قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } (سورة القدر : 1). خصّ الله ليلة القدر بسورة، ذكرت فضلها ومكانتها وعظمتها، بعد أن ذكرها البيان الإلهي في مطلع سورة الدخان بقوله عز وجل {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} [الدخان: 3] فوصفها بالمباركة، إذ اكتسبت بركتها من بركة القرآن الكريم الذي أنزل فيها، ووصفه المولى بالمبارك في قوله تعالى : { كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ مُبَـٰرَكࣱ لِّیَدَّبَّرُوۤا۟ ءَایَـٰتِهِۦ وَلِیَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ }[سُورَةُ صٓ: 29]
إذ كان سياق مطلع سورة الدخان سياق تعظيم للقرآن ابتداء، فناسب وصفها بالمباركة في هذا المقام، إذ قال تعالى :{حمۤ * وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡمُبِینِ * إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةࣲ مُّبَـٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِینَ * فِیهَا یُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِیمٍ }.
فذكرها مرتين، مرة بذكر بركتها من بركة التنزيل، وذلك في مطلع سورة الدخان، ومرة أخرى ذكر فضلها على وجه التفصيل في سورة القدر.
المناسبة والاتصال
من إعجاز القرآن ترتيبه المصحفي بعد الترتيب النزولي البديع على هذا النحو من التوقيف الإلهي، وهذا مظهر إعجازي لافت للعقول والأفهام على نحو دقيق عجيب!
فإن سورة القدر ترتيبها النزولي هي الخامسة والعشرون، وسورة العلق قبلها في الترتيب المصحفي هي الأولى تنزيلا، والبينة التي بعدها في الترتيب المصحفي، ترتيبها المئة في التنزيل، ووردت هذه السور الثلاث متتابعات في الترتيب المصحفي، مع تباعد زمن النزول بينها، إلا أنك تجد الاتصال والتناسب الفريد في ترتيبها المصحفي العجيب!
ولا يوجد هذا مطلقا في البيان البشري كله؛ مهما ارتقى أربابه وفرسانه في البيان، فإنك لو جمعت قصائد شاعر فحل كامرئ القيس، وحاولت أن ترتبها في ديوانه، ترتيبا فيه مناسبة واتصال في المطالع والختام، والتناسب الموضوعي، لا تستطيع البتة، ولم يستطع أحد من النقاد القيام بذلك في دراسة بيانية؛ لأن هذه القصائد قيلت في مقامات مختلفة، في الزمان والمكان والأحداث، والبيان الإنساني يصعد ويهبط، ويلمع ويخفت، حسب تغيرات النفس وطبائعها.
وهذا ما لا تجده في البيان القرآني، بل تجده على أعلى نسق تعبيري، وخط بياني واحد لا يتذبذب أو يهبط، وتجد التناسب بين آياته وسوره -مع تباعد نزولها- في ترتيبها المصحفي البديع!
فمطلع سورة القدر { إنا أنزلناه في ليلة القدر } تناسب مع مطلع سورة العلق، إذ افتتحت سورة العلق بقوله تعالى: ” {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ}.
والمأمور بقراءته هو المنزل في ليلة القدر وهو القرآن العظيم في قوله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } واختتمت سورة العلق بقوله تعالى : {وَٱسۡجُدۡ وَٱقۡتَرِب } أمرا بالسجود والاقتراب، وهذه الليلة ليلة القدر؛ هي ليلة السجود والاقتراب إلى الله بالذكر والطاعات، ذات القدر والشرف العظيم، فناسب المطلع والختام مطلع سورة القدر باتصال وإحكام.
واختتمت سورة القدر بقوله تعالى: {سَلَـٰمٌ هِیَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ} وافتتحت سورة البيّنة بقوله تعالى: {لَمۡ یَكُنِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ مُنفَكِّینَ حَتَّىٰ تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡبَیِّنَة} فأخبر المولى عز وجل بأن الذين كفروا لا ينفكون عن كفرهم؛ حتى تأتيهم بيّنة واضحة تدعوهم لترك ما هم فيه من كفر وضلال، فكان القرآن الذي أنزله الله ليلة القدر، الذي هو مطلع الفجر للبشرية في بينته وبرهانه، ووضوحه وقوة حجته، بإخراجهم من الظلام إلى النور، وهو سلام للبشرية ما ٱمنت به وتمسكت، فحصل التناسب والاتصال؛ على ما بينهما من تباعد في ترتيب النزول، ذلك شاهد من شواهد الإعجاز في التنزيل.
براعة الاستهلال
ونجد سورة القدر افتتحت بقوله تعالى: إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ بإنّ المؤكدة والجملة الفعلية، وهذا من براعة الاستهلال الذي استهلت بهذا الأسلوب أربع سور في القرآن الكريم على هذا النحو البديع.
هذه السورة {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةِ ٱلۡقَدۡر}
وقوله تعالى: {إِنَّاۤ أَعۡطَیۡنَـٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ}
وقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحࣰا مُّبِینࣰا}
وقوله تعالى: {إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِ}
والخيط الناظم لهذه المطالع في الاستهلال؛ أن هذه السور هي سور العطاءات الربانية، والقرآن كله عطاءات، وإنما جاءت المطالع في انسجام افتتاحها بهذه العطاءات، وبهذا الأسلوب البياني من إنّ المؤكدة والفعل.
فإرسال الرسل من عطاءات الله؛ لهداية البشرية التي بدأت بأول الرسل نوح عليه السلام وانتهت بخاتم الرسل ﷺ، الذي خصه الله بإعطائه الكوثر العظيم، والفتح المبين وإنزاله عليه الذكر المبين، في ليلة ذات الشرف والقدر العظيم.
ووردت “إنّا” المؤكدة متصلة بنون الجمع على سبيل التفخيم والتعظيم، وفيها دلالة الاختصاص بإنزاله سبحانه دون غيره هذا التنزيل، وذكر ضمير الغيبة دون سابق ذكر للمنزل”أَنزَلۡنَـٰهُ” ؛ لنباهة ذكره وشهرته وعلو قدره ومكانته، فلا حاجة للتصريح به.
النزول والإنزال والتنزيل
وقد وردت ثلاثة أفعال في النظم القرآني في سياق ذكر القرآن، وهو نزل ونزّل وأنزل، فذكر الفعل ” نزَل ” في مقامين، مرة مسندا إلى القرآن فقال: { وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَـٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا مُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا } [سورة الإِسۡرَاءِ: 105]
فالله أنزل القرآن إبتداء؛ لمقصد حق ولغاية عظيمة، ونزل القرآن متضمنا الحق في مضامينه وأحكامه. وأسنده أخرى إلى من نزل بالوحي وهو جبريل فقال سبحانه: {نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ * عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ * بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ } [سورة الشعراء: 193-195]
فوصفه بالروح الأمين، وذلك أنه أمين في نزوله بالقرآن دون تغيير فيه، وأنّه روح نزل بالروح ليحيي الروح.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [سورة الشورى: 52]
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [سورة الأنعام: 122]
ثم عُدّي فعل النزول بالتضعيف فجاء ” نزّلَ” للدلالة على تنزيله متدرجا حسب الوقائع والأحداث، مسندا تارة لله عزوجل، وتارة بواسطة الوحي جبريل، فقال تعالى: {وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا} [سورة الإسراء: 106]
وقال تعالى : {قُلۡ مَن كَانَ عَدُوࣰّا لِّجِبۡرِیلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللهِ} [البقرة: 97] وعندما أسنده إلى واسطة الوحي جبريل قيده بحال تنزيله بإذن الله، كما وصفه في الموضع الآخر بالأمين، فهو مبلغ للوحي بإذن الله وأمين عليه.
وعُدّي فعل النزول في مقامات أخرى بهمزة التعدية ” أنزل” ولم يرد مسندا في القرآن كله إلا إلى الله وحده سبحانه؛ للدلالة على ابتداء مصدرية الإنزال منه وحده، وأنه أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما صحت الرواية عن ابن عباس في ذلك.
{ٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِیزَانَۗ} [سورة الشورى: 17]
{هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ} [سورة آل عمران: 7]
{إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَاكَ ٱللَّهُۚ} [سورة النساء: 105]
{إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ } (سورة القدر: 1)
التعظيم والتوحيد
ولا يرد تعبير الحق عن نفسه في سياقات الدعوة للتوحيد والعبودية إلا بضمير الإفراد في النظم القرآني، كما قال سبحانه: {إِنَّنِیۤ أَنَا ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِی وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِیۤ} [سورة طه: 14]
فإذا جاء التعظيم والتفخيم في سياق ذكر النعم والمنن منه سبحانه ورد ضمير الجماعة للتعظيم ثم يتبعه في سياقات النظم نفسه ما يدل على الإفراد؛ لينفي أي شائبة إشراك، فعندما قال سبحانه: {إِنَّاۤ أَعۡطَیۡنَـٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} تبعه في السياق دلالة الإفراد بالاسم الظاهر فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ} ولم يقل: فصل لنا؛ للإفراد في سياق العبودية، وإزالة أي شائبة شرك من دلالة الجمع.
وهنا عندما قال سبحانه: {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةِ ٱلۡقَدۡر} تبعه في آيات السورة نفسها دلالة الإفراد بعد جمع التعظيم، قوله تعالى: {بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرࣲ}
التشابه ودقة الاختيار
ومن دقة النظم في السورة مجيء إنّا المؤكدة متصلة بالضمير دون التوكيد بالضمير المنفصل؛ فكان ” {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ في ليلةِ القدر} ولم يكن ” إنا نحن أنزلناه” لأنّ السياق للتعظيم والتفخيم للمنزِل والمنزَل والمنزل فيه، وليس في سياق الإنكار والتكذيب؛ ليحشد التوكيد، فيستعمل الضمير المنفصل بعد المتصل، كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ} [سورة الحجر: 9]، وقوله تعالى: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ تَنزِیلࣰا} [سورة الإنسان: 23].
وذلك أنّ السباق لسياق آية الحجر في ذكر الجحود والإنكار فلزم زيادة التوكيد في هذا المقام، إذ قال سبحانه: {وَقَالُوا۟ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِی نُزِّلَ عَلَیۡهِ ٱلذِّكۡرُ إِنَّكَ لَمَجۡنُونࣱ * لَّوۡ مَا تَأۡتِینَا بِٱلۡمَلَـٰۤئكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ * مَا نُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰۤئكَةَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَمَا كَانُوۤا۟ إِذࣰا مُّنظَرِینَ *) إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ } [الحجر: 6- 9]
واللحاق في آية الإنسان فيها دعوة لنبيه للصبر على أعباء الرسالة وما يلقاه من التكذيب والجحود من الكافرين، فقال: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ تَنزِیلࣰا *فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورࣰا } [سورة الإنسان: 23 – 24 ]، فناسب السياق هناك مزيد التوكيد في البيان ومناسبة المقال لمقتضى الحال.
وقد ورد هذا التعبير من السورة في موضعين مشابهين له في التنزيل، قوله تعالى: {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ نًا عَرَبِیࣰّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ}، وقوله تعالى: {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةࣲ مُّبَـٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِینَ}.
وكلا الموضعين في بيان عظمة القرآن المنزل، بوصفه كتابا مبينا، بعد التصريح به بعودة الضمير. ودل إنزاله مقترنا بالزمن في ليلة على إنزاله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
وفي سورة يوسف ذكر الإنزال دون ظرف الزمان، إشارة إلى مصدر الإنزال أنه من عند الله وحده.
الظرفية والزمان
واستعمل القرآن حرف الظرفية متعلقا بفعل الإنزال دون الظرف المباشر لو قال: إنّا أنزلناه ليلةَ القدرِ، وفيه إيجاز في التعبير مع تضمن الظرف حرف الظرفية فيه، كما هو معلوم في اللسان، والتقدير: أنزلناه في ليلة القدر، لكن البيان المعجز آثر ذكر حرف الظرفية في هذا المقام؛ للدلالة على تمكن الإنزال واستغراقه كل زمن الليلة؛ فكساها كلها شرف الإنزال ورفعة القدر والمكانة، ولو ورد حسب المتوقع لدى البيان البشري، إنّا أنزلناه ليلةَ القدر؛ لكان إخبارا محتملا لظرف الإنزال فحسب، دون تأكيد الشمول والاستغراق للزمان.
ليلة القدر..التحام الزمن بالحدث
ومن العجيب في دقة النظم القرآني ابتكاره هذا التركيب لمسمى ليلة بهذا الوصف دون سابق نظير لها في البيان البشري، ليلة القدر
ولم يقل: ليلة ذات شرف وقدر، فالليلة ظرف زمان مجرد من الحدث، والقدْر مصدر دالّ على الحدث من غير زمن، فالتحم الزمن بالمصدر؛ ليشكل تركيبا إضافيا يدل على القدر نفسه وذاته، وكأنّ الليلة هي القدر والشرف ذاته، لا افتراق بين الزمن والحدث، فهما كالكلمة الواحدة في الدلالة والتركيب!