول والسلوكيات نحو أهداف مخصوصة وينتج الأساليب التي تجعلها – أي الأوامر والنواهي- تحافظ على البنى الثقافية الثابتة في المجتمع وتعاند أيّة جهود نقدية للبنى الفكرية أو الهيئات الأخلاقية، لأن سٌقم التطبع الثقافي والصناعات الفكرية معيق عنيد لمشروع التربية الفكرية، فالتطبع الثقافي والصتاعي يتمثل “دورهما في إضعاف القوى الفكرية في الإنسان، وإضعاف وجه استعمال الفكر في المصالح الإنسانية، فالأنظار الفكرية والأقيسة المنطقية  ليست معايير كلية لوزن الأفكار والأفعال، وإنما هي اجتهادات إنسانية مرتبطة بتاريخها وسياقاتها، ومن ثمّ فإن الفكر الذي يحوي داخله العلم ويكون جالبا للمصالح، دارئا للمفاسد، ومسافرا مع حركة العمارة المتبدّلة في طبائعها- هو الفكر المنشود حقا”[6]. لذا نجد في القرآن الكريم نظاما معرفيا تكاملي لرسم معالم التربية الفكرية والتقوية لملكات الإنسان العقلية والروحية والنفسية بين مصادر المعرفة وأدواتها، فإن القرآن الكريم يخاطب دوما الإنسان نحو إعمال ملكة السمع والبصر والفؤاد لاستكشاف عوالم الوجود المشهودة وإعمال الفؤاد الذي يعي المعرفة ويربط بين السمع والبصر في نسق تكاملي.

أما عن أمراض التفكير: فتوجد أشكال فكرية تعبر عن مرض التفكير مثل التفكير التجزيئي الذي يُعلم التجزئة والفصل بين المعارف ومن ثمّ العجز عن تنظيم المعرفة، وتفويت الفهم الصحيح لمنهج  التربية، وأيضا مرض التفكير الساكن الذي يكون مستبطا من الذات العارفة فقط ولايتعدّى جهدها إلى مكابدة حركة الإنسان في الواقع المعيش، ونجدأيضا من السلبيات الفكير : التفكير التقابلي وهو توجيه الوعي إلى المقابلة بالضد وهو “لا يفكر أو يكابد الفكرة، إنما ينفي من يفكر أمامه عن طريق رؤيته بالصورة المقلوبة، فإذا كان الآخر إثباتيا، فأنا يجب أن أكون نافيا وهكذا يُشوش التفكير التقاببلي على الوعي الكلي والتفكير المنفتح”[7].

 ويوجد أيضا التفكير الإنابي وهو التوهم بجاهزية الأفكار والإجابات عن أسئلة زماننا المعقّد، أي نلتجأ إلى شخصية مرجعية متخصصا أو فيلسوفا أنه هو من ينوب عنا في التفكير ويمدنا بمنهجية الإصلاح، فالتفكير الإنابي لايبحث ولا يجتهد إلا في الأفكار الجاهزة أو المنظومات الجاهزة  من غير تحريك الجهاد الفكري والإرادي.

وفي هذا الفصل من كتاب ” الاتصاف بالتفلسف .. التربية الفكرية ومسالك المنهج ” قدم لنا المؤلف سبل التغلب على هذه المعوقات الفكرية وذلك من خلال تقوية الوعي والوحي بتربية النفس وتعليم اليقظة والعزم، ويرى بأن علاج التطبع الثقافي والفكري هو التجارة الفكرية والحرارة الحوارية فتجارة الأفكار يؤدي إلى إضعاف النزعات الوثوقية وعدم التسامح، فالتوتر الثقافي والاختلافات الفكرية والمذهبية هي التي تغذي هذه التجارة الفكرية، أما الحرارة الحوارية أو الحرارة الثقافية التي تتحقق بالمناظرة بين الأشخاص للتبادل والحوار والإنفتاح على المعارف الجديدة لكي  لا يتبلّد الفكر  وقوى العقل.

أما عن موضوع الفصل الثاني فكان حول المنهج العلمي ومُكاشفة القول الفلسفي من مضمون الفلسفة إلى أدوات التفلسف، وهو طريق المفاتشة عن سؤال المنهج في بحث القول الفلسفي، فكان  فقه الفلسفة هو العلم بقوانين الصناعة الفلسفية للخروج من التبعية الفكرية.

من سمات هذه المنهجية نجد أولا : خاصية العلمية لفقه الفلسفة والآتية من العلمية اللسانية، وخاصية التكاملية لتحقيق التداخل بين العلوم والانفتاح على شعب المعرفة المنطقية واللغوية والاجتماعية والأدبية والتاريخية وذلك لتحرير الفكر العربي من الرؤية الإختزالية وهنا لاينطبق فقط على القول الفلسفي بل وأيضا  من أجل تحرير العلوم الإجتماعية من ظاهرة النقل والترجمة الحرفية سواء في علم النفس أو علم الاجتماع أو علم التاريخ، لإعادة الدور المنسي للمنهج الفلسفي، من تقنيات منهج فقه الفلسفة هي الترجمة “وإذا كانت مراتب الترجمة المعودة الترجمة التحصيلية  التي تقع في آفة الحرفية اللفظية، والترجمة التوصيلية التي تقع في آفة الحرفية المعنوية، والترجمة التأصيلية التي ترتفع بالترجمة إلى صورة تركيبية بين العقلي الكلي والخيالي /الإشاري.

ثانيا: المفهوم وهنا المتفلسف العربي لابد أن يتحرر من الجمود على المفهوم الفلسفي الآتي بطريق الترجمة من خلال تأثيل المفاهيم وذلك بالإستثمار في إمكانات لغته العربية وتحليل المفاهيم ومكاشفة عناصرها التركيبية وهنا دور الفيلسوف لابد إدخال المعاني الإيمانية في تفلسفه ليكون الإنيمان أساس رؤيتنا إلى العالم ويكون الإيمان مولّدا للمعاني ومحفزا للعقل كي يبدع المفاهيم.

ثالثا: التعريف من مبادئ منهج فقه الفلسفة لابد تطبيق قانون العبارة والإشارة في التعريف، فيكون التقرير هو جانبه العباري والتمثيل هو جانبه الإشاري ولتحقيق الإبداع في القول الفلسفي لابد إظهار قيمة “التعريف التمثيلي الذي يستمد أدواته من المجال التداولي الأصلي للمتفلسف العربي، فلابد- كي تنساب المفاهيم الفلسفية- من إحقاق الجمع بين جانب التمثيل وجانب التقرير في صوغ التعريف، ومستلزم هذا إسكان التمثيل بما يتوافق والمقتضيات التداولية، وصرف التمثيلات المقتبسة من مجالات التداول الأخرى، لأنها لا تؤدي الغرض ولا تأخذ باليد ولا تربط حبل الاشتراك مع المتلقي، يتعين إذن دور التمثيل في الاستعانة على تقرير المعاني الفلسفية وإمضاء نفوذها في الجمهور المتلقي”[8].

رابعا: الدليل، وهنا يكون الخطاب الفلسفي ليس بالدليل الاستنتاجي الخالص وإنما لابد إثراء الدليل بالتخييل في صورة أمثولات مثل قصة زرادشت نيتشه الذي قدم لنا القول الفلسفي في لوحة فنية جمعت بين الجانب الفكري والشعري من مجازات واستعارات ونجد هذا أيضا في الفلسفة الإسلامية حي بن يقظان لابن طفيل حيث تكامل الدليل والتخييل بأسلوب القصص الفلسفي، إذن حياة الدليل الفلسفي لا تثمر إلا بتداخل البنية الاستنتاجية بالبنية التخييلية.

خامسا: السيرة الفلسفية والتي تعنى بأفعال الفيلسوف لأن الفيلسوف لابد أن يجتهد ويكابد لتحقيق قيم فكرية وعملية ومنهج فقه الفلسفة هنا يترجم الفعل إلى شكلين عباري مشترك يعكس القيم العالمية والشكل الثاني إشاري  يختلف باختلاف مجالات التداول فالأول يوصف بالنموذجية والثاني هي الشذوذية،فالشذوذية الإيجابية هي التي تُحي وترسخ قيم الصدق والعمل والعلم والشذوذية السلبية هي التي تميت هذه القيم أة تضرّ بها في هذا المجال.

الباب الثاني : تخليق النفس وتفعيل الأفكار: من عالم المعنى إلى عالم الواق ويتضمن فيه الفصل الثالث: بين التعقُّل والتخلّق كيف الطريق إلى الارتياض بمكارم الأخلاق.ففي هذا الفصل يشخص الكاتب أمراض العصر وحال الإنسان المعاصر الذي تشرّب القيم النهائية لثقافة مابعد الأخلاق خاصة قيمتي التمتع والنرجسية إذ أصبح الإنسان يميل إلى المشتهيات والثقافة الإستهلاكية إلى أن استولت على مٌلكه الأهواء وغلبه الطبع الإنساني المائل لتتسيد صفة حب الترأس وحب التسيّد على القوى الروحية في الإنسان، لذا لابد من رسم منهج والبحث عن الطرق التي تعيد الإنسان المعاصر للإرتياض بمكارم الأخلاق تلك المكارم التي غفل عنها الإنسان المعاصر وهجرها بحجة أنها إلزامية ومؤلمة وضيقة، إذن حري بنا أن يكون الطريق الأول لتقوية النفس بالعلوم العقلية وذلك باستثمار الموروث الأخلاقي لعمارة الباطن والظاهر “فإن التعلم بتقوية العلوم العقلية عن طريق الاستناد إلى علوم الأخلاق والسياسات هو المسلك الآمن نحو هذا المبتغى، بقول أبي حامد الغزالي إظهارا لهذه لحقيقة وليس التعلم إلا رجوع النفس إلى جوهرها وإخراج ما في ضميرها  إلى الفعل، طلبا لتكميل ذاتها، ونيل سعادتها”[9].

و نموذج الإتصاف من هذا الميراث الأخلاقي نجد معالم الفقه الروحي الأكبري لابن عربي لأخذ البنى الأخلاقية الكامنة في مشروعه حيث كاشف حدود الفكر وبأن تكون البواعث النفسية (الغضبية والشهوانية مسخّرة في يد القوة العاقلة التمييزية، ونظر إلى الفكر بمعيار العقل أو النور الأضوى الذي يُشرق من مكابدة الأعمال وتجرّع آلام المجاهدة الخُلقية كي تصفوا النفس وتتطهر من رذائلها، هكذا يكون العقل منفتحا ومتقلبا لأنه يقوم على مبدأ الحركة والفاعلية،”فالعقل فاعلية متواصلة ومتقلبة ومتصالبة مع العمل والأحوال الوجدانية، ومن ثم، فحركة العقل وقوته وتواصله مشروط بالعمل الروحي الوجداني الذي يجدّد جمود العقل ويحرّر الفكر من إنتاجاته المعرفية، التي متى رجعت إلى قوة العق كانت كالحُمم البركانية في حالىة غليانها، أما إذا توقفت عند معارفها وركنت إلى الفكر وحده بردت وتصلّبت”[10]

والباب الأول لاتباع مسالك التكامل بين التعقل والتخلق هو الرياضة كما صاغه ابن عربي لتحقيق رسالة التخلق ولتحرير الروح ولتوريث الفيوضات العلمية، فالرياضة هي تذليل النفس وإلحاقها بالعبودية وتهذيب الأخلاق والتدرّب والتعمّل للعادات المحمودة، ليكون التكامل بين السياسة العقلية والسياسة الأخلاقية، ويؤكد الكاتب على أهمية وضرورة تفعيل هذا الميراث الأخلاقي النابض بالحياة في المؤسسات التربوية وفي ثقافة الإنسان المعاصر ويقول في هذا”لابد تحرير التربية الحديثة من ثقافة الفكر، لأن الفكر تحته شهوة وفوقه العقل المؤيد بالجوهر الروحاني، وبما أن السائد هو فكر تربوي منجذب نحو الغرائز ومنحصر في التدريب على إتقان مهنة للممارسة، فإنه حقيق بنا أن نعيد وصل الفكر التربوي بالخطاب الروحي،أو التأصيل الروحي للتربية، كي يقوى الإنسان على التحرر من الغفلة  ويوقظ كافة إمكاناته الفكرية والروحية والنفسية، ويستطيع أن تكون هذه الصورة الجديدة من التربية الأداة الأقوى في سياق التصدي للتعليم العولمي الذي اختزل المعرفة في المعلومة، والمعلومة في الإعلان والتسويق وأصبحت الجامعات مجرد أدوات لإجراء البحوث للشركات التجارية[11]

في الفصل الرابع: شروط فعالية الأفكار في ظل التحديات الراهنة من منطق الصحّة إلى منطق الصلاحية. وهنا يكون البحث عن الأدوات التي يُمكن بها تحويل منظومة الأفكار من منطقالصحة إلى منطق الصلاحية واستخراج الشروط التي تتحقق بها الفعالية لإتمام الفعل، وإعادة أفكار جديدة في وعي الإنسان اليوم وشحذ طاقته الروحية لكي ينقلها إلى الوجود الإجتماعي، فعالية الأفكار تعني وجود حركة للإنسان في التاريخ، وإن عطالة الأفكار تعني وجود وركود للإنسان في التاريخ، أما بالنسبة لمنطق الصحة ومنطق الصلاحية “فالفعل الصالح هنا من منظور مالك بن نبي هو الفعل الأصيل، الفعل الحاضر في الزمن، المتجسد في الصيغة الحضارية، إنه الفعل النوعي الذي لا يعود فيه الزمن إلا وهو  يحمل جديدا أصيلا بالفعل، وهذا الفعل هو بلغة الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت- انكشاف للذات أمام الآخرين- إنه نوع من الولادة الثانية[12]، والشرط الأخلق التي تأخذ المسلم من وجوده في ثقافة الصحة إلى وجوده في ثقافة الصلاحية نجد الفكرة الدينية هي نقطة الإنطلاق والرؤية التي تعرج إلى السماء باحثة عن الحقيقة، هكذا ألحّ مالك بن نبي على أهمية الفكرة المقدسة بوصفها منطلقا لتفعيل الأفكار فهي الرؤية الكلية الصحيحة التي تنبثق منها الطاقة الحافزة للإنسان،”إن هذه الرؤية هي الجذور والتربة والمنبع الذي يُمثل القوة العقدية التي تحدد طبيعة القوة الوجدانية المحركة للإنسان وللمجتمع، والتي تحدد توجهاتهم وفعاليتهم[13]

أما عن تفعيل هذه الفكرة الدينية أو الإجابة عن السؤال كيف يمكن لهذه الفكرة الدينية أن تُحدث التوتر الروحي في الإنسان؟ فقد بيّن مالك بن نبي الكيفية التي يجب أن يعيش بها الإنسان مع دوافعه، دافع التملّك ودافع التغذّي ودافع التناسل، وذلك أن التوتر الأخلاقي الذي يؤتي الإنسان هزّة القلب بوصفه المرحلة الأولى من مراحل الحضارة لا يقوى على تحقيقه إلا الفكرة الدينية  لأنها هي التي تكيّف الطاقة الحيوية تبعا لما تتطلبه الفكرة الدينية، أي إيجاد التوازن بين متطلبات الطاقة الحيوية في دوافعها التناسلية والغذائية والتملكية، والشرط الثاني لبناء الإنسان المتكامل هو القيام بالواجب عوضا عن كثرة المطالبة بالحقوق، ومفهوم ثقافة الواجبات هنا ليس مقطوعا عن أصوله الأخلاقية، بل الواجب يُحيل إلى القوة الروحية والصبر على إنجاز القيم واقتحام العقبة والمبادة بالفعل.

  الفصل الخامس: من إصلاح العقل إلى تجديد الوجدان، يرى  الكاتب أن عمق الأزمة في مناهج التفكير ليس العقل والفكر بل الإرادة والوجدان لذا ضرورة الاعتراف بقيمة الوجدان والوعي الروحي والأخلاقي في فعل الإصلاح،”يعني أن تنطلق الجهود الإصلاحية من باطن الإنسان وليس من خارجه، بأن تعمل على إيقاظ دوافعه الباطنية أو إحداث تغير في نفسه من الداخل بمنهجية عملية وبرامج تدريبية أخلاقية تكون غايتها الأخيرة إحياء القلب وتكوين البصيرة الأخلاقية التي ترتفع بالرؤية من رتبتها الحسية المشتركة إلى رتبتها العقلية المتوحدة، ومن الفعل العبثي إلى الفعل الحكمي[14]،

إذن الفاعلية العقلية مصدرها الفاعلية القلبية، ولوحظ أن منظور الوجدان والإرادة هو البعد الغائب في مشاريع الإصلاح الإسلامية، وفتور الطاقة وخمود الفعالية الحضارية  مرده إلى ضعف الوجدان الأخلاقي وقوة الدافعة النفسية، لذا فلا إمكانية للإصلاح مالم يتم الوصل بين المعرفي ولوجداني، فالمعرفة ومناهج التفكير لا تفكر منقطعة عن الجوانب النفسية والوجدانية، وباب الإصلاح لابد أن يرتسم  بعلاج أخلاقي فدواء هذه الأمراض النفسية والفكرية يكون بإحياء قلب هذا الإنسان الميت بعدما سلبته الثقافة الإستهلاكية وأصبح يفكر في حاجاته الفردية والشخصية، ويكون هذا الإحياء بالعمل التزكوي الذي يحرر الإنسان من موته النفسي لينطلق نحو حرية الحياة الروحية، والتخلق بالأسماء الحسنى لأن القيم الأخلاقية مأخوذة من الأسماء الحسنى.

  الباب الثاث: النماذج الأخلاقية وتحدي الأزمات الاجتماعية والثقافية: وهنا يبين لنا الكاتب عبد الرزاق بلعقروز إنتقالات وتحولات النماذج الأخلاقية ومكاشفة حدودها والطابع النماذجي لفرضياتها وسياقية تنظيراتها (التسامح والتواصل، الاعتراف) فنجد مقولة التسامح ومقولة العدل ومقولة التواصل ومقولة الإعتراف وهي مقولات متتالية وكأن العقل هنا في وضعه لقيم تدبير الاختلاف الديني والثقافي شبيه بحركة النموذج المعرفي في ثوراته وانقلاباته لأجل تشخيص أمراض الحضارة الإجتماعية وعلاج الصدامات الثقافية وتحرير الحياة الإجتماعية من الأنساق، وبعد تحليل ونقد هذه المفاهيم وكذا الإبانة عن بعدها الأحادي في تقديم الحلول فكان البحث عن “النموذج الأقوم الذي يمكّن العقل من إصلاح مظاهر فساد التعارف، فاستنبأنا عن حدود أنموذج التسامح لتلازم نشأته مع النزاعات السياسية وصراع التأويلات الدينية،…كما أن أنموذج التواصل الذي استغرقته الافتراضات اللغوية لأجل إنجاح التفاهم، وانبناء نظامه الأخلاقي على القيم التداولية ..قد دفعت بالعقل كي يصحّح هذا المسار، ويغيّر طريقه من التشريع للفعل التواصلي إلى ظاهرة التدافع من أجل الإعتراف متوسلا في ذلك بأشكال الاعتراف: الحب والقانون والتضامن، إلا أن فلسف الاعتراف قد انغرست غائرة في الفهم الثقافي الخالص في صيغة سيكولوجية  أكثر منها واقعية “[15]، وفي النموذج الأخير نجد قيمة التعارف الذي يذكّر بقيمة المشترك المنسي أي المشترك الروحي الذي يلائم حاجات الإنسان المعاصرة، وفي مقدمتها الحاجة إلى الإنتساب بمعاني إيمانية للحياة، لذا ضرورة تعليم مقومات ودعائم التعارف وتعليم التعارف التكاملي في العمران.

   الفصل السابع: النظام الأخلاقي وروح النهوض كيف الانعتاق من ثقافة مابعد الأخلاق. يشير الكاتب في هذا الفصل إلى مفهوم ثقافة مابعد الأخلاق ليدلل على أن الأزمة أخلاقية التي تمر بها الإنسانية من سماتها فقدان المعنى وتخدّر الوازع الأخلاقي أين تتحلل فيها الذات الإنسانية  وتستحوذ فيها الغريزة من جديد والتفنن في الملذات والشهوات ونسيان الدوافع الأولى للحركة والإبداع وتمنع الروح الأخلاقية من التنفس والانطلاق، أي مابعد الأخلاق لغة تخالف اللغة الأخلاقية، وكفّ عن الإصغاء إلى أوامر القيمة، وتقدم الإغراء عل الالتزام، فأعمدة هذه الثقافة هي جودة الحياة والرفاهية والنرجسية، بل المتعية والنرجسية هما القيمتان النهائيتان في ثقافة مابعد الأخلاق، أما الحديث عن العلاج لهذه الأزمة يمكن الإقرار هنا بالقومة الثقافية وهي عمل ونهوض مسنود بقوام منظومة قيم هادية وسامية التي تسجل حضورها في ساحة الشعور والفعل، لإعادة التحكم في الغرائز المكبوتة مايعرف في الموروث الأخلاقي العربي بتهذيب الأخلاق بأن تكون القوة الغضبية والقوة الشهوانية أداتين في مطالب القوة العاقلة، كذلك لابد رد الإعتبار إلى الذكاء في مجال الأخلاق أو مايسمى بالأخلاق الذكية والمطبقة وهي ليست مواعظ مثالية روحية مفصولة عن الواقع والحياة بجعل المنافع الشخصية معتدلة والبحث عن توافقات معقولة، ثانيا ضرورة التربية الإجتماعية لرفع تحدي هيمنة الفضاء الخصوصي وذلك بصرف السعي إلى طرق استعادة الدور النفسي والاجتماعي للدين لأنه الوسيلة لتكامل المجتمع فالدين يقوم بدور المركب للقيم الإجتماعية وإيقاظ الحاسة الخلقية الاجتماعية.

ضميمة: الرؤى اليونانية إلى العالم ومنزلة الإنسان. وهنا أراد الدكتور بلعقروز تبيان حتمية الرؤية إلى العالم  في علاقة الكائن بالوجود، وأن من سمات الأنساق الفلسفية اليونانية أنها أنساق مسافرة بمعقولاتها، فاليونان أصبحت لدى شطر واسع من المفكرين المعاصرين في الفكر الغربي منبعا للتفلسف، ومعيارا للتخلق، وحكما ذوقيا جماليا، لذا فالفكر الأوروبي  الحديث والمعاصر نجده قد فتح باب التلاقح المتجدد مع الفكر اليوناني.

خاتمة روح الفلسفة الإجتماعية: يختتم الكاتب بجملة من الآفاق المنهجية لأفكار كتاب ” الاتصاف بالتفلسف .. التربية الفكرية ومسالك المنهج”، نجد أن مفتاح الإصلاح لطرائق التفكير هو تعليم الإجتهاد الفكري ودمج المعاني الفكرية مع حركة الواقع، وإعادة بناء منهج في التربية الفكرية تكون الأنفاس الروحية فيه هي المعاني الحافزة والرافعة ويكون ذلك بتعليم الأخلاق الروحية والمران على طرائق التفكير الإبداعي، وأيضا ضرورة تخليق النفس وتفعيل الأفكار ويكون ذلك بالإرتياض بمكارم الأخلاق وتكامل بين الفكرة والعمل وتداخل بين الأخلاق والتربية والفلسفة الإجتماعية وفلسفة الدين، لقيادة العقل نحو تربية فكرية إيجابية لتحرير النفس من أمراض التفكير السلبية ليكون سؤال الفلسفة الإجتماعية نحو إصلاح النفس وحمل الذات على الفعل وبناء النسيج الإجتماعي الممزق.