مر المسلمون في عهد النبي الكريم – ﷺ – بالكثير من الابتلاءات والاختبارات، لكن ما حدث في سقيفة بني ساعدة، يوم اجتماع الأنصار لبحث مسألة قيادة الدولة، فيما المهاجرون مشغولون بالأمر ذاته بالإضافة إلى تجهيز النبي الكريم للدفن، كان من أشد الاختبارات التي مر بها المسلمون.
الابتلاءات والاختبارات السابقة للمسلمين حدثت والنبي الكريم – ﷺ – معهم والوحي ينزل من السماء يبين ما استشكل عليهم. لكن يوم سقيفة بني ساعدة – إن صح التعبير – يمر المسلمون باختبار جدي غير عادي هذه المرة. لماذا؟ لأنهم لأول مرة بدون الرسول الكريم – ﷺ – وبدون دعم السماء.
إن اجتماع السقيفة غير عادي، واختبار حقيقي لخريجي المدرسة المحمدية من المهاجرين والأنصار.. لأول مرة يجدون أنفسهم أمام أمر لابد من الاجتهاد فيه بأنفسهم دون الرجوع للنبي الأكرم – ﷺ – ويعني ذلك أنهم عرضة للخطأ والصواب، فلا مرجعية سماوية فورية عبر الوحي كما كان قبل أيام مضت، بل هكذا الأمر لابد أن يسير من ساعته إلى يوم الدين.. اجتهاد وقياس وإجماع مبني على فهم صحيح للقرآن والسنّة. وهكذا سارت الأمور من يوم السقيفة إلى يوم الناس هذا.
اجتهد الأنصار بعد وفاة النبي الأكرم – ﷺ – وتسارعوا لملء الفراغ الذي تركه في قيادة الدولة وقبل أن تنفلت الأمور، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة للمسلمين منهم، باعتبار موقفهم من الدعوة وحمايتهم ونصرتهم لها منذ البداية، بالإضافة إلى أن دولة الإسلام نشأت وظهرت في مدينتهم وهم أهلها، وبالتالي هم أحق بهذا الأمر من إخوانهم المهاجرين، الذين كانوا بمثابة لاجئين سياسيين، بحسب مصطلحات علم السياسة اليوم، وبالتالي ليس مستساغاً أن يتولى لاجئ سياسي زعامة وقيادة الدولة في وجود أهلها، أو هكذا كان التفكير الأولي لدى الأنصار الكرام.
وبينما بعض كبار المهاجرين منشغلون بالأمر نفسه، وتجهيز النبي الكريم – ﷺ – لدفنه، وصل خبر اجتماع الأنصار لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما وأرضاهما – فقاما من فورهما متجهين إلى مؤتمر الأنصار السياسي. وفي الطريق وجدوا أمين الأمة، أبي عبيدة بن الجراح، فطلبوا منه مرافقتهما، فاتجه العظماء الثلاثة إلى المؤتمر الأنصاري.
فتنة بعدها ردة
دون كثير تفاصيل، يمكن إدراك أمر ذهاب عظماء الإسلام الثلاثة لمؤتمر الأنصار السياسي، كان هدفه التباحث مع الأنصار في مسألة القيادة أو الخلافة، وليس لفرض أو إجبار أمر ما على الآخرين، بدليل أن ثلاثة من المهاجرين فقط يذهب إلى حشد من الأنصار فيهم السادة والأشراف، وهم من هم في الإسلام. حتى إذا ما وصل الثلاثة إلى الاجتماع، ودارت نقاشات بشأن مسألة الخلافة، كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما قُبض رسول الله – ﷺ – قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله – ﷺ – قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.. هذه خطوة أنصارية إيجابية أولى.
الخطوة التالية الإيجابية للأنصار تتضح حين قام أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – بالثناء على الأنصار ودورهم في بناء الدولة ونشر الإسلام والدفاع عنه، وأنهم كما كانوا أول البشر نصرة لدين الله، لا يجب أن يكونوا أول البشر في تفكيك وتصدع الدولة الوليدة. ثم تحدث بعدها إلى مرشح الأنصار للخلافة، سعد بن عبادة – رضي الله عنه – قائلاً له:» لقد علمت يا سعد أن رسول الله – ﷺ – قال وأنت قاعد: ” قريش ولاة هذا الأمر، فبرُّ الناس تبع لبرّهم، وفاجرُهم تبع لفاجرهم. فقال سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء “. هكذا في فقه واضح للأنصار، انتهى الأمر بصدر رحب، لا كما صوره بعض المؤرخين وافتراءاتهم على خير جيل ظهر في الإسلام. وانتهى الأمر في زمن قياسي، اتفق الحاضرون يومها على مبايعة الصديق – رضي الله عنه – خليفة للمسلمين.
لقد حمى الله بفطنة وسياسة وحكمة عظماء الإسلام الثلاثة، أبي وعمر وأبي عبيدة، وفهم عميق لفقه الواقع لدى الأنصار، من شر وفتنة عظيمة كان من الممكن أن تؤدي بالدولة إلى شر وخلاف عظيم. ونحمد الله أن اليهود كان قد انقطع شرهم عن المدينة بعد غزوة الأحزاب، وبالمثل اندثرت أوكار المنافقين بعد هلاك زعيمهم عبدالله بن أبي. ولك أن تتخيل يوم السقيفة، في وجود يهود بني قريظة والمنافقين.
ذكر أحد الصحابة ويدعى ربيعة أن قال للصديق رضي الله عنه: ما حملك أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين؟ قال: لم أجد من ذلك بُداً، خشيت على أمة محمد الفرقة” . وفي رواية أخرى: ” تخوفت أن تكون فتنة تكون بعدها ردة.”
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله
بعد أن بايع المسلمون أبا بكر الصديق – رضي الله عنه وأرضاه – خليفة لهم، معلنين بذلك نجاحهم في التصدي لأكبر فتنة كانت ستعصف بهم، والرسول الكريم لم يدفن بعد، قام فخطب في الناس الخطبة الرئاسية أو البيان الرئاسي الأول الذي يوضح فيه الخطوط العريضة لحكمه، بعد حمد الله والثناء عليه قائلاً: ” أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم “.
اطمأن المسلمون، ” مهاجريهم وأنصاريهم “، لسلامة اختيارهم وأن الصديق هو الشخص المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. كان هو الأصلح لقيادة الدولة في تلك الفترة. وتلك هي النقطة الجوهرية في مسألة القيادة، التي يجب أن تكون للأصلح أولاً، ثم بقية معايير أخرى. يكفي الصديق فخراً أن كان ثاني اثنين في الغار، والوزير الأول لرسول الله – ﷺ – ومات وهو راض عنه. ويكفيه أنه لم يسع للأمر بل دفعه الفاروق بحكمته وسياسته دفعاً لتولي هذا الأمر، فكان نعم الخليفة، وكان الأنصار نعم القوم في حياة الرسول – ﷺ – وبعد مماته. ويكفيهم فخراً إلى يوم الدين حين وصفهم النبي بقوله: ” لولا الهجرةُ لكنت امْرَءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشِعبا لسلكت وَاديَ الأنصَارِ وشِعْبَها “. رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا وإياهم في زمرة النبي الكريم مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقا.