القرآن الكريم ليس كتابًا نقرؤه لأخذ البركة وتحصيل الأجر فحسب؛ وإنما هو كتاب رسالة ومنهج، وكتاب هداية وتشريع وتوجيه. نحن بحاجة لتدبره، واستيعاب معانيه، والتزود من أنواره، حاجةً تستمر على مدى الزمان واختلاف المكان. وفي هذا المقال نشير إلى ثمانية أمور تجيب على سؤال: لماذا نحن بحاجة إلى القرآن الكريم؟

فالقرآن الكريم هو الوحي الخاتم الذي رضيه الله تعالى للناس جميعًا حتى تقوم الساعة.. وهو الكتاب الذي يبين رسالة الإسلام ويوضح أهدافها وغاياتها وتوجيهاتها، والسنة النبوية جاءت لتشرح ذلك وتفصِّله.. وهو الرسالة السماوية التي تكفَّل الله بحفظها ولم يترك أمر ذلك للبشر.. وهو النور الذي جاء به النور محمد بن عبد الله، ويهدينا إلى طريق النور.. وهو الكتاب المعجز الذي تحدَّى الله به العرب أن يأتوا بمثله أو بمثل بعض سوره وآياته.. وهو الكتاب الذي بتلاوته نُعطَى الحسنات والأجر المضاعف، وبالعمل به نَسعد في الدنيا والآخرة.. وهو الكتاب الذي أنزله الله وجعله مباركًا، ودلَّنا به على الصراط المستقيم..

فالقرآن الكريم كتاب الزمان والمكان.. وكتاب النفس والمجتمع.. وكتاب الفرد والأمة.. وكتاب التزكية والمعرفة.. وكتاب الاعتقاد والسلوك.. وكتاب التوجيه والتشريع.. وكتاب الأخلاق والقانون.. وكتاب السلم والحرب.

1- كتاب منزَّل

أهم نقطة يمكن أن نبدأ بها، في بيان حاجتنا إلى القرآن الكريم، أنه كتاب مُنزَّل من عند الله تعالى.. لم يأت به الرسول من عند نفسه، ولم يجمعه من أساطير الأولين، ولا ألَّفه من قرائح العقول.

ولهذا يستخدم القرآن الأفعال: (نَزَل)، (أُنزِل)، (أَنزلنا)؛ للدالة على أن مصدر القرآن هو من عند الله تعالى.. فهو منزَّل من عنده، لم يخترعه بشر.. قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1 – 2). وقال: { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم : 1). وقال أيضًا: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه : 113).

2- كتاب هداية

نعم.. الهداية من أبرز خصائص القرآن.. فهو هداية للنفس وتزكيتها.. وهداية للمجتمع والترقي به.. وهداية للإنسانية وإشاعة السلم والتعارف بين أبنائها.. قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2)، {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:138)، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185)، {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:52).

فالهداية خصيصة بارزة من خصائص هذا الكتاب العزيز.. حتى إن من لا يفهمون لغته، حين يستمعون له، تسري إلى أفئدتهم أشعةٌ من أنوار هدايته؛ فتنجذب له قلوبُهم، ويأسر عقولَهم!

3- كتاب محفوظ

لقد تكفَّل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم؛ فلا يمكن تحريفه ولا تبديله، مهما صغر هذا التحريف، بحرف أو بكلمة. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر : 9)، وقال أيضًا: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت : 41 -42 ).

وهذا بخلاف كتب الأمم السابقة فقد أوكل الله لهم حفظها، فلم يحفظوها.. وحدث فيها تغيير أخرجها عن أصولها الربانية الصحيحة..

وها نحن نرى الأمة الإسلامية على امتدادها (الزماني) العريض، و(المكاني) الكبير، تتداول هذا الكتاب الكريم وتتوارثه جيلاً بعد جيل دون أي تغيير في سوره أو آياته أو كلماته أو حروفه.. منذ أن أُنزل على قلب النبي ، وحتى قيام الساعة..

4- كتاب معجز

القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي .. فرغم كثرة المعجزات، مثل انشقاق القمر، ونَبْع الماء من بين أصابعه الشريفة.. فإن القرآن هو المعجزة الكبرى للإسلام ولنبي الإسلام..

به تحدى الله العرب أن يأتوا بمثله.. أو بعشر سور مثله.. أو بسورة منه مهما قصرت مثل سورة الكوثر. قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (يونس 38 – 39).

فَعَجَز العرب عن كل ذلك.. وإذا عجز العرب، وهم أهل البيان والفصاحة فغيرهم أعجز!!

5- كتاب خاتم

فإذا كان النبي محمد صلى عليه وسلم هو النبي الخاتم، فلا نبي بعده.. فإن رسالته أي شريعة الإسلام، هي الرسالة الخاتمة فلا شريعة بعدها.. وكتابه أي القرآن، هو الكتاب الخاتم فلا كتاب بعده. قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب : 40).

لقد كمل الأمرُ وتمَّ بمجيء النبي الخاتم، والرسالة الخاتمة، وبنزول الكتاب المهمِين على ما سبقه، الخاتم لما بعده؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة:48).

6- كتاب مبين

قال تعالى عن هذا الكتاب العزيز: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} (النمل :1)، وقال أيضًا: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّن الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15 -16).. كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل : 89) .

فالقرآن الكريم يبين للناس ما يحتاجون معرفته من أمر الدين؛ إما نصًّا أو مجمَلاً أو دلالة. ففيه بيان العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات. وفي بعض هذه المجالات- مما هو ثابت لا يتغير- فصَّل القرآن وأوضح؛ وأما المجالات التي تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال- مثل كثير من المعاملات- فقد اكتفى القرآن بالإشارة إلى أصولها ومعالمها ومقاصدها، حتى لا يقع الناس في الحرج والمشقة.

وهذا البيان الشامل للقرآن الكريم، يقوم على النقطة السابقة؛ وهي أنه “كتاب خاتم”.. ولهذا، جعل الله تعالى في القرآن ما يلزم لهداية الناس وصلاحهم إلى قيام الساعة.. لأنه لا كتاب بعده سيأتي لهدايتهم إذا انحرفوا عن الصراط المستقيم.

7- كتاب يحض على العقل

القرآن الكريم يدعو في كثير من آياته إلى إعمال العقل، ورَفْضِ التقليد.. وعبّر عن ذلك بأفعال كثير؛ منها التدبر، التفكر، التعقل، النظر.. وسواء في ذلك، التدبر في (الكتاب المسطور): أي القرآن.. أو (الكتاب المنظور): أي الكون.

 قال تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (محمد:24 ).

 قال تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل :11)

 قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الروم :24)

 قال تعالى: {قُلْ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس :101).

فالإسلام لا يقول لأتباعه: ألغِ عقلك واتبعني، وإنما: أَعْمِلْ عقلك واتبعني! و{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (البقرة :111)، و{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ :46).

8- كتاب ينتصر للعلم

نعم بلا شك.. فالقرآن الكريم يدعو للعلم، ويحث عليه، ويجعل للعلماء مكانة كبرى من حيث معرفة الله تعالى وخشيته..

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر : 9)، وقال: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة :11).

والقرآن لا يفرق في ذلك بين ما نسميه (العلم الشرعي) أي المتصل بعلم الدين من العقيدة والفقه والتفسير وغير ذلك.. وما نسميه (العلم الدنيوي)، أي المتصل بالكون والنفس وبالحياة..

وقد جاءت الإشارة إلى بيان صلة العلم بالخشية من الله، في أعقاب آيات تتحدث عن ظواهر الكون وخلق السماوات والأرض.. في النبات والجبال والناس والدواب والأنعام؛ فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر : 27 ).

من واجبنا

إذن القرآن الكريم هو كتاب الإسلام ورسالته.. وهو الوحي الخاتم فلا وحي بعده، والرسالة المحفوظة، فلا تحريف فيها.. وهو الكتاب المعجز الذي تحدى الله به العرب.. ومن باب أولى غير العرب.. وعجز الناسُ في هذا التحدي على مدى الأزمان.. وسيفشلون: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء : 88).

وهذا يجعلنا نتمسك بالقرآن الكريم ونعرف قدره.. ويجعلنا نحب تلاوته ونكثر منها.. ونحرص على تدبر آياته والتفكر فيها.. ونعمل على تحويل آياته إلى سلوك عملي في حياتنا، أفرادًا ومجتمعات..

القرآن الكريم حُجة لنا أو علينا.. وهو الهُدى والنور لنا، في الدنيا والآخرة.