في الأجزاء الثلاثة السابقة من هذه السلسلة، قمنا بترتيب “بيتنا الداخلي”؛ تحدثنا عن أزمة الهوية، وهندسة المعرفة، وبناء الدبلوماسي المحترف. الآن، وقد أصبحنا جاهزين، حان الوقت لنفتح الباب ونواجه العالم الخارجي.
ولكن، بمجرد أن نخرج، سنصطدم بجدار إسمنتي ضخم كُتب عليه عبارة واحدة مرعبة: “مكافحة تمويل الإرهاب“.
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تحول هذا المصطلح من إجراء أمني ضروري، إلى “سيف مسلط” على رقاب المؤسسات الخيرية الإسلامية. لقد أصبحنا نعمل في حقل ألغام؛ تحويلة مالية بسيطة لكفالة أيتام في اليمن أو سوريا قد تؤدي إلى تجميد أرصدة، إغلاق حسابات، وربما وضع مؤسسة كبرى على القوائم السوداء تحت ذريعة تمويل الإرهاب.
فخ “التقليل من المخاطر” (De-risking)
هذا الرعب خلق ظاهرة خطيرة تسمى “التقليل من المخاطر” (De-risking). البنوك العالمية، خوفاً من الغرامات الأمريكية، لم تعد تكلف نفسها عناء التدقيق؛ الأسلم لها هو أن تقول “لا” لأي تحويل خيري قادم من منطقتنا باتجاه مناطق النزاع.
النتيجة؟ شلل تام. المساعدات تتكدس، والمستفيدون يموتون جوعاً، ونحن نقف مكتوفي الأيدي، ندافع عن براءتنا بلهجة اعتذارية.

هل سنظل في قفص الاتهام إلى الأبد؟ الجواب هو: لا. ولكن الخروج يتطلب تغيير قواعد اللعبة تماماً. بدلاً من التعامل مع الامتثال القانوني كـ “عبء دفاعي”، يجب أن نحوله إلى “سلاح هجومي“.
الهجوم خير وسيلة للدفاع: استراتيجية “المعيار الذهبي”
تخيلوا السيناريو التالي: بدلاً من أن ننتظر البنوك الغربية لتشكك فينا، نقوم نحن بتبني أحدث تقنيات التتبع المالي في العالم، مثل “البلوك تشين” (Blockchain). نبني أنظمة تتبع للريال والدولار من لحظة خروجه من حساب المتبرع حتى وصوله ليد المستفيد، بدقة وشفافية تتفوق حتى على معايير البنوك الغربية نفسها.
حينها، نخلق ما يمكن تسميته “المعيار الذهبي” في الشفافية. حينها، نذهب للمحافل الدولية ليس لنطلب الرحمة، بل لنقول: “نظامنا أكثر أماناً من نظامكم”. هذا التحول التقني يجب أن يوازيه تحرك قانوني شرس. لا بد من بناء فرق قانونية دولية متخصصة، مهمتها ليست فقط الدفاع، بل “الطعن” في القرارات المصرفية التعسفية، والمطالبة بإنشاء “قنوات مالية آمنة” (Safe Payment Channels) محمية دولياً للعمل الإنساني.
هكذا تتحول “الشفافية” من قيد يكبّلنا، إلى درع يحمينا ومنصة نزايد بها أخلاقياً وتقنياً على العالم.
الخروج من العباءة الغربية: التوجه نحو “الجنوب”
المحور الثاني في هذه المناورة هو كسر احتكار الشمال. لقد أدمنّا النظر جهة الغرب (واشنطن، لندن، جنيف) للحصول على الشرعية. سواء في ملفات مكافحة تمويل الإرهاب أو ملفات الامتثال المالية. ولكن العالم يتغير، وثقل القوة ينتقل تدريجياً.
لماذا نصر على طرق أبواب قد لا تفتح، ونتجاهل أبواباً مشرعة في “الجنوب العالمي”؟ دول مثل تركيا، ماليزيا، البرازيل، وجنوب أفريقيا تشاركنا الكثير من القيم والتحديات، وتمتلك نفوذاً دبلوماسياً متصاعداً.

علينا أن نتعلم من “النموذج التركي” (TIKA) الذي دمج بذكاء بين المساعدات المادية وترميم التراث الثقافي ليعيد ربط أحشاء التاريخ بالجغرافيا. وعلينا أن ندرس “النموذج الماليزي” الذي لم يقدم المال، بل قدم “الخبرة والمعرفة” كشريك تنموي.
بناء تحالفات استراتيجية مع هذه القوى الصاعدة سيخلق توازناً في الساحة الدولية. حين نتحدث ككتلة إنسانية تمثل الجنوب، سيكون صوتنا مسموعاً أكثر مما لو تحدثنا كمنظمات فردية تستجدي الرضا الغربي.
الخاتمة: من مقعد الممول إلى طاولة الشريك
رحلتنا عبر هذه المقالات السابقة لم تكن مجرد تمرين فكري. إنها دعوة ملحة لـ “ثورة مفاهيمية” في قطاعنا الخيري. لقد بدأنا بالاعتراف بأننا “أبقار حلوب” في نظر النظام الدولي، ومررنا بضرورة تجاوز “العمل الفسيفسائي” إلى هندسة النظم، ثم أكدنا أن “الاستثمار في العقول” أهم من الاستثمار في الحجر، ووصلنا أخيراً إلى ضرورة الاشتباك بذكاء مع ملفات الإرهاب والتحالفات الجيوسياسية.

إن خارطة الطريق واضحة:
- هوية واضحة (فقه مقاصدي عالمي).
- بنية تحتية صلبة (بيانات، حوكمة، أوقاف معرفية).
- كوادر محترفة (دبلوماسيون إنسانيون).
- تحالفات ذكية (التوجه جنوباً وتقنية الامتثال).
هذه النقلة ليست سهلة، ومحفوفة بالمخاطر. ولكن الخيار البديل هو أن نبقى مجرد “دفتر شيكات” مفتوح للأزمات، نمول عالماً لا نساهم في تشكيله، وندفع تكاليف حروب لم نشعلها، ونضمد جراحاً كان يمكن منعها لو كنا جالسين على الطاولة.. لا مجرد ممولين من بعيد.
المستقبل لا يُبنى بالنوايا الطيبة وحدها، بل يُبنى بالنفوذ، والحكمة، والعمل الاستراتيجي. والكرة الآن في ملعبنا.
